البشرية مرهونة للزهراء عليها السلام:
لا تنحصر فيوضات السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام، بمجموعة صغيرة تُحسب كمجموعة
محدودة في مقابل مجموعة الإنسانيّة. لو أنّنا نظرنا بنظرة واقعيّة ومنطقيّة، فإنّ
البشريّة مرهونة لفاطمة الزهراء عليها السلام، وليس هذا جزافاً، إنّها حقيقة، كما
أنّ البشريّة مرهونة للإسلام والقرآن ولتعاليم الأنبياء، عليهم السلام، والنبيّ
الخاتم، صلّى الله عليه وآله وسلّم. وقد كان هذا الأمر دوماً على مرّ التاريخ وهو
اليوم كذلك، وسوف يزداد تألّق نور فاطمة الزهراء عليها السلام، وسوف تتلمّس
البشريّة ذلك.
إنّ هذا الخير الكثير الّذي أعطاه الله تعالى، في سورة الكوثر المباركة كبشارة
للنبيّ الأكرم، صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال:
﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ
الْكَوْثَرَ﴾، حيث إنّ تأويله هو فاطمة الزهراء عليها السلام.
في الحقيقة هي مجمع جميع الخيرات الّذي سوف تتنزّل يوماً بعد يوم من منبع الدين
النبويّ على كلّ البشرية والخلائق. لقد سعى الكثيرون من أجل إخفائه وإنكاره،
ولكنّهم لم يتمكّنوا:
﴿..وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾
الصف:8.
في رواية أنّ سطوع نور فاطمة الزهراء، عليها السلام، أدّى إلى أن تنبهر عيون
الكروبيّين من الملأ الأعلى، «زَهَرَ نُورُهَا لِمَلائِكَةِ السَّمَاءِ».
أوجُ الملكوت الإنسانيّ:
في مثل هذا العالم، ربّى النبيّ الأكرم بنتاً صارت لائقةً بأن يأتي رسول الله، صلّى
الله عليه وآله وسلّم ويقبّل يدها! إنّ تقبيل يد فاطمة الزهراء، عليها السلام، من
قِبل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لا ينبغي أن يؤخَذ أبداً على معنىً عاطفيّ.
فهذا أمرٌ خاطئٌ جدّاً. (أي) لو تصوّرنا أنّه يقبّل يدها فقط لأنّها ابنته ولأنّه
يحبّها.
فهل شخصيّةٌ بمثل هذه العظمة، وبمثل تلك العدالة والحكمة، (وهي شخصيّة النّبيّ)
الذي كان يعتمد على الوحي والإلهام الإلهيّ ينحني ويقبّل يد ابنته (فقط لأنها
ابنته)؟ كلّا، إنّ هذا أمرٌ آخر وله معنىً آخر؛ إنّه يحكي عن أنّ هذه الفتاة وهذه
المرأة عندما ترحل من هذه الدنيا في عمر 18 أو 25... تكون في أوج الملكوت الإنسانيّ
وشخصاً استثنائيّاً.
تقود مؤمنات الأمّة إلى الجنّة:
أمّا المقام المعنويّ لهذه السيّدة العظيمة، بالنسبة إلى مقامها الجهاديّ والثوريّ
والاجتماعيّ، فهو أعلى بدرجات. فاطمة الزهراء، عليها السلام، في الظاهر هي بصورة
بشر، وامرأة، وامرأة شابّة أيضاً؛ ولكنّها في المعنى هي حقيقةٌ عظيمة ونورٌ إلهيٌّ
ساطع، وعبدٌ صالح، وإنسانٌ مميّز ومصطفى.
هي شخصٌ قال فيه الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم لأمير المؤمنين عليه
السلام: «يَا عَلِيُّ! أَنْتَ إِمامُ أُمَّتي وَخَليفَتي عَلَيْها مِنْ بَعْدي،
وَأَنْتَ قائِدُ المُؤْمِنينَ إِلى الجَنَّةِ، وَكَأَنّي أَنْظُرُ إِلى ابْنَتي
فاطِمَةَ قَدْ أَقْبَلتْ يَوْمَ القِيامَةِ عَلى نَجيبٍ مِنْ نورٍ؛ عَنْ يَمينِها
سَبْعونَ أَلْفَ مَلَكٍ، وَعَنْ يَسارِها سَبْعونَ أَلْفَ مَلَكٍ، وَبَيْنَ
يَدَيْها سَبْعونَ أَلْفَ مَلَكٍ، وَخَلْفَها سَبْعونَ أَلْفَ مَلَكٍ. تَقودُ
مُؤْمِناتِ أُمَّتي إِلى الجَنَّةِ..»، (...) فهي عِدْلُ أمير المؤمنين عليه
السلام. هي الّتي إذا وقفت في محراب العبادة، فإنّ آلاف الملائكة المقرّبين لله
يخاطبونها، ويسلّمون عليها، ويهنّئونها، ويقولون لها ما كانوا يقولون في السابق
لمريم الطاهرة عليها السلام:
﴿.. يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ
وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ آل عمران:42، هذا هو المقام المعنويّ
لفاطمة الزهراء عليها السلام...
لا يعرف مقامها إلا المعصوم:
توجد نقطةٌ في حياة الزهراء المطهّرة، عليها السلام، يجب الالتفات إليها، علماً
أنّنا لن ندخل في بيان المقامات المعنويّة لهذه السيدة الجليلة، ولسنا قادرين على
إدراك هذه المقامات وفَهمها. وفي الحقيقة إنّ أوج قمّة المعنويّة الإنسانيّة
والتكامل البشريّ (هي في عِلم) الله تعالى وحده، هو سبحانه الذي يعرف هؤلاء العباد
ومن هم بمستواهم ويرى مقامهم.
لهذا ما كان يعرف فاطمة الزهراء، عليها السلام، سوى أمير المؤمنين عليه السلام
وأبيها صلّى الله عليه وآله وسلّم وأولادها المعصومين عليهم السلام.
الناس في ذلك الزمان والأزمنة اللاحقة، ونحن في هذا الزمن، لا يمكننا أن نشخّص ذلك
التألّق والتلألؤ المعنويّ الّذي كان موجوداً فيها. فنور المعنويات الساطع لا يمكن
أن يصل إلى عين أيّ أحد، وتعجز عيوننا الضعيفة والقاصرة عن أن ترى تجلّي الإنسانيّة
الساطع الّذي كان موجوداً في هؤلاء العظماء. (..)
خطبتها عليها السلام في المسجد النبويّ:
تلك الخطبة الّتي ألقتها فاطمة الزهراء، عليها السلام، في مسجد المدينة بعد رحيل
النبيّ صلّى الله عليه وآله، هي خطبة، بحسب كلام العلامة المجلسيّ، يجب على فطاحل
الفصحاء والبلغاء والعلماء أن يجلسوا ويفسّروا معاني كلماتها وعباراتها؛ فهي من
العمق بحيث إنّها بلحاظ جمالية الفنّ، كأجمل وأعلى كلمات نهج البلاغة. (..).
الجار ثمّ الدار:
كانت عبادة فاطمة الزهراء، عليها السلام، عبادة نموذجيّة. يقول الإمام الحسن
المجتبى عليه السلام إنّ أمّه وقفت تعبد الله في إحدى الليالي - ليلة الجمعة
«حَتَّى انْفَجَرَ عَمودُ الصُّبْحِ». وأنه عليه السلام سمعها تدعو دائماً للمؤمنين
والمؤمنات، وتدعو للناس ولقضايا المسلمين العامة، وعند الصباح قال لها: «يا أُمّاهُ
أَما تَدْعينَ لِنَفْسِكِ كَما تَدْعينَ لِغَيْرِكِ؟ فَقالَتْ: يا بُنَيَّ الجارُ
ثُمَّ الدَّارُ».ويقول الحسن البصريّ الّذي كان أحد العبّاد والزهّاد المشهورين في
العالم الإسلاميّ، حول فاطمة الزهراء عليها السلام: إنّ بنت النبيّ عبدت الله ووقفت
في محراب العبادة حتّى «تَوَرَّمَتْ قَدَماها». (..)
ـ الإمام السيّد علي الخامنئي دام ظلّه