إنّ الخطاب الإلهي، لاشتماله على أكمل محتوىً، والنابع من أهمِّ مصدر على الإطلاق،
يمتاز بالكثير من الخصائص.. ذكرنا سابقاً الحقَّانية وسوف نشير هنا إلى العقلانيّة:
الخاصيّة الأخرى للخطاب هو أن يكون عقلانيًا، والمراد من العقلاني في اللّغة هو
العقلي والمنسوب إلى العقل[1].
وإذا كان الخطاب متوافقًا مع العقل والمنطق، أي إذا كان بنحو يجذب إليه عقل الإنسان
كجذب المغناطيس؛ فإنَّ مثل هذا الخطاب سيكون بلا شكّ خطابًا عقلانيًا, وستكون له
قيمة وامتيازات كبرى.
يقول الأستاذ المطهّري: "أول شرطٍ لموفّقية الخطاب أنْ يكون عقليًا وقويًا من حيث
المحتوى، أيْ أنَّ نفس الخطاب ماذا يقدِّم للإنسان؟ وكيف يمكن تطبيقه على ما يحتاجه
النّاس؟".
ولذلك، لا بدّ للخطاب الدّيني أن يكون خطاباً عقلانيّاً، ليتمكّن من الدّوام
والاستمراريّة والنفوذ في قلوب النّاس.
يقول الله عزّ وجلّ في القرآن الكريم: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ...}[2].
ويذكر الرّاغب في مفرداته أنَّ: "الحكمة إصابة الحقّ بالعلم والعقل", وقال آية الله
الشّيخ مكارم الشّيرازي في تفسير الآية المذكورة شارحًا معنى الحكمة بقوله: "الحكمة
بمعنى العلم والمنطق والاستدلال.. وأوّل خطوة على طريق الدّعوة إلى الحق، هي
التمكّن من الاستدلال وفق المنطق السّليم، أو النّفوذ إلى داخل فكر النّاس ومحاولة
تحريك وإيقاظ عقولهم كخطوة أولى في هذا الطّريق"[3].
ويعتقد الشّهيد المطهري أنّ الحكمة مرتبطة بالعقل والفكر، فالحكمة هي لأجل التفكّر
واليقظة، وهي لسان العقل، وقد سعى الأنبياء في دعوتهم إلى إبلاغ كلامهم بمخاطبة
العقول أولاً[4].
أيّها المبلِّغ العزيز، لنُبلّغ رسالة الدِّين بشكلٍ حكيمٍ لتتطابق حينئذٍ مع
الموازين العقليّة والعلميّة.
ومن الممكن أنْ تسأل هنا عن كيفيّة تقديم الخطاب العقلانيّ؟
وفي الجواب، لا بدّ من القول بأنَّ العرض العقلاني للخطاب الدّيني، يُراد منه
الطّرح الصّحيح للأفكار والمعتقدات الدّينيّة والابتعاد عن أيّ شكلٍ من أشكال
الخرافات، لأنَّ الدّين والخطاب المنبعث منه إذا قُدّما بنحوٍ خالٍ من التَّحريف
والخرافة، فلن يتعارضا أبداً مع الموازين العلميّة والعقليّة[5].
[1] لغت نامه دهخدا (قاموس دهخدا)، ذيل مادة "عقلاني".
[2] سورة النحل، الآية 125.
[3] الشّيخ الشّيرازي، تفسير الأمثل، ج8، ص369.
[4] "تبليغ ومبلّغ" در آثار شهيد مطهري، ص 294 و68؛ ولذا فإنَّ الإمام علي(ع) يعلّل
بأنَّ بعثة الرّسل الإلهيين إلى الناس إنَّما هي: ليثيروا لهم دفائن العقول. (نهج
البلاغة، الخطبة الأولى).
[5] في هذا المورد يمكن طرح قضية تقارن موت إبراهيم ابن النبيّ الأكرم(ص) مع كسوف
الشّمس في ذلك اليوم، حيث قال النّاس بأنَّ الكسوف مرتبط بموت إبراهيم، فسارع
النبي(ص) إلى المنبرّ وذكر للنّاس، أنّ كسوف الشّمس لا ربط له بموت ولده إبراهيم،
وعليه فقد سدَّ النبي(ص) بردّه هذا باب التّحريف والخرافة؛ أنظر: العلامة المجلسي،
بحار الأنوار، ج88، ص163.