ليست البشارة (بالمهديّ الموعود عليه السلام) بالفكرة المستحدثة عند (الشيعة)، دفع
إليها انتشارُ الظلم والجَور، فحلموا بظهور مَن يطهّر الأرض من رِجس الظلم، كما
يريد أن يصوّرها بعض المغالطين غير المنصفين.
ولولا ثبوت (فكرة المهديّ عليه السلام) عن النبيّ على وجهٍ عرفَها جميع المسلمين
وتشبّعت في نفوسهم واعتقدوها، لما تَمكّنَ مُدَّعو المَهديّة في القرون الأولى -
كالكيسانية والعبّاسيّين وغيرهم - من خداع الناس واستغلال هذه العقيدة فيهم طلباً
للمُلك والسلطان، فجعلوا ادّعاءهم المهديّة الكاذبة طريقاً للتأثير في العامّة وبسط
نفوذهم عليهم.
ونحن مع إيماننا بصحّة الدين الإسلامي، وأنّه خاتمة الأديان الإلهيّة، ولا نترقّب
ديناً آخر لإصلاح البشر، ومع ما نشاهد من انتشار الظلم واستشراء الفساد في العالم
على وجهٍ لا تجد للعدل والصلاح موضعَ قدمٍ في الممالك المعمورة، ومع ما نرى من
انكفاء المسلمين أنفسهم عن دينهم وتعطيل أحكامه وقوانينه في جميع الممالك الإسلامية،
وعدم التزامهم بواحد من الألف من أحكام الإسلام، نحن مع كلّ ذلك لا بدّ أن ننتظر
الفرج بعودة الدين الإسلامي إلى قوّته وتمكينه من إصلاح هذا العالم المنغمس بغطرسة
الظلم والفساد.
ثمّ لا يمكن أن يعود الدين الإسلامي إلى قوّته وسيطرته على البشر عامّة، وهو على ما
هو عليه اليوم وقبل اليوم من اختلاف معتنقيه في قوانينه وأحكامه وفي أفكارهم عنه،
وهم على ما هم عليه اليوم وقبل اليوم من البِدع والتحريفات في قوانينه والضلالات في
ادّعاءاتهم.
نعم، لا يكمن أن يعود الدين إلى قوّته إلّا إذا ظهر على رأسه مصلحٌ عظيم، يجمع
الكلمة ويردّ عن الدِّين تحريف المُبطلين، ويُبطل ما أُلصق به من البِدع والضلالات
بعنايةٍ ربانيّة وبلُطفٍ إلهيّ ليجعل منه شخصاً هادياً مهديّاً، له هذه المنزلة
العظمى والرياسة العامّة والقدرة الخارقة، ليملأ الأرض قِسطاً وعدلاً بعدما مُلئت
ظُلماً وجَوراً.
والخلاصة: إنّ طبيعة الوضع الفاسد في البشر البالغة الغايةَ في الفساد والظلم -
مع الإيمان بصحّة هذا الدين وأنّه الخاتمة للأديان - يقتضي انتظار هذا المصلح (المهديّ
عليه السلام)، لإنقاذ العالم ممّا هو فيه.
ولأجل ذلك آمنتْ بهذا الانتظار جميعُ الفرق المسلمة، بل الأمم من غير المسلمين، غير
أنّ الفرق بين الإمامية وغيرها هو أنّ الإمامية [ومعها طائفةٌ من العلماء المسلمين
السُّنّة] تعتقد أنّ هذا المُصلِحَ المهديّ عليه السلام هو شخصٌ معيّنٌ معروف، وُلد
سنة 255 هجرية، ولا يزال حيّاً، هو ابن الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام، واسمه (محمّد).
وذلك بما ثبت عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وآل البيت عليهم السلام من الوعد به
وما تواتر عندنا من ولادته واحتجابه.ولا يجوز أن تنقطع الإمامة وتَحول في عصر من
العصور، وإن كان الإمام مخفيّاً، ليظهر في اليوم الموعود به من الله تعالى، الذي هو
من الأسرار الإلهيّة التي لا يعلم بها إلا هو تعالى.ولا يخلو من أن تكون حياته
وبقاؤه هذه المدّة الطويلة معجزة جعلها الله تعالى له، وليست هي بأعظم من معجزة أن
يكون إماماً للخلق وهو ابنُ خمس سنين، يوم رحل والده إلى الرفيق الأعلى، ولا هي
بأعظم من معجزة عيسى عليه السلام إذ كلّم الناس في المهد صبيّاً، وبُعث في الناس
نبيّاً.
وطولُ الحياة أكثر من العمر الطبيعي أو الذي يُتخيَّل أنّه العمر الطبيعي، لا يمنع
منها فنّ الطبّ ولا يحيلها، غير أن الطبّ، بعدُ، لم يتوصّل إلى ما يُمكِّنه من
تعمير حياة الانسان. وإذا عجز عنه الطبّ فإنّ الله تعالى قادرٌ على كلّ شيء، وقد
وقع فعلاً تعمير نوح وبقاء عيسى عليهما السلام، كما أخبر عنهما القرآن الكريم.. ولو
شكّ الشاكّ فيما أخبر به القرآن فعلى الإسلام السلام. ومن العجب أن يتساءل المسلم
عن إمكان ذلك وهو يدّعي الإيمان بالكتاب العزيز.
وممّا يجدر أن نذكره في هذا الصدد، ونذكّر أنفسنا به، أنّه ليس معنى انتظار هذا
المصلح المنقذ (المهديّ عليه السلام)، أن يقف المسلمون مكتوفي الأيدي فيما يعود إلى
الحقّ من دينهم، وما يجب عليهم من نصرته والجهاد في سبيله والأخذ بأحكامه، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر.
بل المسلم أبداً مكلَّف بالعمل بما أُنزل من الأحكام الشرعية، وواجبٌ عليه السعي
لمعرفتها على وجهها الصحيح بالطُّرق الموصلة إليها حقيقةً، وواجبٌ عليه أن يأمر
بالمعروف وينهى عن المنكر ما تمكّن من ذلك وبلغت إليه قدرتُه: «كُلُّكُم رَاعٍ
وَكُلُّكُم مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِه». فلا يجوز له التأخّر عن واجباته بمجرّد
الانتظار للمصلح المهديّ والمبشّر الهادي، فإنّ هذا لا يُسقط تكليفاً، ولا يؤجِّل
عملاً، ولا يجعل الناس هَمَلاً كالسَّوائم.
احتجاب مولانا صاحب الزّمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف:
خصّص السيد ابن طاوس رضوان الله عليه في (مُهَج الدعوات) فصلاً لذكر (الحُجُب)
المرويّة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السلام التي احتجبوا بها
ممّن أراد الإساءة إليهم، وقال في آخرها: «وهذه الحُجب ممّا أُلهمنا أيضاً تلاوتها
يوم أحاطت المياه والغرَق، وصعُبت السلامة بكثرة المياه... وقد أمكن المقام بإجابة
الدعوات ودفع تلك المحذورات... والحمد لله تعالى»؛ يُشير بذلك إلى السَّيل الذي ضرب
مدينة بغداد سنة 654 للهجرة، فأغرق معظم مناطقها.
ما يلي، احتجاب الإمام صاحب الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف نقلاً عن (مهج
الدعوات):
«اللَّهُمَّ احْجُبْني عَنْ عُيونِ أَعْدائي، وَاجْمَعْ بَيْنِي وَبَيْنَ
أَوْلِيائِي، وَأَنْجِزْ لي ما وَعَدْتَنِي، وَاحْفَظْنِي في غَيْبَتِي إِلَى أَنْ
تَأْذَنَ لي في ظُهورِي، وَأَحْيِ بي مَا دَرَسَ مِنْ فُروضِكَ وَسُنَنِكَ،
وَعَجِّلْ فَرَجِي وَسَهِّلْ مَخْرَجِي، وَاجْعَلْ لي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانَاً
نَصِيراً، وَافْتَحْ لِي فَتْحَاً مُبِينَاً، وَاهْدِنِي صِراطَاً مُسْتَقيمَاً،
وَقِنِي جَمِيعَ ما أُحاذِرُهُ مِنَ الظّالِمينَ، وَاحْجُبْنِي عَنْ أَعْيُنِ
الباغِضينَ النَّاصِبينَ العَدَاوَةَ لِأَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكَ، وَلا يَصِلُ
إِلَيَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ بِسُوءٍ.
فَإِذا أَذِنْتَ في ظُهُورِي، فَأَيِّدْنِي بِجُنُودِكَ وَاجْعَلْ مَنْ
يَتَّبِعُنِي لِنُصْرَةِ دينِكَ مُؤَيَّدينَ، وَفي سَبيلِكَ مُجاهِدينَ، وَعَلى
مَنْ أَرادَنِي وَأَرادَهُمْ بِسُوءٍ مَنْصُورِينَ، وَوَفِّقْنِي لِإقامَةِ
حُدُودِكَ، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ تَعَدَّى مَحْدُودَكَ، وَانْصُرِ الحَقَّ
وَأَزْهِقِ الباطِلَ إِنَّ الباطِلَ كَانَ زَهُوقاً، وَأَوْرِدْ عَلَيَّ مِنْ
شِيعَتِي وَأَنْصَارِي مَنْ تَقَرُّ بِهِمُ العَيْنُ، وَيُشَدُّ بِهِمُ الأَزْرُ،
وَاجْعَلْهُمْ في حِرْزِكَ وَأَمْنِكَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ».
العلامة الشيخ محمّد رضا المظفَّر