تصدير: قال الله تعالى: "وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ
سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى"[1].
مقدمة: شهر رمضان شهر الكدح:
إن الإسلام يحث الإنسان على اغتنام عمره وانتهاز الفرص التي يتيحها الله
تعالى في العمر، بل يشجع على أن لا تتوقف قدما الإنسان عن السعي والسير في طريق
السمو والتكامل، بل يلفتنا القرآن الكريم إلى كون الجمود وعدم العمل هو بعينه تراجع
وهذا ما توضحه سورة العصر التي تقول:"انَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْر"ٍ محددة سبل
تلاقي الخسرات بالقولِ "إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" كما
جاء في السنة الشريفة ما يؤكد مضمون سورة العصر إذ جاء الحديث الشريف ليقول: " من
استوى يوماه فهو مغبون"[2].
فالإسلام يحثنا ويحفزنا على مواصلة التقدم التطور، والسعي الدائم إلى التخيّر
الإيجابي باتجاه الأفضل والأحسن والأكمل، ويعتبر القرآن الكريم أن مسيرة التكامل
مكتوبة على الإنسان مع الجهد والتعب والكد حتى يلقى الله تعالى: "يَا أَيُّهَا
الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ" فعلى الإنسان أن
يعلم أن تكامله منوط بالجد والإجتهاد وعدم التواني والضعف وعدم التراقي، على أن
يكون سيره باتجاه كماله ورقيه على ضوء ما رسمته له يد العناية الإلهية من أهداف
وأدوار ووظائف، تعود نتيجتها وثمرتها للإنسان نفسه في عاجل الدنيا والآجل حيث يجزاه
الجزاء الأوفى.
ومن الفرص التي أتاحها المولى تعالى للإنسان لتضاعف سيره نحو كماله ورقيه شهر رمضان
حيث قدَّرت يد العناية الإلهية أن تجعله موسماً يتلقى فيه الإنسان شحنه ولكونية
داعمة لمسيرته من حيث تضاعف الآثار المترتبة على سعيه وعمله، تنقله بخطوات عملاقة
من الحضيض إلى قمم الكمال الإنساني.
عقبات في طريق التكامل:
على الإنسان المؤمن خصوصاً أن يلتفت إلى أنه رغم أن الله أعاننا في شهر
رمضان لنتزود منه للآخرة ما ينجينا ومن منازل القرب منه والأمن يدنينا؛ وبالرغم من
تصفيد الشياطين وغلها وحبسها عن الوسوسة في الصدور إلا أن الواقع يشهد أنه ثمة
عقبات تعترض طريق الإنسان نحو الكمال المنشود، وتعوق خطاه في مسالك التقدم والتطور،
بل تعرقل مسيره وربما تشل حركته ولا أخال أننا نحتاج إلى كثير جهد وتأمل لنرى في
واقعنا وحياتنا.
فما هي أهم الأمراض الموهنة لعزمنا، والمعوقة لخطونا وكيف يمكن علاجها؟
وعلى سبيل الإختصار نعرض لبعض هذه العقبات فيما يلي:
1 ـ الإستسلام لليأس:
بمعنى أن يفقد الإنسان الأمل بإمكانية التخيُّر والتحسن، فيشعر بأنه
مقهور أمام ضعف إرادته، وعيوب نفسه، وما يواجهه من عقبات ومشاق في مسيره نحو
التكامل؛ ذلك أنه من الطبيعي ولكون الإنسان في ظرف هو الدنيا وما يجاهده هو النفس
وميولها والشياطين ووسوساتها أن يكون سلام الشيطان الأفعل هو تيئيس الإنسان من
إمكانية النجاح في تربية وتزكية النفس وسلامه في ذلك أمران ميل النفس إلى الراحة
وأنسها بما تعودت، وكذلك الآلام والمصاعب التي يصادفها الإنسان في طريق تكامله
والتي أخبرنا الله مسبقاً عنها بقوله: "يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ
إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ "وهذا من الإعداد النفسي للإنسان باخباره عن
صعوبة الولوج إلى ميدان التخيير على أنه ثمة مساعدات أخرى منها غلّ الشياطين في
الشهر الشريف أضف إلى الترغيب فيه خصوصاً في شهر رمضان من خلال مضاعفة الأجر فيه،
"إن شهر رمضان شهر عظيم يضاعف الله فيه الحسنات، ويمحو فيه السيئات ويرفع فيه
الدرجات"[3].
وثانياً من خلال تسهيل وتهوين مشاق العبادة وخصوصاً الصوم في شهر رمضان حيث قال عن
مدة الصوم أنها: "أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ" ليلتفت من يرى المشقة والصعوبة في عبادات
الشهر الشريف أن عليه أن يذهب للمقايسة بين هذه المشاق والصعوبات وبين قصر المدة من
جهة وعظيم الأثر والجوائز المترتبة عليه، فالإلتفات إلى هذه المقايسة يهون المشاق
والصعوبات ويوجد دافعاً للعمل فضلاً عن أن مضاعفة آثار الأعمال ونتائجها يخرج
الإنسان من اليأس في إمكان تدارك التقصير ومعالجة ما فرط به واقترفه من آثام فيغدو
الشهر باباً يحصل الإنسان فيه صك أمان من عواقب ما أسلف من آثام لكونه شهر التوبة،
ولكونه تدريباً على تقوية الإرادة. فشهر رمضان يوفر الشعور لدى الإنسان بإمكانية
التخيير ويشحذ الهمة للعمل فلا يتراجع أمام عقبات ومشاق طريق التقدم والتطور.
2 ـ الغرور:
إن الإنسان قد يكون متخلفاً وفي زمرة المتخلفين ويبقى كذلك ردحاً طويلاً
من الزمن مأخوذاً بكل ما يلقيه في جب الغفلة ويعمي بصيرته ويعطل قواه العاقلة عن
رؤية حقيقة واقعه، بل قد يحسب نفسه في الطريق الصحيح فلا يفكر بأن يصوِّب مسيرته في
حياته وقد أوضح الإمام علي بن أبي طالب (ع) بعض هذه الأفات والأمراض حيث قال: "سكر
الغفلة والغرور أبعد إفاقة من سكر الخمور"[4].
ذلك أن المغرور إنسان يتجمد على ما هو عليه من حال وواقع فلا يسعى للإصلاح إن كان
على خطأ ولا للإستزادة إن كان على الجادة ولذا فهو حقيقة وواقعاً فقير مسكين كما
جاء عن الإمام الصادق (ع): "المغرور في الدنيا مسكين"[5].
فالغرور مرض خطير يشل طاقات الإنسان ويبرر له جموده وتأخره ويغلق أمام بصيرته نوافذ
الإشراف على آفاق التطور والتقدم والتخيير؛ فالغرور يقتل الشعور بالحاجة إلى التحسن
والتطور.
ولذا نرى أن الإسلام جاء ليحث على اغتنام فرصة الشهر الشريف إذ يفرض على المسلم
سلوكيات تخرجه عن ما تعوده في حياته في غيره من الشهور كما يحث على أن لا يقتصر هذا
التخيير على الإمساك عن الطعام والشراب، بل جاءت خطبة الرسول الأكرم لتقول
للمسلمين إن على المسلم أن يضع خطة وخريطة ويرسم برنامجاً ليستفيد من شهر رمضان
وبينت الكثير من خطوات ومراحل هذا البرنامج، العبادية، والإجتماعية، والمعرفية.
خاتمة: حذار من التخيُّر السلبي:
ومن الأمراض التي نجدها في زماننا الحاضر هو هذا الإنحراف الممنهج في
التحامل مع شهر نزول الوحي، وشهر ليالي القدر، وربيع العبادة ليغدو شهر الكسل، وشهر
النوم، وشهر المسلسلات والحفلات حفلات الطرب والرقص... والإختلاط السلبي... ولا
أقلها من كونه عند البعض شهر شهوة البطن بالتفنن بألوان الطعام والمأكل والمشرب
وغير ذلك مما لا تتسع له الصفحات هذه.
فبدل أن يكون شهر رمضان شهر النهوض والثورة على الواقع المنحرف يغدو شهراً للثورة
ضد التغيير الإيجابي شهراً يسير فيه الإنسان عكس طريق التكامل والرقي، فالإسلام
يريد شهر رمضان شهر ينتصر فيه الإنسان لبعده الملكوتي وجنبته الروحية فيما البعض
يجعله شهراً للإنغماس في وهاد البهيمية والحيوانية والمادية؛ ولعل إلفات الله إلى
مناسبة الصوم بكونه: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى
لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ" والروايات ذكرت أنه فيه
أنزلت الكتب السماوية الأخرى، القصد منه لفت نظر الناس والمسلمين خاصة إلى ملاءمته
للبعد الروحي وهو الفترة المناسبة ليقوم الإنسان بالعناية ببعده الروحي بعد أن انكب
طيلة أحد عشر شهراً على البعد الحيواني في الأغلب فهو شهر اختاره الله لإنزال رحمته
وجعله ربيعاً للعبادة وموسماً للقرب منه، وهو شهر السياحة بالروح وعلى دابة الجسد
في ميادين القرب منه تعالى.
[1] سورة البقرة،
الآية 183
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 16، ص 94.
[3] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 10، ص 313.
[4] ميزان الحكمة، الريشهري، ج 2، ص 1322.
[5] المصدر نفسه