والمراد بأسلوب الدعوة هنا ما بُلّغت به أوامر الله تعالى وإرشاداته إلى المدعوّين،
وهو لا يخرج عمّا جاء به القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهّرة.
والأسلوب يجمع على أساليب "وهو الطريق، والوجه، والمذهب،... وهو الفنّ: يقال: أخذ
فلان في أساليب من القول أي أفانين منه".
والأسلوب والكلام الأحسن هو كلام الله تعالى الّذي وصفه الله تعالى بقوله:
﴿اللَّهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ
جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ
إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن
يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾5.
ولقد أخذت أساليب القرآن وكلامه بنفوس الكفرة، وهم أرباب القول، وفحول البيان،
فأعجبوا بها، وافتتنوا بجمالها، وشهدوا لها رغم عداوتهم للإسلام وبقائهم على الشرك.
رُويَ أنّ الوليد قال لبني مخزوم: "والله لقد سمعت من محمّد صلى الله عليه وآله
وسلم آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجنّ، إنّ له لحلاوة، وإنّ
عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وإنّه ليعلو وما يُعلى"6.
خصائص هذه الأساليب:
لم تصطدم أساليب الدعوة في القرآن على تعدّد صورها وألوانها بالعلم قديمه وحديثه،
العلم الصحيح القائم على المنطق السليم. وإنّ ما في أحدث نظريات العلم من حقائق عن
الكون ومظاهر الحياة المادية والإنسان، والحيوان والنبات لا يتناقض مع ما في القرآن
الكريم من الحقائق والمعاني العميقة التي لا زالت تؤيّد العلم في اتّجاهاته
السليمة، واكتشافاته لمظاهر الكون لمعرفة أسراره.
وهذه الأساليب - فضلاً عن تأديتها مهامّ العبادات والتكاليف والأحكام الشرعية - هي
أساليب جمالية ونصوص أدبية إمتاعية، تقوّم اللسان، وتعلّم البيان، وترقّق المشاعر..
وكلّما قرئت اطمأنّت بها النفوس، واقشعرّت منها الجلود خشية لله وخضوعاً لعظمته:
﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ
اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾7 ،
﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا
مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ...﴾8 .
ومن مقوّمات هذه الأساليب أنّها قامت:
على الحقّ:
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ...﴾9.
وعلى الصدق":
﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيل﴾10.
وعلى الوضوح والإبانة:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن
رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينً﴾11.
وعلى اليسر:
﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾12.
وعلى الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالّتي هي أحسن:
﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ...﴾13.
وهي أساليب لا باطل فيها:
﴿ ...لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا
مِنْ خَلْفِه...﴾14.
ولا كذب:
﴿...مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى...﴾15.
ولا خيال: وهو ما يقوم عليه شعر الشعراء، وفنّ الأدباء، وغيرهما ممّا يبعد عن
الحقيقة ويضرب في أودية الوهم والخرافة
﴿وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ
* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ *وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا
لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا
اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُو﴾16.
ولن يدخل في هذا الخيال ما اشتملت عليه هذه الأساليب من تشبيهات وتراكيب بلاغية؛
لأنّ هذه وإن احتوت على ضروب من التصويرات فإنّما هي لتقريب المعنى وإبرازه في صورة
المحسوس، وكشفه، وتوضيحه وإظهار الحقيقة دون زيادة أو نقصان، ودون أيّ معنى خرافيّ
أو أسطوريّ، لأنّ كلام الله عزّ وجلّ منزّه عن ذلك
﴿ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ
الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ
أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ
غَفُورًا رَّحِيمًا ﴾17. وهي أساليب هداية حقيقية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر،
وتدعو إلى المثل العليا والحياة الطيّبة في أسمى صورها وغاياتها. إنّها شفاء للناس،
ورحمة للعالمين. إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ...﴾18،
﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ
يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارً﴾19 .
5- سورة الزمر، الآية: 23.
6- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 18، ص 168.
7- سورة الرعد، الآية: 28.
8- سورة الزمر، الآية: 23.
9- سورة السجدة، الآية: 2.
10- سورة النساء، الآية: 122.
11- سورة النساء، الآية: 174.
12- سورة القمر، الآية: 17.
13- سورة النحل، الآية: 125.
14- سورة فصلت، الآية: 42.
15- سورة يوسف، الآية: 111.
16- سورة الشعراء، الآيات: 224ـ 227.
17- سورة الفرقان، الآية: 5ـ 6.
18- سورة الإسراء، الآية: 9.
19- سورة الإسراء، الآية: 82.