حينما نلقي نظرة على تلك السنين، نلحظ رجلاً طويل القامة نحيف البدن يمشي كما يمشي سائر الناس، يأكل الطعام ويقبل وجوه محارمه وأحياناً يذهب إلى الحمام في الفجر ليؤدي الصلاة على طهارة. ولكن إذا استطعنا الولوج إلى قلبه رأيناه بحراً متلاطم الأمواج يرى الكثرة ويسمع لحن الوحدة الحاد من شفاه الكثرة. يمتزج مع الوحدة ويسمع من أمواجها المتلاطمة نداء (أنا الحق)، ولكنه ليس ساذجاً ليكشف الأسرار ويُصلب كما صَلُبَ الحلاج. وقد بلغ من ابتعاد العرفان عنده عن التصوف، ما أدرك بأن العيش الطبيعي بين الناس وبدون أن يتنبه غير المحارم إلى وجوده، أحسن أساليب الحياة. ويعلم الجميع أنه رجل كبير وعظيم، ولكنهم لا يدركون أبعاد وامتداد هذه العظمة. كان يختار تلاميذه بنفسه. إنها السنوات ذاتها التي أخذ روح الله يدرس بحوث الفقه المتقدمة لدى آية الله الحائري، ولكنه كان يعلّم نفسه أكثر مما يعلمه الأستاذ. ذلك أن هذا الرجل الطويل القامة، والذي اسمه المقدس محمد علي الملقب بالشاه آبادي بسبب شرائه بيتاً في محلة شاه آباد بطهران، رشح نفسه ليكون أستاذاً لهذا الشاب المتحمس لدراسة العرفان النظري.
وبعد ترتيب حجرته انصرف بلهفة إلى درسه. وكان أول أساتذته في قم الميرزا محمد علي الأديب الطهراني. وكان أديباً يدرّس المطول وهو كتاب في المعاني والبيان. ودرس السطوح الأولية في خمين وأراك، والآن أخذ يكمل (الأساليب) عند شخص ما زالت ملامحه القدسية راسخة في الأذهان، إنه آية الله السيد محمد تقي الخونساري، الرجل الذي وضع بصلاة الاستسقاء حداً للجفاف الذي تسبب في القحط والغلاء خلال الحرب العالمية الثانية. كما أكمل دروس السطوح لدى أستاذه الثالث آية الله السيد علي اليثربي الكاشاني. وقد بلغ الآن الخامسة والعشرين من عمره وبات مؤهلاً لحضور درس آية الله الحائري اليزدي وبدء الدورة العليا للفقه.
الرغبة العارمة في تعلم الفقه عند روح الله
منذ طفولته وحتى الآن جرت الظروف بنحو سمحت بتفتح قابلياته وبروز طاقاته ومؤهلاته. ولكن حين أخذ يحضر درس آية الله الحائري أصبح الوضع على نحو آخر! ولا بد أن حادثة عظيمة وقعت، ربما تمثلت في اختياره حجرة صغيرة ومصارعته الفقر، أو مناجاته الطويلة في الليل وقلة النوم، أو كبح جماح الشهوة الجنسية، أو الابتعاد عن العائلة والمدينة والديار، أو التفكير بالمصير الأسود للشعب الذي كان يعيش الأيام الأخيرة لانقلاب رضا خان. علماً أن أية واحدة من هذه القضايا بإمكانها أن تقضي حيناً على قدرات الإنسان، وأحياناً أخرى قادرة على تفجير الطاقات الكامنة فيه. وربما اجتمعت كل هذه العوامل أو غيرها، لتنمي قابلياته الكامنة إلى حد لم نغالِ إذا قلنا أنه أصبح أعجوبة في التعلم. فقد أخذ يتحدث ويتباحث بنحو نبخس حقه إذا وصفنا قابليته في تعلم الفقه بكلمة النبوغ. فهل كان يستلهم من الغيب؟ ولولا الخوف من أن يتحول إنسان واقعي إلى أسطورة، لا يدانيها سوى المدح والثناء، لكان الجواب بنعم؟ ولكن الاجابة بنعم، مع هذا التوضيح وهو أن كل من يغتسل في نبع شراب الخلوص كما اغتسل هو، يصبح قلبه أنقى وألمع ويمسي مرآة الحقيقة.
الخميني روح الله ، سيرة ذاتية