أعظمُ النِّعم الإلهية وجودُ النبيّ أو الإمام المعصوم عليه السلام، لأنّه الأصلُ
لسائر النِّعم الظاهرة والباطنة، ومن هنا ورد في الروايات أنّ جميع الناس يُسألون
عن هذه النعمة يومَ القيامة.
هذا المقال المنتخب من كتاب (مكيال المكارم في فوائد الدعاء للقائم عليه السلام)
تأليف العلامة السيد محمد تقي الأصفهاني رضوان الله عليه، يسلّط الضوء على حقيقة
أنّ شدّة الحساب يوم القيامة، أو يُسْره، يرتبطان بمدى معرفة المحاسَب بإمام زمانه،
واتّباعه إيّاه.
إنّ جميع ما يتقلّب فيه الخَلق من النِّعَم الظاهرة والباطنة إنّما هو ببركة الإمام
الحجّة عليه السلام، وهذا من أعظم ما يُوجب الدعاء له، عجّل الله تعالى فرجه
الشريف. ويدلّ على ذلك، ما في (البرهان) في تفسير قول الله عزّ وجلّ ﴿ثُمَّ
لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾التكاثر:8، عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: «تُسألُ هذه الأمَّة عمَّا أنعَمَ اللهُ عليها بِرَسُولِهِ، ثمَّ بِأَهلِ بَيْتِهِ».
- وعن الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام لأبي خالد الكابليّ من حديثٍ طويل:
«أتدري ما النّعيم؟ قلت: لا، قال: نحن النّعيم».
فإنْ قلتَ: قد ورد في بعض الروايات تفسير النعيم بالأمن والصحة والرطب والماء
البارد، فكيف التوفيق؟
قلت: لا تنافي بين هذه الروايات، لأنّهم عليهم السلام قد ذكروا في كلّ حديث بعض
مصاديق النعيم، وذلك لا يدلّ على حصر النعيم في ما ذُكر بخصوصه، وهذا كان في إثبات
المطلوب.
- وعن الصادق عليه السلام، في حديثٍ قال: «نَحْنُ مِنَ النَّعِيم». نعم أعظم النعم
الإلهية وجود الإمام عليه السلام، لأنّه الأصل لسائر النعم الظاهرة والباطنة، ومن
هنا قد ورد في الروايات أنّ جميع الناس يُسألون عنه يوم القيامة.
وأمّا الغذاء الطيّب والماء البارد ونحوهما، فالله تعالى لا يسأل عنها عبده المؤمن،
كما في عدة روايات، والحاصل أنّ كلّ أحدٍ يُسأل يوم القيامة، عن هذه النعمة
العظيمة، أعني النبيّ والأئمّة وولايتهم عليهم السلام، فإنْ كان من الشاكرين
الموالين لهم كان من الفائزين، ولم يُسأل عمّا عدا هذه النعمة، وإن كان من الكافرين
المعاندين سُئل عن جميع ما أُنعم عليه من النعم وحوسب على دقيقها وجليلها، وهذا
معنى المناقشة في الحساب، وقد يعبَّر عنه بسوء الحساب.
وبهذا الذي ذكرنا يجمع بين الروايات المتعارضة بظواهرها، حيث إنّ بعضها يدلّ على
أنّ الله تعالى أَجَلُّ من أن يسأل عبده عمّا يُنعم عليه من مطعمه ومشربه ونحوهما،
وبعضها يدلّ على أنّ في حلالها حساب.
وتوضيحه: أنّ وقوع الحساب يوم القيامة حقٌّ دلّ عليه القرآن، ولكنّ الناس في ذلك
على أصناف؛ منهم مَن يُعفى عنه، ولا يحاسَب أصلاً وهذا لا ينافي الآيات الدالّة على
وقوع الحساب، لأنّها قضايا مطلقة قابلة للتقييد والتخصيص.
- ففي (تفسير القمي) عن الصادق عليه السلام، قال: «كلُّ أمّةٍ يُحاسِبُها إمَامُ
زَمَانِهَا، يَعْرِفُ الأئمَّةُ أوْلِياءَهُم وَأَعداءَهُم بِسِيماهم، وهو قولُه:
﴿..وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ..﴾ الأعراف:46، وهُم الأئمَّة، يَعرفون كلاً
بِسِيماهم فيُعطون أولياءَهَم كتُبهم بأيْمَانِهم فيمرُّونَ إلى الجَنَّةِ بِلا
حِسابٍ، ويُعطُون أعداءَهُم كُتُبهم بشمالهم فيَمرُّونَ إلى النَّارِ بِلا حِسَاب».
- وفيه عن أبي جعفر عليه السلام، في قوله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ..﴾ يونس:26: «فأمَّا الحُسْنَى فالجنّة، وأمَّا الزّيادة
فالدُّنيا؛ ما أعْطَاهُمُ اللهُ في الدُّنيا لَمْ يُحَاسِبهُم بِهِ فِي الآخِرَة».
وهذا الصنف هم المؤمنون الذين لم يصرفوا ما أعطاهم الله تعالى من النِّعم في
سَخَطِه تعالى، وأدّوا شكر نعمة وجود الإمام وولايته حقّ أدائها.
وصنفٌ آخر: هم الذين يحاسبون لكن يعفو الله ويصفح عنهم ويتجاوز عن سيّئاتهم،
ويحاسبهم بنحوٍ لا يُطلع عليه أحداً من الخَلق، أو يحاسبهم إمامُهم كذلك، وهم
المؤمنون الذين عرفوا تلك النعمة العظيمة، لكن صرفوا سائر ما أنعم الله عليهم أو
بعضها في سخط الله تعالى، فيحاسبهم الله عزَّ وجلَّ لكن لا يطالبهم بقيمة نعمه
عليهم بل يعفو عنهم.
- وفيه عن (أمالي) الشيخ الطوسي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في قوله تعالى:
﴿..فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا
رَحِيمً﴾ الفرقان:70، قال: «يُؤتى بالمؤمن المُذنب يوم القيامة، حتّى يُقام بموقف
الحساب، فيكون الله تعالى هو الذي يتولّى حسابَه، لا يُطلِع على حسابه أحداً من
الناس، فيعرِّفه ذنوبَه حتّى إذا أقرّ بسيّئاته قال الله عزّ وجلّ للكَتبة:
بَدِّلوها حسنات، وأظهِروها للناس. فيقول الناس حينئذٍ: ما كان لهذا العبد سيّئةٌ
واحدة! ثمّ يأمرُ الله به إلى الجنّة، فهذا تأويل الآية، وهي في المُذنبين من
شيعتنا خاصّة».
- وفيه عن (العيون) بإسناده عن إبراهيم بن العبّاس الصولي قال: «كنّا يوماً بين
يدَي عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، فقال: ليسَ في الدُّنيا نعيمٌ حقيقيّ.
فقال له بعض الفقهاء ممّن حضره، فيقول الله عز وجل: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ
يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ أما هذا النعيم في الدنيا وهو الماء البارد.
فقال له الرضا عليه السلام وعلا صوتُه: كذا فسَّرتُمُوه أنتم، وجعلتُموه على
ضروب... إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ لَا يَسْألُ عِبَادَهُ عمَّا تفضَّلَ عليهِم بِه،
ولا يَمنُّ بِذلكَ عليهِم، والامْتِنَانُ بِالإنعامِ مُسْتَقْبَحٌ مِنَ
المَخْلُوقِينَ، فَكيْفَ يُضَافُ إلى الخَالِقِ عَزَّ وجَلَّ ما لا يُرضى
لِلمَخلوقِينَ بِهِ، وَلَكنَّ النّعيمَ حُبُّنا أَهْل البيت وموالاتُنا، يسألُ
اللهُ عَنْهُ بَعْدَ التَّوحيد والنُّبُوَّة..».
- والصنف الثالث من الناس هم الذين يُسألون عن جميع ما أنعم عليهم قليلاً كان أو
كثيراً، دقيقاً كان أو جليلاً، حتّى الرطب والماء البارد وغيرهما. ولا يُغفر لهم
ولا يصفح عنهم وهم الذين لم يستجيبوا لله تعالى في أداء شكر تلك النعمة العظيمة،
التي هي ولاية الإمام ووجوده عليه السلام.
- والصنف الرابع: هم الذين قال في حقّهم سيّد الساجدين عليه السلام: «واعْلَمُوا
أَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ لا تُنْصَبُ لَهُم المَوَازِين، وَلَا تُنْشَرُ لَهُم
الدَّوَاوين، وإنَّمَا يُحْشَرُون إلى النَّارِ زُمَراً..».
ومن تتبَّع في الأخبار حقّ التّتبُّع وتدبّر فيها حقَّ التّدبُّر، أذعن بهذا
التحقيق.
ذلك في الآخرة، أمّا في الدنيا ثمّ إنّ لِنعمه صلوات الله عليه خصوصيّة في زمان
ظهوره، وانتشار نوره كما وردت به الأخبار:
- فمنها: عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، قال: «تَتَنَعَّمُ أُمَّتِي فِي زَمَنِ
المَهْدِيّ نِعْمَةً لَمْ يَتَنَعَّمُوا مِثْلَها قَطّ، يُرْسِلُ السَّمَاءَ
علَيْهِم مِدْرَاراً، وَلَا تَدَعِ الأرْضُ شَيْئاً مِنْ نَبَاتِها إِلَّا
أَخْرَجَتْهُ».
- ومنها: عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «ثُمَّ يَعُودُ المَهْدِيُّ إلى
الكُوفَة، وَتُمْطِرُ السَّمَاءُ بِهَا جراداً مِن ذَهَبٍ، كَمَا أَمْطَرَهُ اللهُ
فِي بَنِي إسرائِيل عَلَى أَيُّوب، ويُقَسِّمُ عَلَى أَصْحَابِهِ كُنُوزَ الأرْضِ
مِنْ تِبْرِهَا ولُجَيْنِها وَجَوْهَرِهَا..». (مختصر)