كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقائه مسؤولي النظام الإسلامي_23-06-2015
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله ربّ العالمین، والصلاة
والسلام علی سیدنا ونبینا أبي القاسم المصطفی محمد وعلی آله الأطیبین الأطهرین
المنتجبین، لا سیّما بقیّة الله في الأرضین. اللهم سدّد ألسنتنا بالصواب والحكمة.
تذكّر الموت، علاج الأنانيّة والهوى
إنّ بعض المضامين المتكرّرة في أدعية شهر رمضان المبارك، تسوق الإنسان للالتفات
إلى عوالم ما بعد الحياة الدنيوية، والالتفات إلى عالم الموت، وعالم القبر، وعالم
القيامة، والابتلاءات التي تواجه الإنسان عند الحساب والكتاب والمساءلة الإلهية.
وهذه واحدة من الموضوعات الواردة في أدعية شهر رمضان المبارك. والتوجّه إلى هذا
المعنى بالغ الأهميّة بالنسبة إلينا نحن الذين نحمل أعباء المسؤولية، فإنّ النظر
إلى هذه العوالم يعدّ من عوامل الضبط والمراقبة بالنسبة للإنسان. فلو عرفنا أنّه
﴿لا یَعزُبُ عَنهُ مِثقالُ ذَرَّة﴾، وعلمنا أنّ كل حركاتنا وسكناتنا وأعمالنا
وأقوالنا مهما صغرت لا تخرج عن إطار محاسبة فترة ما بعد الموت، ونحن مسؤولون عنها،
سيترك ذلك تأثيراً بليغاً في أفعالنا وأقوالنا وخطواتنا.
لقد ورد في دعاء أبي حمزة الشريف: «اِرحَمني صَریعاً عَلَی الفِراشِ تُقَلِّبُني
أَیدي أَحِبَّتي»، وهذه هي حالة تحصل للجميع، ولعلّ الكثير من الناس قد شاهدوا حالة
الاحتضار هذه وسكرات الموت عند الآخرين، حيث نفقد في تلك اللحظات اختيارنا وإرادتنا،
ولا يوجد في هذه اللحظة من هو أقرب إلينا من الله:
﴿وَنَحنُ أَقرَبُ إِلیهِ مِنکُم
وَلکِن لا تُبصرِون﴾. ولا يتأتى لأي أحد إنقاذنا من تلك الحالة ومن ذلك المأزق
الماثل أمامنا إلا العمل الصالح والفضل الإلهي. ونقول في هذا الدعاء: «اللّهُمَّ
ارحَمني» في هذه اللحظة.
«وَتَفَضَّل عَلَيَّ مَمدوداً عَلَی الـمُغتَسَلِ یُقَلِّبُني صالحُ جیرَتي»،
ونطلب من الله تعالى أيضاً أن يتغمّدنا برحمته وفضله ويرحمنا حين يَلُونَ غسلنا بعد
الموت، وتقلّبنا يدا المغسِّل دون إرادتنا. وهذا الكلام لي ولكم فرداً فرداً، إذ لا
ينأى أيّ واحد منا عن هذه الحالة، وهي تحلّ بنا جميعاً، فتذكّروا تلك اللحظة.
«وَتَحَنَّن عَلَيَّ مَحمولاً قَد تَناوَلَ الأَقرِباءُ أَطرافَ جِنازَتي»، حيث
يحملوننا على أكتافهم ويسيرون بنا نحو مضجعنا الأبدي.
«وَجُد عَلَيَّ مَنقولاً قَد نَزَلتُ بِكَ وَحیداً في حُفرَتي»، وينزلوننا إلى
القبر. وهذه تذكرة، فلا ينبغي لنا التغافل عن هذه الحالات، بل لا بد أن تكون ماثلة
أمام أعيننا. وهذه هي إحدى علل وبواعث توصيتنا بالذهاب إلى المقابر وزيارة الأموات.
فإن البعض يستاء من أن يذكّرهم أحدٌ بالموت، بيد أنه دواءٌ وعلاجٌ لأنانيتنا
وغفلتنا وأهوائنا النفسانية.
وقد ورد في موضع آخر من دعاء أبي حمزة الشريف: «إِلهي اِرحَمني إِذَا انقَطَعَت
حُجَّتي وَکَلَّ عَن جَوابِكَ لِساني وَطاشَ عِندَ سُؤالِكَ إِیّايَ لُبّي». فحينما
يصيبنا العجز والإعياء أمام سؤال الله، وتنفد أدلتنا، لا يمكننا كما في دار الدنيا
إبعاد الطرف الآخر عن الحقيقة من خلال استغلال جهله وغفلته وعواطفه، فإن السرائر
مكشوفة برمتها في الدار الآخرة أمام من يسألنا، فلنتذكر تلك اللحظة.
ونقرأ في فقرة أخرى: «أَبکي لِخُروجي مِن قَبري عُریاناً - اقرؤوا هذا الدعاء في
أسحار شهر رمضان بتوجه - ذَلیلاً حامِلاً ثِقلي عَلَی ظَهري أَنظُرُ مَرَّةً عَن
یَمیني وَأُخریعَن شِمالي إِذِ الخَلائِقُ في شَأنٍ غیرِ شَأني»، كلٌّ يفكر في
نفسه ولا يُسعفني أي أحدٍ في ذلك المكان؛
﴿لِکُلِّ امرِئٍ مِنهُم یَومَئِذٍ شَأنٌ
یُغنیهِ * وُجوهٌ یَومَئِذ مُسفِرَةٌ * ضاحِکَةٌ مُستَبشِرَة﴾، فالمؤمنون والمتقون
والذين يراقبون أنفسهم ولم يخرجوا عن جادة الحق والإنصاف وأداء التكليف الإلهي،
يعدّون من مصاديق هذه الجملة:
﴿وُجوهٌ یَومَئِذٍ مُسفِرَةٌ، ضاحِکَةٌ مُستَبشِرَة﴾،
هكذا هو حال البعض.
﴿وَوُجوهٌ یَومَئِذٍ عَلَیها غَبَرَةٌ، تَرهَقُها قَتَرَة﴾، إلى
هنا تنتهي الآية، وأضيفت في الدعاء كلمة: «وذِلّة». وهذا مثال من الأمثلة، فإن
أدعية شهر رمضان كسائر الأدعية الأخرى، تهدينا إلى حيث ذلك المنبع الفياض والعذب
للرحمة الإلهية.
هذا الشهر هو شهر الخشوع والاستغفار والتقوى والإنابة إلى الله وتهذيب النفس
والأخلاق. وفي خطبة الرسول الأكرم (ص) في آخر جمعة من شهر شعبان فقرات تدل على أن
شهر رمضان لا يعد شهر العبادة وحسب، وإنما هو شهر الأخلاق أيضاً، وشهر التحلي
بالفضائل الأخلاقية واستثمارها. هذه مسائل لا بد لنا من الالتفات إليها في هذا
الشهر.
قضايا هامة:
لقد أعددتُ في هذا الاجتماع الخطير والهام جداً، ثلاث قضايا أطرحها عليكم.
الأولى قضية الاقتصاد التي أشار إليها رئيس جمهوريتنا المحترم خلال كلمته التي طرح
فيها مسائل مطلوبة وأرقاماً جيدة. ولي أيضاً نظرة في هذا المجال أضعها بين أيديكم.
والثانية هي القضية النووية التي أضحت اليوم محوراً للكثير من جهودنا الخارجية
والداخلية حتى، ولديّ فيها آراء أرى من الضروري بيانها لكم، وإن أدركنا الوقت أشرنا
إلى قضايا المنطقة أيضاً.
1- القضية الاقتصاديّة، بحاجة إلى "تقوى"
وأبدأ بالحديث حول القضية الاقتصادية بأن شهر رمضان شهر التقوى، ولكن ما هي التقوى؟
التقوى هي عبارة عن حالة المراقبة المستمرة التي تؤدي بالإنسان إلى عدم الدخول في
المتاهات وعدم الوقوع في الأراضي الشائكة. والتقوى في الحقيقة هي جوشن، وهي درع يقي
الإنسان من ضرر السهام المسمومة، ويصونه من الضربات المعنوية المهلكة، ولا يتلخص
هذا بالطبع في المسائل المعنوية،
﴿وَمَن یَتَّقِ اللهَ یَجعَل لَه مَخرَجاً *
وَیَرزُقهُ مِن حَیثُ لا یَحتَسِب﴾، بل تترك آثاراً بالغة الأهمية في الشؤون
الدنيوية أيضاً، وهذه هي التقوى الشخصية.
والكلام ذاته يجري حول المجتمع والبلد. فما هي تقوى المجتمع؟ وما هي تقوى البلد؟ إن
المجتمع الذي يتعرض للهجوم، ويصبح غرضاً للسهام المسمومة، لا سيما إذا كان يحمل
كالمجتمع في نظام الجمهورية الإسلامية أهدافاً عالية وسامية، يحتاج إلى تقوى، ولكن
ما هي تقوى المجتمع؟ يمكن تحديد التقوى الاجتماعية في شتى المجالات، وفي المجال
الاقتصادي تتمثل تقوى المجتمع في الاقتصاد المقاوم. فإن أردنا في حقل الاقتصاد
صيانة أنفسنا من أضرار الهزاهز الناجمة عن الأحداث العالمية ومن السهام المسمومة
لسياسات العالم المناهضة، لا مناص لنا سوى اللجوء إلى الاقتصاد المقاوم. فإنه عاملٌ
للتحصين أمام أولئك الأشخاص وتلك القوى التي باتت توظّف كل طاقاتها الاقتصادية
والسياسية والإعلامية والأمنية للنيل من هذا الشعب وهذا البلد وهذا النظام، وإن من
السبل التي عثروا عليها في الحال الحاضر النفوذ من خلال الاقتصاد.
ولطالما ذكرنا هذا التحذير خلال الأعوام المنصرمة، والمسؤولون بدورهم قد بذلوا
جهوداً مطلوبة كلٌّ بمقدار وسعه، ولكن يجب متابعة موضوع الاقتصاد المقاوم في الداخل
عبر توظيف كل الطاقات والإمكانيات. هذه هي التقوى الاجتماعية في المجال الاقتصادي.
الاقتصاد المقاوم، تفعيل الطاقات
علماً بأن نموذج الاقتصاد المقاوم لا يختصّ بنا، بل تابعته واختارته بعض البلدان
الأخرى وشاهدت آثاره الإيجابية. فإن نقطة الارتكاز في الاقتصاد المقاوم هي أنه ينبع
من الداخل إلى جانب التطلع إلى الخارج. وكونه ذاتي التدفق لا ينبغي تفسيره بالعزلة
والانزواء، بل هو ذاتي التدفق مع النظر إلى الخارج والتوجه إلى خارج المجتمع ومع
الاعتماد على الطاقات الذاتية والإمكانيات الداخلية التي سأتعرض لها قليلاً، وقد
تحدثنا فيما مضى كثيراً عن هذا الموضوع.
إن سياسات الاقتصاد المقاوم التي تم تنظيمها وإبلاغها لم تدوّن دفعة واحدة ومن
تلقاء النفس وبالاستناد إلى الآراء الشخصية، وإنما هي وليدة تضافر العقول وحصيلة
الاستشارات الطويلة. وبعد أن تم إبلاغ [سياسات]الاقتصاد المقاوم بهذه الخصائص
وإعلانه، وطُرح في وسائل الإعلام، وبدأ السادة الأعزاء والعاملون في الحكومة
المحترمة أنشطتهم في هذا المجال، وواصلوا هذا الطريق، حظي بتأييد الكثير من الخبراء
الاقتصاديين، وباتوا يؤكدون عليه، ودخل تعبير «الاقتصاد المقاوم» في الثقافة
الاقتصادية الرائجة في البلاد، وشقّ طريقه في أدبيات البلد الاقتصادية. وهذا مؤشر
على صحة هذا الطريق وقوامه.
إن الاقتصاد المقاوم يقف في قبال النموذج القديم الذي فرضته القوى على ما يسمى
بالدول النامية أو ما يسمى بدول العالم الثالث. حيث فرضت نموذجاً - لا أريد الحديث
عن تفاصيله - يجب تطبيقه على بلدان العالم الثالث إذا ما أرادت النمو الاقتصادي
والازدهار الاقتصادي والوصول إلى مستوى الاقتصاد العالمي، ودعامته الأساسية هي
النظر إلى الخارج بتفاصيله. وأما الاقتصاد المقاوم فيقف على الضدّ تماماً منه، وهو
نموذج يغاير بالكامل ما يستند إليه النموذج القديم ويعتمد عليه. وما زال البعض من
الناس يلهجون بذكره هنا وهناك، ويرتكز على الطاقات الذاتية. وقد يتصور البعض أن هذا
النموذج مطلوب، ولكنهم يشككون في إمكانية تحققه. وأقول بكل تأكيد: إن نموذج
الاقتصاد المقاوم يمكن تطبيقه بالكامل في ظلّ الظروف الراهنة للبلد.
إمكانيّة تحقّق الاقتصاد المقاوم
إن لدينا إمكانيات كبيرة لتحقيق هذا الأمر، لم يتم توظيفها واستثمارها، ومنها:
الطاقات الإنسانية، حيث ينعم بلدنا بكم هائل من الشباب الخريجين من ذوي التخصص ومن
الواثقين بأنفسهم، وهذه هي من بركات الثورة الإسلامية، شريطة أن لا تسوق السياسات
الخاطئة المجتمع نحو الشيخوخة. وفي الحال الحاضر، فإن عدداً لا يستهان به من القوى
العاملة في البلد تتراوح أعمارهم ما بين العشرين إلى الأربعين، وهم يحملون دراسات
عليا، ويتمتعون باستعداد ذهني وفكري وقاد ومعنويات عالية وثقة بالذات. فإن لدينا
عشر ملايين خريج جامعي، وأكثر من أربعة ملايين طالب جامعي يتابع دراسته، ومعنى ذلك
تضاعف الأعداد بالمقارنة إلى أوائل الثورة 25 ضعفاً. فقد ارتفع عدد سكّان البلد من
بداية الثورة وإلى يومنا هذا ضعفين، وارتفع عدد طلاب الجامعات 25 ضعفاً، وهذه من
مفاخر الثورة الإسلامية. وهي ثروة إنسانية تشكل فرصة كبيرة للغاية.
ومن الإمكانيات الأخرى: مكانة بلدنا الاقتصادية، حيث تفيد الإحصائيات الرسمية
العالمية أن الجمهورية الإسلامية تتبوأ المرتبة الاقتصادية العشرين في العالم،
وتتوافر لدينا إمكانية الوصول إلى المرتبة الثانية عشرة، لأن هناك الكثير من
الإمكانيات التي لم يجرِ توظيفها في بلدنا، فلدينا المصادر الطبيعية، ولدينا
البترول، ونحتل الصدارة في العالم في مجال النفط والغاز، فإن ما نملكه من احتياطي
النفط والغاز معاً يفوق مخزون جميع البلدان في العالم، ولدينا مناجم كثيرة أيضاً.
ومن الإمكانيات الأخرى، الموقع الجغرافي الممتاز الذي يتمتع به بلدنا في جغرافيا
المنطقة والعالم، حيث يربط ما بين الشمال والجنوب وما بين الشرق والغرب. وهذا
بالنسبة للترانزيت ونقل الطاقة والبضائع وغيرها يعتبر غاية في الأهمية.
ومن إمكانيات بلدنا الأخرى أن يكون جاراً لخمس عشرة دولة يسكنها 370 مليون نسمة،
وهذا يعني سوقاً في متناول اليد، ولا يحتاج الوصول إليه إلى اجتياز طرق طويلة.
ومن الإمكانيات الأخرى، السوق الداخلي الذي يضم سبعين مليون نسمة. ولو وجّهنا هذا
السوق نفسه إلى الإنتاج الوطني والمحلي، لتغيّرت أوضاع الإنتاج بالكامل.
ومن الإمكانيات الأخرى، توافر البنى التحتية الأساسية في الطاقة، وفي خطوط النقل
الجوية والبرية والسكك الحديدية، وفي المواصلات، وفي المراكز التجارية، وفي محطات
الطاقة، وفي السدود. هذه هي البنى التحتية التي جرى تأسيسها على مدى هذه الأعوام
بجهود الحكومات وأبناء الشعب ومشاركتهم، ووُضعت اليوم في متناول أيدينا.
وبالإضافة إلى هذا كله، هنالك تجارب إدارية متراكمة ساعدتنا في السنوات الأخيرة على
تنمية الصادرات غير النفطية. وإن إحصائيات عام 1393 (2014) التي أشار إليها رئيس
الجمهورية المحترم، وكذلك إحصائيات السنوات الماضية تدل على تنامي الصادرات غير
النفطية في بلدنا بشكل ملموس، وهذا بدوره مثالٌ يحتذى به.
هذه بعض الإمكانيات المتوافرة في بلدنا والتي تشكّل بالطبع قسماً من الكل. والخبراء
الذين يجتمعون معنا ويتحدثون إلينا وأحياناً يرسلون لنا التقارير، يستعرضون لائحة
طويلة من الإمكانيات المتاحة التي يمكن أن تساهم في تقدم اقتصاد البلد، وكلها
صحيحة، ولا بد من استثمارها.
فإن المشكلة التي يعاني منها بلدنا في الوقت الراهن لا تكمن في فقدان المشاريع،
والكلام [الأفكار] الصائبة، بل تكمن مشكلتنا في عدم استثمار القول الصحيح والمشروع
الصائب بجدارة. هذه هي المشكلة الأساسية. ولطالما تكرر هذا المعنى في البيئات
النخبوية بأن الجمهورية الإسلامية لا تعاني من مشكلة فقدان الكلام الصحيح، فهناك
الكثير من الأقوال الصائبة التي تجري على الألسن، ولكن يجب أن نتابع هذه الأقوال
الصحيحة في العمل حتى تؤتي ثمارها ونشاهد نتائجها بالعيان.
تحديّاتٌ يجب معالجتها:
وهناك تحديات موجودة تتسبب في إيجاد الصدام والتآكل والتفتت. وإثارة المشاكل، ولا
بد من معالجتها.
ومن هذه التحديات ما هو داخلي كامن فينا، كالنظر إلى القضايا بنظرة بسيطة سطحية،
حيث نعوّل على الأعمال التي ننجزها دون إدراك عمق القضية.
وإن البحوث اللفظية والتنويرية التي تدور في المحافل لا تؤول إلى تسيير الأمور،
وإنما تجب الحركة والمبادرة. والتساهل في العمل هو التحدي الكبير الذي نعاني منه،
فقد لا تؤتي الأعمال ثمارها ونتائجها في مدة قصيرة بل تتطلب مدة طويلة وهذا ما يؤدي
بالبعض إلى الإحباط، وهو أحد التحديات.
الإنجازات الكبيرة قد تتحقق على مدى جيل كامل، وهذا ما يتطلب المبادرة والمثابرة.
فهناك الكثير من الأعمال التي لو كنا قد شرعنا فيها قبل عشرة أعوام أو خمسة عشر
عاماً لشاهدنا اليوم ثمارها. وهناك الكثير من الأعمال التي شرعنا فيها منذ عشرة
أعوام أو خمسة عشر عاماً، وبتنا نشاهد اليوم نتائجها.
ففي ذلك اليوم الذي جرى الحديث في مختلف الجامعات حول النهضة العلمية في البلاد،
وتكررت الإشارة إليها مع مختلف الفئات، لم يكن يصدّق أحد انطلاق هذه الحركة العلمية
التي تحققت خلال السنوات العشر أو الخمس عشرة الأخيرة ولكنها تحققت بالفعل، وذلك
بجهود أساتذتنا وعلمائنا وجامعاتنا وشبابنا المستعدين. فقد قطعنا اليوم بالمقارنة
مع ما قبل اثني عشر أو ثلاثة عشر عاماً خطوات شاسعة، وحققنا تقدماً باهراً وفي بعض
المجالات تقدماً محيّراً للعقول. فلنشرع بعملنا من اليوم لنجني ثماره بعد خمسة عشر
أو عشرين عاماً.
ومن تحدياتنا الأخرى اختيار السبل الموازية والسهلة والمهلكة في الوقت ذاته، وهذه
واحدة من تحدياتنا. وإنني لا أنسى في فترة رئاستي للجمهورية - والكلام يعود إلى ما
قبل 25 عاماً - حيث كنا نستورد بضاعة يحتاج إليها الشعب من أوروبا بمشقة كبيرة،
وكانت نفس هذه البضاعة متوفرة في أفريقيا ومن النوع الجيد، بيد أن القائمين على
الأعمال لم يكونوا مستعدين لذلك، حيث أوصيناهم وأكدنا على ذلك في اجتماع عقدناه
معهم، وأيدوا كلامنا وصدّقوا به، لكنها كانت عملية صعبة، وكان التعامل مع أوروبا
يتم بطريقة أسهل. فهو طريقٌ موازٍ سهل ولكنه مضرّ في الوقت ذاته، حيث يضيّق الخناق
على الإنسان ويضعّف أصدقاءه ويقوّي شوكة أعدائه ويوكل زمام الأمور في داخل البلد
إلى أناسٍ يُضمرون له العداء.
ومن التحديات الأخرى أن يتصوّر أحدٌ أننا لو تخلّينا عن أسسنا الاعتقادية، وعن
مبادئ نظام الجمهورية الإسلامية، لتعبّدت الطرق ولفُتحت الأبواب المغلقة.. وهذا خطأ
أساسي وكبير جداً. علماً بأن إخواننا في الحكومة الخدومة يبذلون جهودهم عن عقيدة،
ويؤمنون حقاً بالثورة ويعتقدون بأسسها ومبادئها ولا أوجّه إليهم اللوم والعتاب،
ولكن البعض من القائمين على الأعمال يتصورون أن التنازل عن بعض الأسس والمبادئ يفتح
أمامنا الكثير من الأبواب المغلقة، ولكن الأمر ليس كذلك، وهو خطأ كبير، ونحن قد
شاهدنا مغبة هذا الخطأ ونتائجه في بعض البلدان - التي لا أروم ذكر اسمها - خلال
الأعوام الأخيرة المنصرمة. فإن السبيل الوحيد للتقدم هو الصمود والثبات على
المبادئ.
ومن التحديات الأخرى هي تصوّر البعض أن الناس لا يطيقون المشاكل، في حين أنهم كذلك،
ولو تم تبيين حقائق الأمور للناس بصدق وصواب، فإن أبناء شعبنا أوفياء وسوف يصمدون
ويثبتون.
ومن التحديات الأخرى التشكيك في الطاقات الذاتية، وعدم الثقة بعلمائنا الشباب
وبالمجموعات الشعبية وغير الحكومية في الشؤون الاقتصادية، وهذه واحدة من التحديات.
فلا بد من الثقة بالناس، وإدخالهم في الساحة الاقتصادية العظيمة للبلد.
وبالتالي فإنّ ما يجب أن نتمتع به في مجال الاقتصاد المقاوم هو العزيمة الراسخة،
حيث يتعين علينا أن نسعى وبعزيمة جادة وراء تحقيق الاقتصاد المقاوم في الداخل بكل
ما للكلمة من معنى، وكذلك الابتعاد عن التساهل وطلب الراحة، والاتكاء على الإدارة
الجهادية التي طرحتها في العام الماضي وأكدت عليها، وهي لا تقتصر على هذه السنة، بل
إنها ضرورة مستمرة نحتاج إليها على الدوام. ففي السنين الأولى من الثورة وفي فترة
الحرب وعلى مدى هذه الأعوام الثلاثين ونيّف، حيثما استندنا إلى الإدارة الجهادية
حالفنا النجاح. فإنها قد تتسبب في بعض المشاكل ولكنها تؤول إلى التقدم وتسيير
الأمور. والإدارة الجهادية هي الاتكاء على قدرة الله والتوكل على الله وتسيير
الأمور بتدبير وعقلانية، وفي الوقت ذاته بعزم راسخ بعيد عن الخوف من جوانب القضية.
ترويج ثقافة ملائمة
ولا بد كذلك من إشاعة الثقافة المتلائمة مع الاقتصاد المقاوم، فعلى الجميع بما فيهم
الإذاعة والتلفزيون، ورؤساء الصحف ووسائل الإعلام، والمسؤولين الحكوميين، ومسوؤلي
السلطة التنفيذية، وأئمة الجمعة في كافة أرجاء البلد، وكل من له منبر يوفر له
إمكانية التحدث إلى الناس، أن يروّج الثقافة التي تناسب الاقتصاد المقاوم، بما في
ذلك التوفير واستهلاك المنتوجات المحلية.
علماً بأن خطابي الأساس فيما يخص التوفير واستهلاك المنتوجات المحلية موجّه
للمسؤولين في البلاد، لأن من أهم المستهلكين في البلد الحكومة ذاتها، فلتصرّ
ولتكلّف نفسها ولتلتزم باستهلاك المنتوجات الداخلية، حتى مع قليل من الإغماض، ولا
ضير في ذلك. إذ قد يقال إن السلعة الفلانية لا تتسم بجودة مثيلتها الخارجية، ولكن
لا إشكال في ذلك. فلو أردنا أن تكون ذات جودة، لا بد لنا من مساعدتها، وإن قمنا
بذلك ستزداد جودة، وإلا فستفقد جودتها يوماً بعد آخر.
إنّ المواجهة الجادة لعملية الاستيراد الفاقدة للمنطق هي من الضروريات. وإن مكافحة
التهريب بجدية من الضروريات أيضا، وكذلك الاهتمام بالمصانع الإنتاجية الصغيرة
والمتوسطة الذي شددت عليه في بداية هذا العام من الضروريات المؤكدة، وكذلك إعادة
النظر في السياسات المالية وأنشطة النظام المصرفي في البلد التي أشرت إليها أيضاً
في بداية هذا العام. وللخبراء والمخلصين في هذا المجال أقوال هامة لا بد من
الاستماع إليها والاهتمام بها. هذه هي الأعمال التي يجب إنجازها.
علماً بأن الشرط الأساس لتحقق هذه المسائل هو التعاطف والتلاحم والانسجام الذي أشار
إليه رئيس الجمهورية المحترم. فلا بد من دعم الحكومة ومساعدة المسؤولين، لأنهم في
وسط الميدان، ولا بد من تجنب السجالات الزائدة وإثارة المسائل الهامشية الزائدة،
فإنها مرفوضة وغير مطلوبة من أيّ طرف كان. فليتعاضد الجميع من أجل أن تؤتي هذه
الحركة العظيمة ثمارها إن شاء الله.
كان هذا حديثنا في مجال القضايا الاقتصادية. وإني أعتقد بأننا قادرون في الجانب
الاقتصادي على تحقيق إنجازات كبيرة ويحدونا الأمل أن نجتاز هذه العقبة الخطيرة إن
شاء الله.
2- الملفّ النووي
وفي القضية النووية أستعرض بادئ الأمر ثلاث نقاط من باب المقدمة، ثم أتناول المسائل
المطروحة في هذا المجال.
النقطة الأولى هي أن ما أذكره في هذه الجلسة أو في الجلسات العامة، هو نفس ما أقوله
بالضبط في الجلسات الخاصة للمسؤولين ولرئيس الجمهورية المحترم وللآخرين. وهذه
الموجة الدعائية التي شاهدناها ونشاهدها والتي تشيع أن بعض الخطوط الحمراء التي
أُعلنت رسمياً قد تم الإعراض عنها في الجلسات الخاصة، كلام باطل وكاذب. فإن الذي
نطرحه هنا عليكم أو نذكره في الجلسات العامة، هو بالضبط نفس ما نقوله للإخوان
وللمسؤولين وللفريق المفاوض، والكلام واحد.
والنقطة الثانية هي أنني أعتبر الفريق المفاوض، وهؤلاء الأعزاء الذين حملوا خلال
هذه المدة أعباء هذه المهمة على كاهلهم من الأمناء والغيارى والشجعان والمتدينين،
فليعلم الجميع ذلك. وإن معظمكم أنتم الحاضرون في هذا المجلس غير مطلعين على فحوى
المفاوضات، ولو كنتم تطلعون على محتوى المفاوضات وتفاصليها وما يجري فيها، لاعترفتم
ببعض ما ذكرته بالتأكيد.
مضافاً إلى ذلك فإني أعرف بعض هؤلاء الأحباء عن قرب والبعض الآخر عن بعد من خلال
تاريخهم، فإنهم أناس متصفون بالتدين والأمانة، وهدفهم تسيير عجلة البلد وحلّ
العُقد، وهم يبذلون جهدهم في هذا المضمار. والحق يقال إنهم يقفون بغيرة وطنية
وشجاعة أمام أولئك الذين لا أريد أن أعبّر بشأنهم التعبير الحقيقي الذي يناسبهم،
فإن بعض التعابير يليق بهم حقاً ولكن لا يجدر بنا أن نتفوّه به. فإن هؤلاء يقفون
حقاً أمام عدد كبير من أولئك بشجاعة كاملة ودقة تامة ويعلنون عن مواقفهم ويتابعونها
ويلاحقونها.
والنقطة الثالثة حول المنتقدين المحترمين. فإنني لا أخالف الانتقاد ولا أجد بأساً
فيه، بل أراه ضرورياً وعاملاً مساعداً، ولكن على الجميع أن يلتفت إلى أن الانتقاد
أسهل من العمل. إذ إننا نرى عيوب الطرف المقابل الموجود في تلك الساحة بسهولة، في
حين لا نرى الأخطار والصعوبات والهواجس والمشاكل المحدقه به.
كما إذا كنتم واقفين إلى جانب مسبح لمشاهدة شخص يريد القفز إلى الماء من ارتفاع
عشرة أمتار وهو يقوم بذلك على مرأى منكم، فتقولون وأنتم بجنب المسبح: قد انحنت رجله
وقدمه وهذا إشكال. وهو إشكال بالطبع، ولكن ابذلوا جهداً واصعدوا إلى القفاز وانظروا
إلى الماء من ارتفاع عشرة أمتار ثم احكموا.
فإن الانتقاد سهل، ولا يمنع كلامي هذا من الانتقاد، بل انتقدوا، ولكن التفتوا إلى
أن تكون انتقاداتكم ناظرة إلى هذا المعنى وهو أن الطرف المقابل قد يعلم ببعض العيوب
التي نذكرها في انتقاداتنا، ولكنهم توصّلوا إلى هذه النتيجة، أو ساقتهم الضرورة إلى
ذلك، أو لأي دليل آخر. علماً بأني لا أريد القول إنهم معصومون، كلا.. إنهم ليسوا
بمعصومين وقد يخطأون (يخطئون) أحياناً في التشخيص وفي العمل، ولكن المهم أن نعتقد
بأمانتهم وديانتهم وحميتهم وشجاعتهم.
هذه ثلاث نقاط ضرورية ذكرتها في مقدمة الحديث.
مسار التفاوض
وفيما يلي أستعرض تأريخاً مقتضباً من مسار المفاوضات. فإن هذه المفاوضات التي تفوق
في الحقيقة مباحثاتنا مع مجموعة 5+1، هي التفاوض مع الأميركيين. والأميركيون هم
الذين طلبوا إجراء هذه المفاوضات. وهذا يعود إلى الحكومة العاشرة (السابقة)، حيث
بدأت المفاوضات قبل مجيء الحكومة الحالية. فإنهم قد طلبوا ذلك وبعثوا وسيطاً، وجاءت
إحدى الشخصيات المحترمة في المنطقة والتقيت به، فقال إن الرئيس الأميركي قد اتصل به
وترجّاه قائلاً إننا نريد حلّ القضية النووية مع إيران وإلغاء الحظر. وكان كلامه
ينطوي على نقطتين رئيسيتين: الأولى قوله إننا سوف نعترف بإيران كقوة نووية،
والثانية قوله إننا سنقوم بإلغاء العقوبات خلال ستة أشهر بالتدريج. ثم قال: اجتمعوا
معاً وتفاوضوا لتحقيق هذا الأمر. فقلت لهذا الوسيط المحترم: نحن لا نثق بالأميركيين
ولا نعتمد على كلامهم. قال: جرّبوا هذه المرة، فقلت له: لا بأس، سوف نجرّب هذه
المرة أيضاً، وبذلك بدأت المفاوضات.
وأسترعي انتباه المسؤولين إلى هذه النقطة التي أروم الإشارة إليها، وعلى الجميع أن
يلتفتوا إليها، وهي أنه في النزالات العالمية، يستوجب منطق النزال العالمي أن نأخذ
ساحتين بنظر الاعتبار: الساحة الأولى ساحة الواقع والعمل، وهي الساحة الرئيسية.
والمسؤول الذي يبذل جهده في هذه الساحة، يقوم بإيجاد وإنتاج أرصدة في ميدان العمل.
والساحة الأخرى هي الساحة الدبلوماسية والسياسية التي يقوم [المسؤول] فيها بتبديل
الأرصدة في ميدان الدبلوماسية والسياسة والمفاوضات إلى امتياز وإلى مصلحة وطنية.
فلو كان الإنسان في الساحة الأولى صفر اليدين، لا يمكنه إنجاز عملٍ في الساحة
الثانية، بل لا بد في الساحة الثانية وهي ساحة العمل والواقع والساحة الميدانية أن
يكون صاحب مكاسب ورصيد.
"فهُزم الطرف المقابل"!
ولقد خضنا في ذلك اليوم المفاوضات بإنجازات مقبولة وهامة، وشعرنا بأننا نباشر هذه
المفاوضات باقتدار. ومن إنجازاتنا في ذلك اليوم أننا استطعنا بعد أن امتنعت جميع
القوى النووية في العالم عن بيع الوقود النووي المخصب بنسبة 20 بالمائة لمفاعل
طهران النووي من أجل إنتاج الأدوية النووية التي كنا بحاجة إليها، استطعنا تحت ظلّ
الحظر أن نقوم بإنتاج الوقود المخصب بنسبة 20 بالمائة، ومن ثم تبديله إلى صفائح
وقود واستثماره، فهُزم الطرف المقابل!
ولهذا قصة طويلة، لعل الكثير منكم مطلع عليها، فإنهم خلال مفاوضات طويلة، لم يقبلوا
بإعطاء الوقود المخصب بنسبة 20 بالمئة وبيعه لنا أو بالسماح لأن يبيعه لنا طرف
آخر. فقلنا سنتصدى بأنفسنا لإنتاجه في الداخل، واستطاع شبابنا وعلماؤنا وهذه الطبقة
الكادحة المندفعة الواثقة بذاتها، أن يبهروا أعين الطرف المقابل، وأن يقوموا بإنتاج
الوقود المخصب بنسبة 20 بالمئة. وأنتم تعلمون، ولعلي أشرت إلى هذه القضية ثانية،
بأن الجانب المهم والصعب في عملية التخصيب النووي، هو الانتقال من 3 و 4 بالمئة إلى
20 بالمئة، وأما الانتقال من 20 بالمئة إلى 90 بالمئة فهو انتقال بسيط جداً. ومن
توصّل إلى تخصيب 20 بالمئة، سيسهل عليه كثيراً اجتياز باقي المراحل.
نحن بدأنا بالمفاوضات بهذه الروح، وقد أثمرت استراتيجية الصبر والصمود أمام الضغوط.
واعترف الأميركيون بأن الحظر لا جدوى منه، كما أشاروا إلى ذلك، وهو تحليل صائب
بالكامل. فقد توصل (الأميركيون) إلى هذه النتيجة بأن الحظر ليس له ذلك الأثر
المنشود لديهم، وبدأوا بالتفتيش عن سبيل آخر - لقد أدركنا الوقت، وعليّ أن أسارع في
بيان النقاط - وعرفوا بأننا قادرون على الوصول إلى تقنية متطورة دون تبعية. ونحن
أيضاً وبهذا المنطق توكلنا ودخلنا ساحة المفاوضات.
هدفهم القضاء على الصناعة النووية..
علماً بأننا لم نجانب الاحتياط. وكانت نظرتنا منذ البداية للأطراف المتفاوضة وللطرف
الأمريكي نظرة مشوبة بالشك والتردد، ولم نكن على ثقة بهم وفق التجارب السابقة،
فدخلنا هذه الساحة من البداية بتحفّظ. وكنا نحمل هذه الرؤية بأنهم لو ثبتوا على
كلامهم، فلا يوجد إشكال من جانبنا لأن ندفع ثمن ذلك، وهذا يعني أننا لا نعتقد بوجوب
عدم دفع أي كلفة في المفاوضات، وعدم التراجع عن أي حقل من حقول الموضوعات المطروحة؛
كلا، بل كنا على استعداد لأن ندفع الثمن بالمقدار الصحيح والمنطقي والعقلاني. بيد
أننا كنا نطالب بالتوصل إلى اتفاق جيد. وأقولها هنا: إننا نتحدث عن الاتفاق الجيد،
والأميركيون أيضاً يتحدثون عن الاتفاق الجيد، غير أننا نقصد بالاتفاق الجيد الاتفاق
المتسم بالإنصاف والعدالة، وهم يقصدون بالاتفاق الجيد الاتفاق القائم على أساس
النزعة التوسعية.
وبعد أن قطعنا خطوات قليلة في المفاوضات بدأت مطاليبهم تتوسع، وبدأوا في كل يوم
يطلقون كلاماً ويتذرعون بذريعة، فتبدّلت فترة ستة أشهر إلى عام وامتدت بعد ذلك،
واتخذت المفاوضات أشكالاً مختلفة، وأطالت المساومات وحالات الجشع مدة المفاوضات،
وهددوا بفرض مزيد من العقوبات، بل وحتى هدّدوا باللجوء إلى الخيار العسكري، وقد
سمعتم تصريحاتهم الدالة على الخيارات المطروحة فوق الطاولة وتحت الطاولة. هذا كان
سلوكهم حتى اليوم.
وكل من يطالع مسيرة المطالب الأمريكية خلال هذه المدة وينظر إلى أسلوب كلامهم،
سيتوصل إلى هذه النتيجة التي تنطوي على نقطتين أساسيتين: الأولى هي أن هدفهم
استئصال الصناعة النووية في البلد والقضاء عليها. هذا هو هدفهم وهذه هي بغيتهم، حيث
يهدفون إلى تدمير الطبيعة النووية للبلاد، وتحويلها إلى اسم ولوحة كاريكاتورية بلا
محتوى ولا مضمون، ويهدفون إلى الحيلولة دون مواصلة الحركة النووية في البلد وتحقق
الصناعة النووية وفق أهداف نظام الجمهورية الإسلامية.
ولقد أعلنا ضرورة أن يكون لنا 20 ألف ميغاواط من الطاقة الكهربائية النووية حتى
أجلٍ معين. وهذا المقدار من الطاقة الكهربائية النووية يعد حاجة ملحة للبلاد. وقد
تم حساب هذه الكمية على يد الأجهزة المعنية في البلد، ولو تحقق ذلك لتضمن في هامشه
منافع جمة ولبى الكثير من الاحتياجات الأخرى. وهذا ما لا يبتغون تحققه. ورغم
محاولاتهم للقضاء على هذه الصناعة، يحاولون مواصلة الضغوط، وعدم إلغاء الحظر
بالكامل كما تلاحظون، ويهددون كذلك بفرض المزيد من العقوبات. هذه نقطة.
والنقطة الثانية هي أن الطرف الذي يواجهنا، وهو الحكومة والإدارة الأمريكية
الحالية، بحاجة إلى هذا الاتفاق، وهذا هو الوجه الآخر للقضية، فإنهم بحاجة إلى ذلك،
ولو استطاعوا تحقيق مآربهم هنا فقد حققوا انتصاراً كبيراً، وهو في الحقيقة انتصار
على الثورة الإسلامية، وانتصار على الشعب المنادي بالاستقلال، وانتصار على بلدٍ
بإمكانه أن يكون نموذجاً لسائر البلاد، ولذا فإن الإدارة الأمريكية بحاجة إلى هذا
الاتفاق. وكل ما يقوم به هؤلاء من حالات المهاترة والمساومة ونقض العهود والتزوير
يدور في مدار هاتين النقطتين.
نحن دخلنا هذه الساحة منذ البداية بمنطق وتحدثنا بمنطق ولم نطمح للمزيد. وقلنا إن
الطرف الآخر قد فرض علينا حظراً ظالماً ونحن نروم إلغاءه، وهذا بالتالي أخذ وعطاء،
ولا مانع لدينا في هذا المجال من أن نعطي شيئاً ونأخذ شيئاً لإلغاء العقوبات شريطة
أن لا تتوقف الصناعة النووية وأن لا يجري المساس بها. هذا هو كلامنا الأول، ولقد
صرّحنا به منذ البداية وتابعناه حتى يومنا هذا.
خطوط حمراء!
وفيما يلي أطرح عليكم أهم الخطوط الحمراء. فقد أشرنا إلى جملة من المسائل كنقاط
رئيسة، وهذه هي أهمها، وتوجد بالطبع مسائل أخرى.
الأولى أنهم يصرون على قيود طويلة الأمد، ونحن قلنا إننا لا نقبل بقيود تطول عشرة
أعوام أو اثني عشر عاماً وأمثال ذلك. فإن عشرة أعوام تنزل منزلة العمر، وكل ما
اكتسبناه خلال هذه المدة قد تحقق فيما يقرب من عشرة أعوام! صحيح أن تاريخ الصناعة
النووية في بلدنا يعود إلى ما قبل ذلك، وقد أشير إلى هذه المسألة في بعض الكلمات،
ولكنه في الحقيقة لم يتم إنجاز أيّ عمل في تلك السنوات الأولى، ويعود الإنجاز
الأساسي والرئيس إلى هذه السنوات العشر أو الخمس عشرة الأخيرة تقريباً. على أي حال
نحن نرفض القيود لمدة عشرة أعوام، وقد أبلغنا المفاوضين بعدد السنوات التي نقبلها،
فإننا بالتالي قد قبلنا بالقيود، ولكن ذكرنا في الوقت ذاته بأننا لا نقبل بما يذكره
السادة من أن تكون فترة الالتزام بالقيود عشرة أعوام أو اثني عشر عاماً وما إلى
ذلك.
وخلال الفترة المحدودة التي نتقيّد بها، لا بد من مواصلة البحث والتنمية والبناء،
وهذه من جملة الخطوط الحمراء التي أكّد المسؤولون المحترمون عليها، وقالوا: نحن
لسنا على استعداد لأن نتخلى عن البحث والتنمية، والحق معهم. فإنه على مرّ السنوات
التي نتقيد بها، لا بد من مواصلة البحث والتنمية. إلا أنهم [أي الطرف المقابل ]
يطلقون كلاماً آخر، حيث يقولون لا تقوموا بإنجاز أي عمل خلال 10 أعوام أو 12 عاماً
أو أكثر، ثم شرعوا بعد ذلك بالإنتاج والبناء! إلا أنه كلام تعسفي وباطل بالكامل.
ومن النقاط المهمة الأخرى، وأقولها بصراحة: يجب إلغاء جميع العقوبات الاقتصادية
والمالية والمصرفية سواء ما يتعلق بمجلس الأمن أو الكونغرس الأمريكي أو الإدارة
الأمريكية فور إبرام الاتفاق. وبقية العقوبات لا بد أن تلغى خلال فترات زمنية
معقولة. علماً بأن الأميركيين يطرحون حول الحظر معادلة معقدة ومغلفة بعدة أغلفة
غريبة ومدهشة بحيث لا يمكن مشاهدة عمقها ولا يُعلم ماذا سيكون نتاجها. ولقد أشرت
إلى أني أتحدث بصراحة، ولا أجيد اللغة الدبلوماسية كثيراً. فإن ما أعلنّاه بصراحة
هو الذي يمثل وجهة نظرنا.
والنقطة الأساسية الأخرى هي أن إلغاء العقوبات ليس مربوطاً بتنفيذ ما تتعهده إيران،
ولا يمكنهم أن يقولوا: عليكم بتدمير مفاعل المياه الثقيلة في أراك، وتقليص إنتاج
أجهزة الطرد المركزي إلى هذا المقدار، والقيام بهذا العمل وذاك، ومن بعدها تشهد
الوكالة الدولية للطاقة الذرية على صدق قولكم وعلى أنكم أنجزتم هذه الأمور، ثم نقوم
بإلغاء العقوبات! فإن هذا ما نرفضه رفضاً باتاً. وإن إلغاء الحظر لا يناط بالتزام
إيران بتعهداتها. علماً بأن لإلغاء الحظر مراحل تنفيذية، وهذا ما نعترف به، بيد أن
تنفيذ إلغاء الحظر لا بد وأن يكون متناظراً مع التزام إيران بتعهداتها، فشطر من هذا
حيال شطر من ذاك، وشطر آخر من هذا إزاء شطر آخر من ذاك.
والنقطة الرئيسة الأخرى هي أننا نرفض إناطة أي مبادرة بتقرير الوكالة، فإننا لا نثق
بالوكالة، لأنها قد أثبتت أنها غير مستقلة وغير عادلة؛ غير مستقلة لأنها تتأثر
بالقوى، وغير عادلة لأنها مراراً وتكراراً قد أصدرت حكماً وأبدت رأياً ينافي
العدالة.
مضافاً إلى ذلك، أن يقولوا: «يجب أن تثق الوكالة بعدم وجود أنشطة نووية في البلد»،
فهو كلام بعيد عن المنطق، إذ كيف يتسنى لها الوثوق؟ وأساساً ما هو المراد من
الوثوق؟ سوى أن يقوموا بتفتيش البيوت واحداً تلو الآخر وتفتيش أرض البلد شبراً
شبراً؟ وإلا فأنّى يمكنهم الوثوق؟ وبالتالي فإن إناطة الأمور بهذه القضية بعيد عن
المنطق وخارج عن العدالة.
كما لا أوافق على حالات التفتيش غير المألوفة، وأرفض استجواب الشخصيات رفضاً باتاً،
ولا نقبل بتفتيش المراكز العسكرية كما أشرنا إلى ذلك فيما مضى. وإن فترة 15 سنة و25
سنة التي تتكرر على ألسنتهم بأنه 15 سنة لهذا الأمر، و25 سنة لذاك الأمر، وأمثال
هذه الفترات الزمنية لا نقبل بها أيضاً، فإن الفترة محددة ولها بداية ونهاية وسوف
ينتهي أمدها.
هذه هي أمهات المسائل التي أكدنا عليها، علماً بأن الخطوط الحمراء لا تقتصر عليها،
والأعزاء في الفريق المفاوض مطلعون على آرائنا، وقد أبلغناهم بتفاصيل الأمور
المطلوبة التي أتدخل فيها، وهناك الكثير من التفاصيل التي لا أتدخل فيها شخصياً.
نحن نريد اتفاقًا.. يتّسم بالعزّة!
نحن نريد إبرام الاتفاق، ومن يقول إن هناك بين المسؤولين في الجمهورية الإسلامية
مَن لا يريد التوصّل إلى اتفاق، فقد خالف الواقع، وليعلم الجميع ذلك. فإن المسؤولين
في الجمهورية الإسلامية بمن فيهم أنا العبد والحكومة والمجلس والسلطة القضائية
والأجهزة المختلفة الأمنية والعسكرية وغيرها، قد أجمعوا على ضرورة التوصل إلى
اتفاق، واتفقت كلمتهم أيضاً على ضرورة أن يتسم الاتفاق بالعزة، وأن يضمن مصالح
الجمهورية الإسلامية بدقة بالغة، ولا يوجد أي اختلاف في ذلك. فقد أجمعت الحكومة
والمجلس وهذا العبد والآخرون كلهم على هذا الأمر، وتوحّدت آراؤنا في ذلك. فلا بد أن
يتسم الاتفاق بالإنصاف وأن يضمن منافع الجمهورية الإسلامية.
وأقولها أيضاً: نحن نروم القضاء على العقوبات وإلغاءها، والهدف الذي نتوخاه من
المفاوضات هو إلغاء الحظر، وهذا ما نطالب به بجدية، ولكننا في الوقت ذاته نعتبر
الحظر فرصة، فلا يتعجب البعض متسائلاً: كيف يكون الحظر فرصة وهو أمرٌ سيّئ جداً؟
[والجواب: ] لأن هذا الحظر قد تسبب في أن نراجع أنفسنا، وأن نفكر في قدراتنا
الداخلية، وأن نفتّش عن طاقاتنا الذاتية.
وأما أن نستورد كل شيء من الخارج بأموال النفط، فهذا أسوأ بلية وأكبر مشكلة لبلدٍ
كبلدنا. وللأسف فإن بلدنا منذ ما قبل انتصار الثورة يعاني من هذه المشكلة، وما زالت
هذه المعاناة مستمرة إلى حدّ كبير، ولكن يجب علينا إزالتها. فإننا قد تقدمنا في
العلم والتكنولوجيا وفي شتى القضايا بالاعتماد على الإمكانيات الداخلية، وسننهج نفس
هذا النهج في الجانب الاقتصادي أيضاً إن شاء الله.
إلهنا! نقسم عليك بمحمد وآل محمد أن تجعل ما قلناه وسمعناه لوجهك وفي سبيلك وفي
خدمة عبادك، وأن تجعل نوايانا خالصة.
إلهنا! مُنّ بتوفيقك على المسؤولين والناشطين في الحكومة والمجلس والسلطة القضائية
والقوات المسلحة الذين يبذلون مساعيهم وجهودهم، وخذ بأيديهم واهدهم إلى سواء
السبيل.
والسلام علیكم ورحمة الله وبرکاته.