من مكارم الله تعالى على العالمين أنْ خصَّهم بالنبيّ الخاتم وورَثَته من الأوصياء،
والأئمّة، والعلماء الربّانيّين. وذلك لكي يبيّن لهم الحجّة البالغة التي بها
يُدركون سعادتهم الدنيوية، وخلاصهم الأُخرويّ. والحجّة البالغة هي المقصد الأعلى
للنبوّة الخاتمة التي قال النبيّ الأكرم فيها بأنّها تمام مكارم الأخلاق. ولئن كانت
الحقيقة المحمّدية هي الترجمة الإلهية للتطابق بين سنّة التكوين وسنّة التشريع،
فتمامُ مكارم الأخلاق إنّما هو حاصل هذا التطابق المُفضي إلى وحدة الغَيب والشهادة.
ويُحقّق هذه الوحدة قيامُ الأوصياء والأولياء بعد ختم النبوّة بمهمّة استكمال رسالة
الوحي في التاريخ البشري وإعمار الأرض، على نصاب القسط والعدل. فالسعادة التامّة
الخالصة – كما يبيِّن الحكماء - هي مهمّة يتولاَّها أهل القرب من الحضرة الإلهية.
وهؤلاء هم الذين جمعوا صراط التكوين إلى صراط التشريع، فكانت لهم مكارم الأخلاق
نقطة الجمع والالتقاء، لينجز الله بوساطتهم سعادة الدارين.
ولمّا كان الصراط التكويني هو الهندسة الإلهية الكلّية لنظام الكون، وهو النظام
الحافظ للوجود والمحيط بكلّ شيء، فإنّ الصراط التشريعيّ هو الوحي الذي تنزّل على
قلب النبيّ وظهر في قوله وعمله، ليُنظّمَ (الوحي) حياة الإنسان، ويبيّنَ له الحدود
الفاصلة بين الخير والشرّ، وبين الجميل والقبيح. ولأنّ الصراطين يعودان إلى أصلٍ
واحد، هو وحي الله إلى نبيّه الخاتم، فقد تجلّى هذا الأصل بالختم والفتح معاً. فهو
ختمٌ للنبوّة الظاهرة. وفتحٌ للنبوّة الباطنة، وهو الولاية الحافظة لأمر الله ووحيه
وسُنّة نبيّه، وهي المتمِّمة من بعده مكارمَ الأخلاق التي بُعث من أجلها.
يُجمع العلماء الربّانيون على أنّ الولايةَ تظهيرٌ مستأنَف لباطن النبوّة. وبهذا
التظهير تكتمل الهندسة المعرفية التي تترجم الحضور الإلهيّ في الزمن البشريّ. ولئن
كان الاستئناف دالّاً على حركةٍ بعد توقّف - لغةً واصطلاحاً - فهو في جدليّة
العلاقة بين النبوّة والولاية يتّخذ معناه الخاصّ، ليشير إلى التواصل الباطنيّ الذي
ما انفكّ بُرهةً عن الفعل. فَمَثلُ هذا التواصل كَمَثلِ حركةٍ في الجوهر تنتظر مَن
يدفعها إلى الظهور لتقوم بمهمّة توصيل معارف الوحي ومقاصد الشريعة إلى الأفهام على
امتداد الأزمنة المتعاقبة. ولمّا ذهب الأئمّة عليهم السلام وأكابرُ العرفاء إلى
التأسيس على هذه الحقيقة، كانوا على يقينٍ لا شُبهةَ فيه، من أنّ حقيقة الإيمان
بالتوحيد يعادلُ الإقرار بالولاية، وأنّ التوحيد والولاية أمران لا ينفصلان، وأنّ
الولاية هي الدليل على تجلّي الأسماء والصفات والأفعال الإلهية في كلّ طَورٍ من
أطوار التوحيد.
تبعاً لما ذُكر تكون الولاية عنصراً ذاتيّاً من عناصر ختم النبوّة. فالوليّ هو
خليفة النبيّ، ومبيّنُ الشريعة من بعده، وهو الذي يتولّى صيرورة الدين الخاتم - بعد
ارتحال نبيّه - إلى غاياته ومقاصده. بل إنّه يؤكد بتبنِّيه لأحكام الدين، استمرار
الصِّلة بعالم الغيب في عهد انقضاء النبوّة. ولأجل ذلك تحظى الوراثة النبويّة التي
للوليّ والوصيّ بدورِ حلقة الوصل بين الحقّ والخَلق.
والتأسيسُ الرحمانيّ للولاية، حاضرٌ بالمجمل في الخطاب الإلهي: ﴿إِنَّمَا
وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ المائدة:55، وفي التفسير أنّ الولاية هي
لله بالأصالة، وللرسول وللمؤمنين بالتبَع. فيكون التقدير كما في التفسير: ﴿إِنَّمَا
وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ..﴾ ليكون في الكلام أصلٌ وتبَع.
ولا يخفى على المتأمّل أنّ المآل واحد.
ولمّا كانت الولاية واحدةً ذات مراتب وفقاً لمبدأ التراتب الطولي القرآني، فلَسوف
تكتسب منازلُها المتعدّدةُ صفةَ الأصالة المُفاضة عليها من لدُن الوليّ الأعظم
تعالى.
وتبعاً للإخبار الإلهي في ما جاءت به آية الولاية، سنكون أمام هرم وجوديّ يتوقّف
على فهمه وإدراك معانيه، عرفانُ جميلِ صُنع الله ولطفه بخلقه.
من هذا النحو تتمظهر منازل الولاية على ثلاث مراتب وجودية هي: ولاية الله – ولاية
النبيّ – ولاية الوليّ.
المرتبة الأولى - ولاية الله: وهي الولاية الحقيقيّة المطلقة، وتكون بالأصالة للوليّ
الواحد الأحد على العالمِين. وفي القرآن المجيد من الآيات البيّنات ما يشير إلى
الأصالة الإلهيّة لولاية الله. وأنّ الله تعالى سمّى ذاته المقدسة بالوليّ لأنه
المهيمن بأسمائه وصفاته على كلّ شيء كما في قوله تعالى: ﴿..مَا لَهُم مِّن دُونِهِ
مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدً﴾ الكهف:26.
وقوله: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ..﴾
الشورى:9، فالولاية له تعالى خاصّة على الناس أجمعين، وهو الذي يعيّن للناس مَن
يتولّى أمورهم.
المرتبة الثانية - ولاية النبيّ: وهي من الله. أي إنّها امتدادٌ لولايته تعالى ومن
أمره. ولأنّ ولايته تعالى محيطةٌ بكلّ شيء، ومدبّرةٌ لنظام الخلق، وبسُنَنِها تنتظم
هندسة الكون، فولاية النبي الخاتم، صلّى الله عليه وآله، المستمدّة من الرحمانية هي
- بهذه الصفة الاستمدادية - ولاية للعالمين. ولكونها كذلك، فهي ظهورٌ لمشيئة الله
وإرادته في عالم الإنسان: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾
الأنبياء:107. فهي، إذاً، رسالة لجميع الناس وولاية الرسول حاكمة على العالمين،
ومظهِرةٌ للدين القيّم. كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً
لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا..﴾ سبأ:28.
المرتبة الثالثة - ولاية الوليّ: وهي متّصلة بالولايتَين الأولى والثانية، وبها
تتجلّى الحقيقة المحمّدية في عالمَي الغيب والواقع، ومن خلالها يكشف الحقّ عن
عنايته بشؤون الخلق. فإنّ أولياءه هم المكلَّفون بالمعاينة والمتابعة وحفظ الكتاب.
وولاية الوليّ مصرَّحٌ عنها في القرآن الكريم بوجود شاهدٍ على المسلمين يتلو رسولَ
الله: ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ
مِّنْهُ..﴾ هود:17.
ومعنى «يتلوه» أي يخلُفه، ومعنى خلافته له هو قيامه مقامَه في كلّ شيء ما خلا
النبوّة التي خُتمت به صلّى الله عليه وآله. ولقد عيّن الله سبحانه هذا الشاهد
بالإشارة والوصف، فوصفه تارة بأنّه من رسول الله كما في الآية. ووصفه تارة أخرى،
بأنّ عندَه – أي الوليّ - مِن عندِه، جلّ شأنه، عِلْمَ الكتاب، كما في الآية:
﴿..قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ
الْكِتَابِ﴾ الرعد:43. وبهذا التقدير الإلهيّ سنجد كيف يحدّد القرآن الكريم الإطار
المعرفيّ لحركة الإنسان في الزمان التاريخي. وهو ما تظهره الآية: ﴿يُرِيدُ اللهُ
لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ
عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾النساء:26.
وإذا كانت المعرفة البشرية قد وضعت فهمَ التاريخ وحركته ضمن جدالية الحرية
والضرورة، فقد انطوت الآيات على قوانين مقدّرة في إطار السنن الإلهية الكلية التي
لا تقبل التبديل والتحويل.
من أجل ذلك لاحظنا كيف أنّ الآيات تختزن المقاصد الإلهية في البيان والبرهان
والتعليم والتنبيه والتبشير والإنذار. وهذه المراتب كلُّها على الجملة تجتمع في
المقصد الأعلى الذي هو الهداية بمكارم الأخلاق. وبهذا نستطيع فهم مندرجات التدخّل
الإلهي في تاريخ الخلق. وهو تدخّلٌ يقوم على الدعوة إلى إدراك الواقع بما هو واقع،
مثلما يقوم على الحثِّ الإلهي نحو تغيير هذا الواقع.
وقد يكون الوجهُ الأكثر دلالةً وعُمقاً للتدخّل الإلهي هو الاعتناء والتدبير
واللطف. فالدعوة الإلهية إلى التغيير التاريخي غير مقصورة على توفير عامل القوّة
لدرء الفساد في الأرض، وإنّما أساساً على دعوة الإنسان إلى إجراء مراجعة أخلاقية
معرفية في عالم المفاهيم والأفكار والثقافة التي يحملها. كما في قوله تعالى:
﴿..إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا
بِأَنفُسِهِمْ..﴾ الرعد:11. وما ذاك إلّا لأنّ النقلة الحضارية من دائرة الفساد إلى
فضاء العمران لا تبلغ غايتها من دون سياق تفكيري وسلوكي وأخلاقي يناسب ما قصدته
الآية الكريمة: ﴿..إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾
محمد:7، كما لو أنّ ثمّة تقابلاً شرطياً بين الانتصار لله والانتصار للخلق.
ولمّا كان الأمر كذلك، فإنّ مقتضى هذا التقابل الشرطي يكون في تحصيل التناسب بين
إرادة الفاعل واستعداد القابل. وما ذاك أيضاً إلّا لأنّ التناسب والقيام على الصراط
هو الذي يُنجز العروة الوثقى بين الربّ والعبد. فلو تعقّل العبدُ اجتماعَه وقانونَ
الزمن الذي هو فيه، وعمل وفقاً لأحكام الشريعة المقدّسة، وكان من المتّقين،
لقابَلَه الشارع الأعظم بالاستجابة، وسدّد أعمالَه، وأيّده بالنصر.
* مجلة شعائر