البرزخ في اللّغة: هو الحاجز بين الشّيئَين، وأُطلق على الحالة التي تكون بين الموت
والبعث؛ قال تعالى: ﴿..وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾
المؤمنون:100، وهي مدّة مفارقة الرّوح لهذا الجسد المحسوس إلى وقت البعث وعودها
إليه، ويُطلق على القبر بهذا الاعتبار.
روى ثقة الإسلام في (الكافي) بإسناده عَنْ عَمْرِو بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: «قُلْتُ
لأَبِي عَبْدِ الله عليه السلام: إِنِّي سَمِعْتُكَ وأَنْتَ تَقُولُ كُلُّ
شِيعَتِنَا فِي الْجَنَّةِ عَلَى مَا كَانَ فِيهِمْ، قَالَ:صَدَقْتُكَ، كُلُّهُمْ
واللهِ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّ الذُّنُوبَ كَثِيرَةٌ
كِبَارٌ، فَقَالَ: أَمَّا فِي الْقِيَامَةِ فَكُلُّكُمْ فِي الْجَنَّةِ بِشَفَاعَةِ
النَّبِيِّ الْمُطَاعِ أَوْ وَصِيِّ النَّبِيِّ، ولَكِنِّي، واللهِ، أَتَخَوَّفُ
عَلَيْكُمْ فِي الْبَرْزَخِ، قُلْتُ: ومَا الْبَرْزَخُ؟ قَالَ: الْقَبْرُ مُنْذُ
حِينِ مَوْتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
في معنى «إضاءة» ظلماتِ البَرزخ:
الأوّل: في هذه الفقرة من الدّعاء دلالةٌ على بقاء النفوس الناطقة بعد خراب
الأبدان، لأنّ الإضاءة المطلوبة ليست إلا للّروح، وإلّا فالجسم يضمحلّ ويستحيل، وهو
مذهب أكثر العقلاء من الملّيّين والفلاسفة القائلين بأنّ الرّوح جوهرٌ مجرَّدٌ أبديّ
لا يعتريه الزّوال، ولا يتطرّق إليه الاختلال، ولم ينكره إلّا شِرذمة قليلون،
كالقائلين بأنّ النّفس هي المزاج، أو الدّم، وأمثالهم ممّن لا يُعبَأ بهم، ولا
يُلتفت إلى أقوالهم، والشّواهد العقليّة والنّقليّة على ذلك أكثر من أن تُحصى،
ويكفي في ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ
أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا
آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا
بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ آل
عمران:169-170.
الثّاني: «الباء» في قوله عليه السّلام «يُضِيءُ.. بِه»، إمّا للسببيّة أو للآلة،
ثمّ الظاهر أنّ المراد بالإضاءة به أن يصير الحمدُ جسماً متكيّفاً بالضّوء تُشرق به
الظلمات البرزخيّة، كالشّمس المشرقة التي تشرق بضوئها الظلماتُ الزمانيّة، بناءً
على ما هو الصحيح من تجسّم الأعمال والاعتقادات في تلك النّشأة، كما دلّ عليه كثير
من الأخبار المرويّة عن أرباب العصمة عليهم السّلام؛ فالأعمال الصّالحة والاعتقادات
الصّحيحة تظهر صوراً نورانيّة مشرقة يستضيء بنورها أصحابها، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ
تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَبِأَيْمَانِهِمْ..﴾ الحديد:12. وفي الخبر: «إنَّ العَمَلَ الصَّالِح يُضِيءُ
قَبْرَ صَاحِبِهِ كَمَا يُضِيءُ المِصْباحُ الظُّلْمَةَ».
والأعمال السيّئة والاعتقادات الباطلة تظهر صوراً ظلمانيّة كاسفة، يتحيّرُ في
ظُلَمها أربابُها، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ
وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ
ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا..﴾ الحديد:13. وقال عليه السّلام: «الظُّلمُ
ظُلُماتٌ يَوْمَ القِيامَةِ». فيكون المراد بظلمات البرزخ أيضاً الأعمال
والاعتقادات المظلمة.
والمراد بإضاءتها حينئذٍ: إمّا محوها وإذهابها، كما قال تعالى: ﴿..إِنَّ
الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ..﴾ هود:114، أو تبديلها حسنات، كما قال
سبحانه: ﴿..فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ..﴾ الفرقان:70...
الثّالث: قال بعضهم: «لا يبعد أن يُحمَل البرزخ على الوجود في عالم الشّهود، أعني
الوجود الحسّي كما يطلق عليه المحقّقون من الصوفيّة؛ فيقولون: الموجودات في غواسق
برزخيّة، ووجه الإطلاق أنّهم ارتقوا عن فناء العدم الصرف، وما اتّصلوا بالوجود
البحت الأبديّ، ولم يصلوا إلى ساحته فكانوا بينَ بين، وتعدّد الظلمات حينئذٍ
باعتبار ظُلمة الإمكان والاحتياج والمادة، وبقيّة آثار ظلمة العدم، إلى غير ذلك».
قال: «وزعمي أنّ حمل كلام المعصوم، عليه السّلام، على هذا الوجه اللَّطيف أبهى
وأحرى من حمله على المعنى السّابق، ولا سيّما بقرينة ما سيذكره عليه السّلام في
الفقرة التي تليه من تسهيل سبيل المبعث الشّامل للقبر، بل هو مساوقٌ له، وفي الفقرة
التي بعدها من شرف المنازل الحاصل في يوم المبعث لئلّا يكون فيه شائبةٌ من التكرار»
انتهى.
قلتُ: بل هو بعيدٌ جدّاً.
أمّا أوّلاً: فحملُ كلامه عليه السّلام على مصطلح الصوفيّة ممّا لا يقبله العقل
السّليم والطبع المستقيم.
وأمّا ثانياً: فلأنّه قد تكرّر في كلامهم، عليهم السّلام، تفسير البرزخ بزمان القبر،
كما تقدّم في الحديث السّابق عن الصّادق عليه السّلام. وعنه عليه السّلام أيضاً: «وَاللهِ
ما أَخافُ عَلَيْكُمْ إِلَّا البَرْزَخ، وَأَمّا إِذا صارَ الأَمْرُ إِلَيْنا
فَنَحْنُ أَوْلَى بِكُمْ».
وقال عليه السّلام في قوله تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا
وَعَشِيًّا..﴾ غافر:46: «هَذا فِي نَارِ البَرْزَخِ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ».
فإذا ورد البرزخ في كلامهم عليه السّلام بهذا المعنى، فحملُه على ما لا يُعرَف لغةً
وعرفاً شائعاً في نهاية البعد...
روايات عن صفة أرواح المؤمنين في البرزخ:
دلَّت الأخبار المنقولة عن الأئمّة الأطهار، صلوات الله وسلامه عليهم أنّ
الأرواح بعد مفارقتها الأبدان العنصريّة تتعلَّق بأشباح مثاليّة تشابه تلك الأبدان،
وهذا التعلُّق يكون في مدّة البرزخ، فتَتنعّم أو تتألَّم بها إلى أن تقوم السّاعة،
فتعود عند ذلك إلى أبدانها كما كانت عليه.
روى ثقة الإسلام في (الكافي) بإسناده عن أبي بصير، قال: «سألتُ أبا عبد الله عليه
السّلام عن أرواح المؤمنين، فقال: في الجَنَّةِ عَلى صُوَرِ أَبْدانِهِم، لَوْ
رَأَيْتَهُمْ لَقُلْتَ فُلانٌ»...
وعن يونس بن الظبيان قال: «كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ الله عليه السّلام، فَقَالَ:
مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقُلْتُ: يَقُولُونَ تَكُونُ
فِي حَوَاصِلِ طُيُورٍ خُضْرٍ فِي قَنَادِيلَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَقَالَ أَبُو
عَبْدِ الله عليه السلام: سُبْحَانَ الله، الْمُؤْمِنُ أَكْرَمُ عَلَى الله مِنْ
أَنْ يَجْعَلَ رُوحَهُ فِي حَوْصَلَةِ طَيْرٍ. يَا يُونُسُ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ
أَتَاه مُحَمَّدٌ صلّى اللهُ عَلَيه وَآلِه، وعَلِيٌّ وفَاطِمَةُ والْحَسَنُ
والْحُسَيْنُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، والْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ، عَلَيْهِمُ
السَّلامُ، فَإِذَا قَبَضَهُ اللهُ، عَزَّ وجَلَّ، صَيَّرَ تِلْكَ الرُّوحَ فِي
قَالَبٍ كَقَالَبِهِ فِي الدُّنْيَا، فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، فَإِذَا قَدِمَ
عَلَيْهِمُ الْقَادِمُ عَرَفُوهُ بِتِلْكَ الصُّورَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي
الدُّنْيَا».
وعن حبّة العرَني، قال: «خَرَجْتُ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السّلام إِلَى
الظَّهْرِ، فَوَقَفَ بِوَادِي السَّلَامِ كَأَنَّه مُخَاطِبٌ لأَقْوَامٍ. فَقُمْتُ
بِقِيَامِه حَتَّى أَعْيَيْتُ، ثُمَّ جَلَسْتُ حَتَّى مَلِلْتُ، ثُمَّ قُمْتُ
حَتَّى نَالَنِي مِثْلُ مَا نَالَنِي أَوَّلاً، ثُمَّ جَلَسْتُ حَتَّى مَلِلْتُ،
ثُمَّ قُمْتُ وجَمَعْتُ رِدَائِي، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي قَدْ
أَشْفَقْتُ عَلَيْكَ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ فَرَاحَةَ سَاعَةٍ، ثُمَّ طَرَحْتُ
الرِّدَاءَ لِيَجْلِسَ عَلَيْه، فَقَالَ لِي: يَا حَبَّةُ، إِنْ هُوَ إِلَّا
مُحَادَثَةُ مُؤْمِنٍ أَوْ مُؤَانَسَتُهُ.
قَالَ: قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وإِنَّهُمْ لَكَذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ،
ولَوْ كُشِفَ لَكَ لَرَأَيْتَهُمْ حَلَقاً حَلَقاً مُحْتَبِينَ
يَتَحَادَثُونَ.فَقُلْتُ: أَجْسَامٌ أَمْ أَرْوَاحٌ؟ فَقَالَ: أَرْوَاحٌ، ومَا مِنْ
مُؤْمِنٍ يَمُوتُ فِي بُقْعَةٍ مِنْ بِقَاعِ الأَرْضِ إِلَّا قِيلَ لِرُوحِه
الْحَقِي بِوَادِي السَّلَامِ، وإِنَّهَا لَبُقْعَةٌ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ»...
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدّا.
«البرزخ» واسطة بين عالَمَين:
قال العلّامة البهائي العامليّ قدّس سرّه: «ما تضمّنته هذه الأحاديث من أنّ
الأشباح التي تتعلَّق بها النّفوس ما دامت في عالم البرزخ ليست بأجسام، وأنّهم
يأكلون ويشربون ويجلسون حلقاً حلقاً على صوَر أجسادهم العنصريّة يتحدّثون ويتنعّمون،
وأنّهم ربّما يكونون في الهواء بين الأرض والسّماء يتعارفون في الجوّ ويتلاقون ونحو
ذلك ممّا يدلّ على نفي الجسميّة وإثبات بعض لوازمها، يُعطي أنّ تلك الأشباح ليست في
كثافة المادّيات، ولا في لطافة المجرّدات، بل هي ذوات جهتَين وواسطة بين العالمَين،
وهذا يؤيّد ما قاله طائفة من أساطين الحكماء: من أنّ في هذا الوجود عالماً مقداريّاً
غير العالم الحسّي، هو واسطةٌ بين عالم المجرّدات وعالم الماديّات؛ ليس في تلك
اللطافة ولا في هذه الكثافة. فيه للأجسام والأعراض من الحركات والسّكَنات والأصوات
والطعوم وغيرها، مُثُل قائمة بذواتها معلَّقة لا في مادّة، وهو عالمٌ عظيمُ الفسحة،
وسكّانه على طبقات متفاوتة في اللَّطافة والكثافة وقُبح الصّور وحُسنها، ولأبدانهم
المثاليّة جميع الحواسّ الظاهرة والباطنة، فيتنعّمون ويتألَّمون باللَّذات والآلام
النفسانيّة والجسمانيّة».
وقد نسب العلّامة [من تلامذة المحقّق الطوسي] في (شرح حكمة الإشراق)، القول بوجود
هذا العالم إلى الأنبياء والأولياء والمتألّهين، وهو وإن لم يَقُم على وجوده شيءٌ
من البراهين العقليّة، لكنّه قد تأيّد بالظواهر النّقليّة، وعرّفه المتألِّهون
بمجاهداتهم الذّوقيّة، وتحقّقوه بمشاهداتهم الكشفيّة، وأنت تعلم أنّ أرباب الأرصاد
الروحانيّة أعلى قدراً وأرفع شأناً من أصحاب الأرصاد الجسمانيّة، فكما إنّك تصدّق
هؤلاء فيما يُلقونه إليك من خفايا الهيئات الفلكيّة، فحقيقٌ أن تصدّق أولئك أيضاً
فيما يتلونه عليك من خبايا العوالم القُدسيّة الملكيّة.
المحقّق العلّامة السيّد علي خان المدَني