هذا صاحبُكم... فتمسَّكْ به
* في السابع من شهر صفر، سنة 128 للهجرة وُلد الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه
السلام في منطقة تُسمّى «الأبواء»، وهي منزلٌ بين مكّة والمدينة.
* والدته هي السيّدة حميدة بنت صاعد عليها السلام، وهي أندلسية، وكانت مشتهرة بلقب
(المصفّاة)، لقّبها بذلك زوجها الإمام جعفر الصادق عليه السلام حين قال
عنها:«حَميدَةُ مُصَفّاةٌ مِنَ الأَدْناسِ كَسَبيكَةِ الذَّهَبِ».
* في (دلائل الإمامة) لمحمّد بن جرير الطبري الإمامي، قال: «..عن أبي بصير، قال:
كنت عند أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام في السنة التي ولد فيها موسى بن جعفر
بـ(الأبواء)، فبينا نحن نأكل معه إذ أتاه الرسول: إنّ حميدة قد أخذها الطلق. فقام
فرحاً مسروراً ومضى، فلم يلبث أن عاد إلينا حاسراً عن ذراعيه، ضاحكاً مستبشراً.
فقلنا: أضحك الله سنّك، وأقرّ عينك، ما صنعت حميدة؟فقال: وَهَبَ اللهُ لي غُلاماً،
وَهُوَ خَيْرُ أَهْلِ زَمانِهِ، وَلَقَدْ خَبَّرَتْني أُمُّهُ عَنْهُ بِما كُنْتُ
أَعْلَمُ بِهِ مِنْها.فقلت: جعلت فداك، وما الذي خبّرتك به عنه؟فقال: ذَكَرَتْ
أَنَّهُ... وَقَعَ إِلى الأَرْضِ رافِعاً رَأْسَهُ إِلى السَّماءِ، قَدِ اتَّقَى
الأَرْضَ بِيَدِهِ، يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللهُ. فَقُلْتُ لَها: إِنَّ
ذَلِكَ أَمارَةُ رَسولِ اللهِ وَأَمارَةُ الأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِهِ...».
* وروى الشيخ المفيد عن يعقوب السرّاج، قال: (دخلت على أبي عبد الله عليه السلام
وهو واقفٌ على رأس أبي الحسن موسى عليه السلام وهو في المهد، فجعل يسارّه طويلاً،
فجلست حتى فرغ، فقمت إليه، فقال لي: «ادْنُ إِلى مَوْلاكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ»،
فدنوتُ فسلّمتُ عليه، فردّ عليّ بلسانٍ فصيح، ثمّ قال لي: «اذْهَبْ فَغَيِّرِ اسْمَ
ابْنَتِكَ الَتي سَمَّيْتَها أَمْس» ".." فقال أبو عبد الله عليه السلام: «انْتَهِ
إِلى أَمْرِهِ تَرْشُدْ»، فَغَيَّرتُ اسمها).
* وفي (روضة الواعظين) للفتّال النيسابوري: «.. قيل لأبي عبد الله الصادق عليه
السلام: ما بلغ بك من حبّك ابنك موسى عليه السلام؟
فقال: وَدَدْتُ أَنْ لَيْسَ لي وَلَدٌ غَيْرُهُ، حَتّى لا يُشارِكَهُ في حُبِّي
لَهُ أَحَدٌ».
وفي (الكافي) للشيخ الكليني أنّ الإمام الصادق عليه السلام ضمّه إلى صدره بمحضرٍ من
أبي حنيفة، وقال له: «بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي يَا مُودَعَ الأَسْرَارِ».
في كنَف الإمام الصادق عليه السلام
نشأ الإمام الكاظم عليه السلام في كنَف أبيه، وتولّاه برعايته. فأبوه الإمام
السادس من أئمّة أهل البيت عليه السلام الذي ملأ الدنيا علمُه وفقهه، والذي قال فيه
أبو حنيفة، وهو إمام أحد المذاهب الأربعة السائدة في العالم الإسلامي في الماضي
والحاضر: «ما رَأَيْتُ أَفْقَهَ مِنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّد».وحيث أنّه المعدّ
ليخلف أباه، ظهرت عليه ملامح الإمامة وهو صغير السنّ. فقد روي عن أبي حنيفة أنّه
حجّ في أيّام أبي عبد الله الصادق عليه السّلام، فلمّا أتى المدينة دخل داره وجلس
ينتظر فخرج صبيّ، فسأله أبو حنيفة عن مسألة، وذُهِلَ لمّا سمع جوابه عليها.
قال أبو حنيفة: فأعجبني ما سمعت من الصبيّ، فقلت له ما اسمك؟فقال: « أَنا موسى بْنُ
جَعْفَرٍ.. ».فقلت في نفسي: إنّ هؤلاء يزعمون أنهم يعطون العلم صبيةً وأنا أسبر
ذلك. فقلت له: يا غلام ممّن المعصية؟فقال: «إِنَّ السَّيِّئَاتِ لَا تَخْلُو مِنْ
إِحْدَى ثَلَاثٍ:
إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنَ اللهِ - وَلَيْسَتْ مِنْهُ- فَلَا يَنْبَغِي لِلرَّبِّ
أَنْ يُعَذِّبَ الْعَبْدَ عَلَى مَا لَا يَرْتَكِبُ.
وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْهُ وَمِنَ الْعَبْدِ - وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ - فَلَا
يَنْبَغِي لِلشَّرِيكِ الْقَوِيِّ أَنْ يَظْلِمَ الشَّرِيكَ الضَّعِيفَ.
وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْعَبْدِ - وَهِيَ مِنْهُ - فَإِنْ عَفَا فَبِكَرَمِهِ
وَجُودِهِ، وَإِنْ عَاقَبَ فَبِذَنْبِ العَبْدِ وَجَرِيرَتِهِ».
من النصوص الدالّة على إمامته
الإمام الكاظم عليه السلام هو الإمام المفترض الطاعة بعد أبيه الإمام الصادق عليه
السّلام؛ بالنصّ عليه من الله، تعالى، بالإمامة، كخبر اللوح، وبأنّ الإمام لا يكون
إلاّ الأفضل في العلم والزهد والعمل، وبأنّه معصومٌ كعصمة الأنبياء، وبالمعجزات؛
فقد رأى الناس من آيات الله، عزّ وجلّ، الظاهرة على يده ما يدلّ على إمامته، وبطلان
مقال من ادّعى الإمامة لغيره.
وروى النصوص على إمامته عن أبيه الصادق عليهما السلام، شيوخ أصحاب أبي عبد الله
وخاصّته، وبطانته، وثقاته الفقهاء الصالحون رضوان الله عليهم.وما اخترناه ههنا
نموذج مما روي في إمامته وأنّه حجّة الله على خلقه.
* روى المفضّل بن عمر الجعفيّ قال: «كنت عند أبي عبد الله عليه السّلام فدخل أبو
إبراهيم موسى [الكاظم] عليه السّلام، وهو غلامٌ، فقال لي أبو عبد الله عليه
السلام:اسْتَوْصِ بِهِ، وَضَعْ أَمْرَهُ عِنْدَ مَنْ تَثِقُ بِهِ مِنْ أَصْحابِكَ».
* وروى معاذ بن كثير عن الصادق عليه السّلام قال: «قلت: أسأل الله الذي رزق أباك
منك هذه المنزلة أن يرزقك من عَقِبِك قبل الممات مثلها، فقال: قَدْ فَعَلَ اللهُ
ذَلِكَ، قلت: من هو جُعلت فداك؟ فأشار إلى العبد الصالح وهو راقد، فقال: هَذا
الرّاقِدُ، وهو يومئذٍ غلام».
* وروى عبد الرحمن بن الحجّاج قال: «دخلت على جعفر بن محمّد عليهما السلام في منزله
فإذا هو في مسجدٍ له من داره، وهو يدعو وعلى يمينه موسى بن جعفر عليهما السلام
يؤمّن على دعائه فقلت له: جعلني الله فداك، قد عرفتَ انقطاعي إليك وخدمتي لك فمن
وليّ الأمر بعدك؟ قال: يا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، إِنَّ موسى قَدْ لَبِسَ الدِّرْعَ
وَاسْتَوَتْ عَلَيْهِ. فقلت له: لا أحتاجُ بعد هذا إلى شيء».
* وروى فيض بن المختار، قال: «قلت لأبي عبد الله عليه السّلام: خُذ بيدي من النار!
مَن لنا بعدك؟ قال: فدخل أبو إبراهيم، وهو يومئذٍ غلام، فقال: هَذا صاحِبُكُمْ
فَتَمَسَّكْ بِهِ».
* وروى منصور بن حازم، قال: «قلت لأبي عبد الله عليه السّلام: بأبي أنت وأمّي، إنّ
الأنفس يُغدى عليها ويُراح، فإذا كان ذلك فمَن؟ فقال أبو عبد الله عليه السّلام:
إِذا كانَ ذَلِكَ فَهُوَ صاحِبُكُمْ، وضرب على منكب أبي الحسن الأيمن، وهو فيما
أعلم يومئذ خماسيّ، وعبد الله بن جعفر جالسٌ معنا».
* وروى سليمان بن خالد، قال: «دعا أبو عبد الله عليه السّلام أبا الحسن يوماً ونحن
عنده فقال لنا: عَلَيْكُمْ بِهَذا بَعْدِي، فَهُوَ - وَاللهِ - صاحِبُكُمْ
بَعْدِي».
«الكاظم»، و«العالم»
* كنيته عليه السلام، أبو الحسن، وأبو إبراهيم الهاشميّ العَلويّ. ورُوي عنه
عليه السلام أنه قال: «مَنَحَنِي أبي كُنيَتَين». وأشهر أولاده على الإطلاق هو
الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، الإمام الثامن من أهل البيت عليهم السلام،
وهو مدفون في مدينة مشهد المعروفة في إيران. ومن أولاده السيّدة فاطمة المعصومة
عليه السلام، وقد دُفنت في مدينة قم في إيران أيضاً.
* أشهر ألقابه عليه السلام: «الكاظم». عُرف بذلك لحلمه وكظمه الغيظ على الرغم ممّا
كان يتجرّعه من الغُصَص على أيدي العبّاسيّين وجلاوزتهم، ورويت عنه في ذلك أخبار
كثيرة.
وكان يلقّب أيضاً بـ«العبد الصالح»، و«الوفيّ»، و«الصّابر»، و«الأمين»، وبـ«زين
المُجْتَهِدينَ»، وكان الناس بالمدينة يسمّونه «زين المُتهجّدين».
أمّا بعد وفاته، فقد اشتهر بلقبٍ غطّى على بقيّة ألقابه وهو «باب الحوائج»، لما عرف
به عليه السلام من الكرامات والمعاجز، والدعوات المستجابة. وفي (الصواعق المحرقة)
لابن حجر الهيتمي: «.. وكان معروفاً عند أهل العراق بـ(باب قضاء الحوائج عند الله)،
وكان أعبدَ أهل زمانه وأعلمهم وأسخاهم».ويُلقَّب الإمام عليه السلام عند الرواة
والفقهاء بـ«العالم»، فقد أخذ عنه العلماء فأكثروا، ورووا عنه في فنون العلم ما ملأ
بطون الدفاتر، وألَّفوا في ذلك المؤلَّفات الكثيرة، المروية عنهم بالأسانيد
المتصلة.وفي (دلائل الإمامة) للطبري أنّ الإمام الكاظم عليه السلام «كان يبلغُه عن
رجلٍ أنه يؤذيه، فيبعثُ إليه بِصُرّة فيها ألف دينار. وكان يصرّ الصّرر ثلاثمئة
دينار وأربعمئة دينار ومئتي دينار ثمّ يقسّمها بالمدينة. وكانت صرّةُ موسى إذا جاءت
الإنسانَ استغنى».وعن محمّد بن عبد الله البكري، قال: «قدمتُ المدينة أطلبُ بها
دَيناً، فأعياني. فقلت: لو ذهبتُ إلى أبي الحسن موسى وشكوتُ إليه، فأتيتُه بنقمى
[موضعٌ بالمدينة] في ضيعته... ثمّ سألني عن حاجتي، فذكرتُ له قصّتي، فدخل فلم يقرّ
إلّا يسيراً حتّى خرج إليّ فقال لغلامه: اذهب. ثمّ مدّ يده إليّ، فدفع صرّة فيها
ثلاثمئة دينار، ثمّ قام فولّى، فقمتُ فركبتُ دابّتي وانصرفت».
السجن والشهادة
اتفقت كلمة المؤرّخين على أنّ هارون العبّاسيّ قام باعتقال الإمام الكاظم عليه
السّلام وإيداعه السجن لسنين طويلة، مع تأكيده على سجّانيه بالتشديد والتضييق عليه،
على الرغم من معرفته بمقام الإمام عليه السلام. فقد روت المصادر أنّ المأمون سأل
أباه هارون العبّاسيّ ذات يوم عن الإمام الكاظم عليه السلام، فقال له: «أنا إمام
الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حقّ، والله يا بني إنّه
لَأَحَقّ بمقام رسول الله منّي ومن الخلق جميعاً! ووالله لو نازعتني هذا الأمر
لأخذتُ الذي فيه عيناك، فإنّ المُلك عقيم»!
وذُكر أنّه لما طال الحبسُ بالإمام عليه السلام كتب إلى هارون: «إِنَّهُ لَمْ
يَنْقَضِ عَنّي يَوْمٌ مِنَ البَلاءِ إِلَّا انْقَضى عَنْكَ يَوْمٌ مِنَ الرَّخاءِ،
حَتّى يَفْضِيَ بِنا ذَلِكَ إِلى يَوْمِ يَخْسَرُ فيهِ المُبْطِلونَ».
ولم يزل ذلك الأمر بالامام عليه السّلام، يُنقل من سجنٍ إلى سجن حتّى انتهى به
الأمر إلى السّندي بن شاهك، وكان فاجراً فاسقاً، لا يتورّع عن ارتكاب أي شيء
تملَّقاً ومداهنةً للسلطان، فغالى في التضييق عليه حتّى جاء أمر هارون بدسّ السمّ
له، فأسرع السنديّ إلى إنفاذ هذا الأمر الشنيع، فاستُشهد عليه السّلام، بعد طول سجن
ومعاناة، عن خمسة وخمسين عاماً، وذلك في الخامس والعشرين من شهر رجب سنة 183
للهجرة، ودُفن في «مقابر قريش» ببغداد، وتُعرَف اليوم باسم «الكاظمية».