كلمة
الإمام الخامنئيّ مع الشباب النخب 17/10/2018م
بسم الله الرحمن الرحيم (1(
والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين، ولا
سيّما بقيّة الله في الأرضين.
إنّ لقاء هذا الجمع من النخب الشابّة، يبعث الفرح والأمل! وبالطبع، أنا مسرورٌ،
حتّى وإنْ لم ألقاكم وجهًا لوجه؛ لأني مطّلعٌ على وجودكم، على جهودكم، على الحركة
العظيمة التي انطلقت في البلاد لإعداد النخب، لكنّ رؤيتَكم -بالطبع- تزيدنا فرحًا
وسرورًا.
أشكركم جزيل الشكر لمجيئكم اليوم، وأحمد الله -تعالى- على هذا التوفيق الذي حبانا
به اليوم؛ حيث يبعث في الإنسان أملًا كبيرًا. وأنا العبد هكذا بالنسبة للأمل؛ فأنا
لست يائسًا أبدًا؛ لم أيأس سابقًا، ولن أيأس في المستقبل إن شاء الله. ولكن، عندما
يراكم المرء عن قربٍ ويسمع هذا الكلام الجيّد جدًّا الذي ذُكر هنا، فإنَّ أملَه سوف
يزداد بالتأكيد.
سجَّلتُ عدّة نقاطٍ لأطرحها، إحداها تتعلّق بالنخب، بحثٌ آخر يتعلّق بالجامعات،
وإذا سنحت الفرصة، فهناك كلامٌ عن قضايا البلاد العامّة.
أقول بدايةً: إنَّ بعض الآراء التي طُرحت هنا هي موضع تأييدي وقبولي مئةً في المئة.
وبالطبع، فإنَّ بعض الآراء كانت تخصّصيّةً وخارجَ حيِّز معلوماتي واطّلاعي، ولكنْ
بعض الآراء التي طرحها الأعزاء هنا -السادة والسيّدات- كانت آراءً متينةً ومُتقنةً
جدًّا، والمخاطَب في بعضها نحن، وسوف نتابعها إن شاء الله، والمخاطَب في بعضها
الآخر هم المسؤولون المحترمون، وهم حاضرون في هذه الجلسة -الوزراء المحترمون ومعاون
رئيس الجمهوريّة المحترم هم المخاطبون بهذا الكلام- وخصوصًا هذا العِتاب الذي طرحه
هذا الشابّ في آخر كلمته، هذه آراءٌ وطروحاتٌ مُهمّةٌ، ويجب أخذُها مأخذ الجدّ، ولا
نريد التعميم -وهذا الشابّ يُعمّمها طبعًا- كَلّا، لا نريد تعميمها، لكنّ الواقع هو
أنّ مثل هذه الأمور والحالات موجودةٌ، وينبغي على مسؤولِينا الأعزّاء أن يتابعوها
بجدّيّةٍ إن شاء الله.
بالنسبة للنخب، إنَّ النظر للنخبة ممكنٌ مِن عدّةِ زوايا
إحدى هذه الزوايا زاوية الرضا والفخر والشعور بالأمل وما شابه. وفي الواقع، هذه هي
الصورة الصحيحة لوضع البلاد؛ أيْ إنَّ الإنسان، عندما ينظر ويرى عشرات الآلاف من
النخب في أرجاء البلاد كلّها، يعملون في قطاعاتٍ مختلفةٍ، فإنَّ هذه الصورة ستُصحّح
نظرة الإنسان لقضايا البلاد وتعطيه الصورة الصحيحة. هناك نظرةٌ للنخب من هذه
الزاوية، تعرض على المرء واقعيّاتٍ تبعث على الرضى والسرور.
هناك زاوية نظرٍ أخرى، زاوية التخطيط لقضايا البلاد
أحيانًا لا توجد في البلاد عقولٌ نشطةٌ ومفكّرةٌ، فيخطّط المرء لقضايا البلاد بشكلٍ
معيّنٍ. ولكن عندما تكون هناك آلاف الطاقات الشابّة النشطة والنخبة وصاحبة الأفكار
الكبرى، ولا شكَّ أنّ بين هؤلاء عددًا من ذوي القدرات والمؤهّلات الإداريّة؛ لأنَّ
الأفكار الكبرى لا تترافق دومًا مع القدرة على الإدارة، وفي ضوء هذه الطاقات كلّها،
يتمّ التخطيط للبلاد بشكلٍ آخر. إذًا، النظر للنخب يمكن أن يكون من هذه الزاوية
أيضًا، ويجري الاهتمام بهم من هذه الزاوية أيضًا وهي قضيّةٌ أساسيّةٌ، تأثير النخبة
في التخطيط لشؤون البلاد. خذوا، على سبيل المثال، تبديل الاقتصاد النفطيّ إلى
اقتصادٍ مستقلٍّ، واقتصادٍ علميّ الأساس، واقتصادٍ مقاومٍ؛ إذا لم يكن لدينا عناصر
نخبةٍ فعّالةٌ ومخلصةٌ ونشطةٌ، فلن نُقدِمَ على تغيير اقتصادِنا. ولكن، إذا كان
هناك عناصر كفوءةٌ ونشطةٌ متوافرةٌ لدى نظامِ اتّخاذِ القرارات في البلاد، فسوف
يُبادر النظام طبعًا لهذه الأعمال. تارةً، لا يكون لدينا إمكانيّاتٌ فكريّةٌ
وتخطيطيّةٌ، من قبيل هندسة النفط مثلًا، فنقول: لا بأس، لننتفع من آبار النفط كما
كنّا ننتفع منها إلى الآن، وتارةً أخرى، كلّا، لدينا في قطاع الهندسة -بما في ذلك
هندسة النفط- حالاتُ تقدّمٍ استثنائيّةٍ، ونستطيع إطلاق خطّةٍ ونمطٍ جديدٍ في طريقة
الانتفاع من النفط، وهذا أمرٌ نبَّهْتُ له المسؤولين النفطيّين في البلاد، عندما
قدَّموا في السنة الماضية مشروعًا جديدًا للانتفاع من المعاملات النفطيّة، قلنا:
حسنًا، تعالوا واطرحوا هذه الأمور مع شبابنا ومتخصّصينا، وقولوا لهم: إنَّ
استحصالَنا من آبار النفط -مثلًا- ثلاثون في المئة، ونريد إيصال هذه النسبة إلى
ستّين في المئة، واطلبوا منهم أن يعملوا، وامنحوهم فرصة سنتين أو ثلاث سنواتٍ،
وسنصل إلى ذلك الهدف يقينًا. إذًا، وجود النخب يؤثّر في نظام التخطيط. هذه بدورها
زاوية نظرٍ أخرى للنخب.
الزاوية الثالثة، النظرة الثالثة، هي قضيّة التقدّم
العلميّ في البلاد
نحن بحاجةٍ إلى التقدّم من الناحية العلميّة. هذه حاجتنا الأكيدة. إذا لم نتقدّم من
الناحية العلميّة، فسيكون تهديدُ أعدائنا الحضاريّين وأعدائنا الثقافيّين
والسياسيّين تهديدًا دائمًا. أمّا إذا تقدّمنا علميًّا، فإنّ هذا التهديد سوف
يتوقّف، أو تقلُّ مخاطره. لقد شدَّدت مرارًا على هذه النقطة. منذ قرابة عشرين عامًا
وأنا أركّز على هذه النقطة، وقد ذكرت هذا الحديث الشريف مرارًا: «اَلعِلمُ سُلطان»
(2)؛ العلم قوّةٌ وقدرةٌ. النظر للنخب يكتسب أهمّيّته من هذه الزاوية أيضًا. بمقدور
النخب أن يعملوا على تقدّم العلم في البلاد، وإيصال البلاد إلى مقام الاقتدار
والعزّة التي تقلّل من تعرّضها للمخاطر والتهديدات. هذه هي الزاوية الثالثة.
والزاوية الرابعة، التقدّم بحدود العلم إلى الأمام
للعلوم على المستوى البشري -لا على مستوى البلاد- حدودها المعيّنة في الوقت الحاضر.
حسنًا، لنقمْ بدورٍ في تحطيم هذه الحدود والتقدّم بها إلى الأمام وتوسيع حدود
العلم. لقد كانت مساهمتنا في هذا المضمار ضئيلةً جدًّا خلال القرون الأخيرة.
بمقدورنا أن نساهم. الآخرون هم الذين اكتشفوا الطاقة البخاريّة، وكذلك الطاقة
الكهربائيّة، وغيرها من الاختراعات، ونحن أيضًا يجب أن يكون لنا إسهامنا ودورنا،
وينبغي أن نفتح حدود العلم في البلاد ونتقدّم إلى الأمام. هذه الطبيعة، التي خلقها
الله، فيها طاقاتٌ وقوىً كثيرةٌ جدًّا. ليفكّر نخبتنا ويكتشفوا الطاقات الجديدة في
الطبيعة. هذه الكهرباء كانت موجودةً منذ بداية خلق هذا العالَم، لكنّنا لم نكن نعلم
بوجودها، لم يكن البشر يعلمون بها، ولم يكونوا ينتفعون منها، وفي فترةٍ لاحقةٍ
اكتشفها عقلٌ متفوّقٌ وفِكرٌ نخبويٌّ، وأصبحت الآن محور الحضارات البشريّة كلّها،
فما الإشكال في أن تفكّروا بأنّ هناك عشر طاقاتٍ أو عشرين طاقةً أخرى في الطبيعة
يمكنها أن تؤثّر بنفس الدرجة في حياة البشر وتقدّمهم وسعادتهم؟ يجب على نخبنا أن
يكتشفوا عدد هذه الطاقات الكامنة والإمكانيّات الخفيّة. ينبغي أن نتوسّع بحدود
الاكتشافات والعلوم. إذًا، نحن ننظر للنخب من هذه الزاوية أيضًا. لاحظوا، إنّني حين
أرى للنخبة هذه القيمة كلّها والاحترام كلّه، فمن هذه المنطلقات وزوايا النظر. يمكن
لنخبتنا أن يكونوا مؤثرين في واقع الحياة، وفي واقع التخطيط، وفي واقع تقدّم
البلاد، وفي تقدّم البشريّة.
لاحظوا كم كنّا متأخّرين!
حسنًا، ثمّة نقطةٌ لا أستطيع أن لا أذكرها هنا، وهي النظر لماضي بلادنا المرير على
مدى المئتي سنةٍ الماضية. أنتم الشباب -وخصوصًا الذين درسوا الفروع العلميّة وما
شاكل- قلَّما لديكم اطّلاعُكم على هذا الجانب؛ لأنّكم -للأسف- لا تقرؤون التاريخ
عادةً. لقد تأخّرنا عن قافلة العلم في العالَم مدّة مئتي عامٍ تقريبًا، بسبب عدم
الاكتراث للنخب وعدم الاكتراث للمواهب الإيرانيّة. حسنًا، هذه المواهب التي ترونها
في البلاد اليوم لم تظهر فجأةً وفي لحظةٍ واحدةٍ؛ فلقد كانت موجودةً على مدى
التاريخ، والدليل على ذلك وجود الفارابي وابن سينا والخوارزميّ ومئات العلماء
الكبار المعروفين في التاريخ والمشهورين في العالم -وليس في إيران فقط- وهم من
إيران. إذًا، لقد كانت هذه المواهب موجودةً، فلماذا تأخّرنا هكذا خلال الأعوام
المئتين الأخيرة عندما تقدَّم العلم بهذه الوتيرة المتسارعة، إلى درجةٍ تحوّلنا
معها، في أواخر الفترة القاجاريّة وخلال الفترة البهلويّة، إلى إحدى أكثر البلدان
تخلّفًا من حيث العلوم المعاصرة؟ هذا ماضٍ عجيبٌ مريرٌ للغاية.
لاحظوا أنّنا، تقريبًا، نُشكِّلُ واحدًا في المئة من سكّان العالَم -عدد سكّان
بلادنا واحدٌ في المئة من عدد سكّان العالَم تقريبًا، وقد كان هذا هو الحال في
العقود التي سبقت الثورة إلى حدٍّ ما، تزيد أو تنقص قليلًا، نحن بحدود واحدٍ في
المئة من سكّان العالَم- إذًا، ينبغي أن تكون حصّتنا من الجهود الإنسانيّة المشتركة
واحدًا في المئة على الأقلّ. إنتاج العلم في نهايات العهد البهلويّ -أي في نهايات
المئتي عامٍ هذه، والتي تنتهي بسنة 1357 [1979م] حين انتصرت الثورة الإسلاميّة
المباركة- كان عُشر الواحد في المئة! إنتاج العلم في سنة 57، وهي سنة انتصار
الثورة، كان عُشر الواحد في المئة! لاحظوا كم كنّا متأخّرين! لقد كان هذا بسبب عدم
كفاءة الحُكّام، وليس له سببٌ آخر. الحكّام غير الأكفّاء واللاهثون وراء الدنيا
والمادّيّون والعملاء وعديمو الهمّة والغيرة كانوا يتكبّرون ويتبخترون مقابل الشعب،
لكنهم كانوا ينحنون حتى الركوع أمام الأجنبيّ، ولم يكونوا يفكّرون في مصالح شعبهم.
لقد كان هذا هو وضع بلادنا. لقد كانت هذه هي الإحصائيّات المريرة، ولكن، بفضلٍ من
الله، حقّقنا في الوقت الحاضر أكثر من حصّتنا في إنتاج العلم؛ أي بحدود ضعفي
حصّتنا؛ بمعنى أنّنا يجب أن نساهم بواحدٍ في المئة من إنتاج العلم، بينما حقّقنا
-تقريبًا- اثنين في المئة من إنتاج العلم. حقّقنا 9/1 في المئة من إنتاج العلم، وهو
شيءٌ حسنٌ. ونحن غير قانعين -طبعًا- ويجب أن نحقّق إسهامًا أكثر من هذا، لكن هذا هو
إسهامنا، وقد أشار السيّد الدكتور غلامي إلى بعض الإحصائيّات، وذكر آخرون إحصائيّات
أخرى، وربما سأشير أيضًا إلى بعض الأمور، إذا اتّسع الوقت.
شكرًا للثورة والإمام على هذه الحركة العظيمة
في بهمن سنة 1313 [1934م] -وأنتم يجب أن تتنبّهوا لهذه الأمور، أنتم الشباب
الصالحون المؤمنون المفكّرون الأذكياء، يجب أن تعلموا هذه الأمور عن بلادكم- تأسّست
جامعة طهران، وهي أوّل جامعةٍ في البلاد. وبعد 44 سنةً؛ أي في سنة 1357 [1979م]؛ أي
قُبيل انتصار الثورة الإسلاميّة، كان عدد الطلبة الجامعيّين كلّهم في البلاد 150
ألف نسمةٍ. وكان هناك عددٌ مماثلٌ من الخرّيجين؛ أي بعد 44 سنةً من تأسيس الجامعات
في البلاد، كان لدينا 150 ألف طالبٍ جامعيٍّ فقط! لقد مضى على الثورة الآن أربعون
عامًا، ويوجد لدينا أكثر من أربعة ملايين من الطلبة الجامعيّين، ولدينا عدّة
ملايينٍ من الخرّيجين. لاحظوا، نوعان من الدولة، ونوعان من الأنظمة يعبّران عن
نفسَيهما هنا، وفي مثل هذه المجالات. هذا هو الماضي المظلم والمرير لقصّة العلوم
والنخبة في بلادنا. لم يكن يجري إعداد نخبةٍ، وإذا ظهر شخصٌ مثل "أمير كبير"، كانوا
يذيقونه الويلات بذاك الشكل. وفي العصر البهلويّ، كان الوضع أسوأ من هذا، لكنّهم
كانوا يتظاهرون ويُلمِّعون الصورة. كان هناك تخلّفٌ علميٌّ وتخلّفٌ ثقافيٌّ وتخلّفٌ
أخلاقيٌّ وتخلّفٌ سياسيٌّ. ينبغي شكر الجمهوريّة الإسلاميّة والثورة والإمام
الخمينيّ الجليل على هذه الحركة العظيمة!
حسنًا، أريد تقديم توصياتٍ عدّةٍ بشأن النخبة
إحدى النقاط هي أنّه يجب أن يكون هناك تواصلٌ وتعاملٌ متبادَلٌ بين النخب ونظام
الإدارة في البلاد؛ ينبغي أن يكون هذا التواصل والتعامل ثنائيًّا من الطرفين. هم
طبعًا يحاولون تحقيق هذا التواصل -وقد كان هذا في كلام السيّد الدكتور ستّاري- ولكن
ينبغي العمل بشكلٍ أكثر جدّيّةً في هذا المضمار، وربما عدتُ لاحقًا للتحدّث عن هذا
الجانب بمزيدٍ من الإيضاح؛ تعاملٌ ثنائيٌّ.
معنى هذا التعامل المتبادل، من طرف النخب، هو أن يوظِّفوا إمكانيّاتهم كلَّها
لتقدّم البلاد. طبعًا، قد يستطيعون القيام بهذا العمل بشكلٍ شخصيٍّ أحيانًا،
وأحيانًا يجب على أجهزة الحكومة أن تساعد. إذًا، دور النخبة هو أن يتقدّموا
ببلادهم، ويضعوا طاقاتهم ومواهبهم وقدراتهم في خدمة بلدهم. ودور الأجهزة الحكوميّة
والنظام الإداريّ في البلاد هو أن يقدّم الخدمات، ويرفع العقبات، ولا يسمح بتخلّف
النخب عن ممارسة دورهم؛ فإذا تخلّف النخبة عندنا عن ممارسة دورهم، سوف يتخلّف البلد
كلّه. ينبغي للنخبة أن يتحرّكوا وينشطوا ويتقدّموا، وإلّا فإنّه لا يكفي مجرّد أن
يكونوا نخبةً. النخب الروّاد والفعّالون والنشطون هم ثروةٌ عظيمةٌ للبلاد. هذه
نقطة.
النخبة معرّضة للخطر!
ونقطة أخرى ينبغي الالتفات لها أيضًا، وهي أنّه قد ثبت في العالَم اليوم أنّه ما من
شيءٍ يؤثّر في تقدّم البلد كالموارد البشريّة، أصبح هذا أمرًا واضحًا. إذا كانت
الموارد البشريّة جيّدةً ومميّزةً، فإنَّ البلد سوف يتقدّم، وإلّا فلا. إذًا،
الموارد البشريّة كنزٌ وثروةٌ عظيمةٌ لأيّ بلدٍ، بما في ذلك بلدنا. حسنًا، طالما
كان هذا كنزًا وثروةً، فهو -كأيّ ثروةٍ أخرى- عرضةٌ للنهب والغارات والاعتداء،
والعدوّ يفكّر في انتزاع هذه الثروة من يد البلاد. وهذا ليس حالةً خاصّةً بنا،
وربّما كان أشدَّ بالنسبة لبلادنا العزيزة. نظام الهيمنة والتسلّط يهدف لنهب هذه
الثروة من يد الشعوب كلّها. ولكن لماذا يريد انتزاعها؟ من أجل أن ينتفع هو منها؟
كلّا، ليست هذه القضيّة كلّها. طبعًا، إذا استطاع هو أن ينتفع منها، فسوف ينتفع،
لكن هدفه الأساسيّ الآخر هو الاحتكار، جهاز الهيمنة يسعى إلى الاحتكار: الاحتكار
العلميّ، والاحتكار التقنيّ، واحتكار ما ینتج الثروة کلِّه، واحتكار ما يبني
الاقتدار كلِّه، هذا ما يسعى إليه. لذلك ترونهم يأتون ويغتالون العلماء في بلدٍ ما
-لقد اغتالوا علماءنا النوويّين-؛ لأنّهم يريدون لذلك البلد أن لا يتمتّع بتلك
الثروة. وقلت: إنّ هذه الحالة لا تختصّ بنا؛ في العراق، خلال تلك الفترة الممتدّة
لثلاثة أو أربعة أعوامٍ، حين سيطر فيها الأمريكيّون على شؤون العراق بشكلٍ مباشرٍ
بعد سقوط "صدّام"، قاموا باغتيال عشرات العلماء العراقيّين. لقد كان الأمريكيّون
يعلمون أنّه لو بقي هؤلاء العلماء بعد زوال حكم "صدّام"، فسوف يتحرّكون بالبلاد إلى
الأمام؛ لذلك أعدّوا لوائح بهم واغتالوهم واحدًا تلو الآخر. وكذا الحال في أماكن
أخرى، الاحتكار. لاحظوا، إذًا النخبة معرضةٌ للخطر، ولا أريد تخويفكم، بل أريدكم أن
تنتبّهوا إلى أنّ جهاز الاستكبار ونظام الهيمنة يعارض وجود النخبة في أيّ بلدٍ؛
لأنّهم سيكونون سببًا في تقدّم ذلك البلد، ويُعَدّون أعظم ثروةٍ له. يحاولون
بالوسائل كلّها حذف هؤلاء النخب من ذلك البلد، إمّا عن طريق التصفية الجسديّة، أو
عن طريق التصفية الثقافيّة والبرمجيّة، أو عن طريق جعلهم عاطلين عن العمل، أو
إشغالهم بقضايا شخصيّةٍ لا علاقة لها بشؤون البلاد، وما إلى ذلك. يجب أن تتنبّهوا
إلى هذا الشيء.
ما معنى نظام الهيمنة؟ وهو نظامٌ قد دخل أدبيّاتنا السياسيّة والدوليّة منذ سنين،
وهو تعبيرٌ قويٌّ وبليغٌ جدًّا. زعماؤه هم أشخاصٌ يمتلكون أدوات القوّة، لكنّهم لا
يمتلكون أدوات السيطرة على القوّة. أدوات القوّة عبارةٌ عن السياسة والإعلام
والسلاح والمال والوقاحة، هذه أدوات القوّة. أمّا أدوات السيطرة والتحكّم بالقوّة،
فهي الدين والأخلاق والشرف، وهو ما لا يملكونه! لذلك يفعلون كلّ ما يستطيعون فعله.
نظام الهيمنة يعني تقسيم العالَم إلى مُهَيمِنٍ وخاضعٍ للهيمنة، ومديروه هم هؤلاء
الذين ذكرتهم.
فاحذروا من
نظام الهيمنة!
النقطة التالية لهذا الكلام هي أنّ سبيل الحؤول دون الوقوع في إغراءات وخدع أعداء
النخبة في البلاد هو عبارة عن تعزيز الهويّة الوطنيّة وتقوية النزعة المثاليّة لدى
النخب.
يجب تقوية الهويّة الوطنيّة لدى نخب البلاد؛ فيجب أن يشعروا أنّهم إيرانيّون
مسلمون، يجب أن يفخروا بأنّهم إيرانيّون مسلمون. ينبغي تقوية وتعزيز هذا الشعور في
أنفسهم، ينبغي أن يتباهوا بأنّهم أتباع تاريخٍ شريفٍ وقيِّمٍ جدًّا. لقد انتشرت
علومُنا ذات يومٍ في العالَم، وفلسفتُنا كانت ذات يومٍ أرقى فلسفةً في العالَم،
وكذا الحال بالنسبة لعلمائنا وحقوقنا وفقهنا. نحن استمرار ذلك التاريخ وتتمّته.
طبعًا حصل انقطاع، قلت: إنّه حصل انقطاعٌ لمدّة مئتي سنةٍ على الأقلّ، ولكن بعد
انتصار الثورة الإسلاميّة، استُؤنِفَت تلك المسيرة التاريخيّة العظيمة وتقدّمت رغم
المشكلات كلّها، ورغم العراقيل كلّها. يجب أن نفخر بالهويّة الوطنيّة والمثل
العليا.
ثمّة عبءٌ ثقيلٌ على كاهلكم أيّها النخبة. مواهبُكم ونخبويّتُكم تضع على عاتقكم
مسؤوليّةً. طبعًا، هذه المسؤوليّة -كالمسؤوليّات كلّها- مبعث شرفٍ ومجدٍ وعزّةٍ في
الدنيا والآخرة، وستكونون مرفوعي الرؤوس في الدنيا وفي الآخرة، إن شاء الله. اعلموا
أنّ أحد أعمال العدوّ يتمثّل في سعيه للقضاء على روحيّة المُثُل العليا وتصفيته
للهويّة. هذا جزءٌ من خططه، فانتبهوا إلى هذه الأمور التي يهاجمها العدوّ!
من مسؤوليّاتكم أيضًا، "ألَّا یُقارُّوا عَلى کِظَّةِ
ظالِمٍ"
النقطة الآتية هي أنّ التخّصّصات تمثّل مظهر النخبة، وهي شيءٌ قَيِّمٌ جدًّا، وجميع
التخصّصات المتنوّعة اللازمة لإدارة البلاد والمجتمعات البشريّة مهمّة. هذه قيمةٌ
ساميةٌ بلا أدنى شكٍّ. لكنّ مجتمعَ النخبةِ ينبغي أن لا يكتفي بهذا. يجب على مجتمع
النخبة أن يُركِّز على أهدافٍ أرقى، فثمّة أهدافٌ أرقى. يجب على النخبويّ أن لا
يغرق في أجواءِ تخصّصِه، بحيث يغفل عن الأجواء المحيطة به وعن أجواء المجتمع وعن
الناس، هذا ما يجب ألّا يحصل. على النخبويّ أن لا ينسى قضايا الناس وقضايا شعبه
الأساسيّة المهمّة، مثل الاستقلال والعدالة والتقدّم والمشكلات الاجتماعيّة. على
النخبويّ أن لا يخوض فقط في العلم الذي تخصّص فيه وأضحى نخبةً فيه. إذا قمتم بالعمل
النخبويّ تحت راية العدالة، فستكون قيمته مضاعفةً، وإذا قمتم به في ظلّ لواءِ
الاستقلال الوطنيّ والهويّة الوطنيّة، فستكون قيمتُه مضاعفةً. ثمّة حربٌ اقتصاديّةٌ
وسياسيّةٌ وأمنيّةٌ مفروضةٌ علينا وتدور رحاها الآن، ولا يمكنكم أن تكونوا غيرَ
مكترثين بهذه الحرب، لا يمكنكم [فعل ذلك]. يوم جاؤوا وأحاطوا بالإمام عليٍّ أميرِ
المؤمنين (عليه السلام)، وطالبوه بأنّه يجب عليك حتمًا أن تقبل الخلافة، قال:
"لَولَا حُضورُ الحاضِرِ وَقیامُ الحُجَّةِ بِوُجودِ النّاصِرِ وَما أخَذَ اللهُ
عَلَى العُلَماءِ ألَّا یُقارُّوا عَلى کِظَّةِ ظالِمٍ وَلا سَغَبِ مَظلومٍ" (3).
لولا هذه المسؤوليّات، لما وافقت، ولكن هذه المسؤوليّة موجودة. ما هي هذه
المسؤوليّة؟ "ألّا یُقارُّوا عَلى کِظَّةِ ظالِم". "کِظَّةٌ"، في اللغة العربيّة،
بمعنى الجشع والاستزادة والشراهة التي تُسقِط الإنسان، وهذه -طبعًا- كنايةٌ؛ فالأكل
والشراهة غير مقصودةٍ بمعنى الأكل والشراهة الواقعيّة، بل بمعنى الامتيازات والأجور
العالية والرواتب النجوميّة. هذه [أشياء] يجب أن لا تكون. "وَلا سَغَبِ مَظلوم".
و"سَغَب" بمعنى الجوع. يقول الإمام أمير المؤمنين: لو لم يكن هاجسي وهَمِّي
المسؤوليّةُ حيال الجشعين المحتكِرين من ناحيةٍ، والمحرومين من ناحيةٍ أخرى، لما
وافقتُ. عندها يقول: "وَما أخَذَ اللهُ عَلَى العُلَماء". بمعنى أن مسؤوليّتكم أنتم
العلماء ليست فقط التدريس والدراسة والبحث والتحقيق، بل من مسؤوليّاتكم أيضًا
"ألَّا یُقارُّوا عَلى کِظَّةِ ظالِمٍ وَلا سَغَبِ مَظلوم"، هل لاحظتم؟ هذه أيضًا
نقطةٌ.
واليوم سوف نتغلّب عليه أيضًا
حسنًا، هناك ما يصوّره الأعداءُ ويبثّونه. الآن هناك حربٌ إعلاميّةٌ ودعائيّةٌ
حادّةٌ جدًّا، وهي شبيهةٌ تمامًا بالحرب المفروضة. في الحرب المفروضة، لم يكن لنا،
في بدايات الحرب، حتّى الـ آر بي جي! وقد تقدّمَت أمامنا وحداتٌ مدرّعةٌ كبيرةٌ
واصطفَّت. كنتُ في الأهواز، وقد كانت الوحدات والألوية المدرّعة للعدو تتوالى وتأتي
بعضها تلو بعضٍ. وقد كنّا بحاجةٍ ماسّةٍ إلى أسلحةٍ مضادّةٍ للدبّابات. والمضادّات
للدبّابات العاديّة، التي يستخدمها الجميع، هي الـ آر بي جي. لم يكن لدينا آر بي
جي! ولم يكن سلاح الجيش الرسميّ موجودًا. لم نكن نمتلك حتى هذا الشيء. بينما كان
العدوّ يمتلك أنواع الأسلحة الحديثة المختلفة. كذلك هو الوضع الآن؛ إمكانيّاتنا
الإعلاميّة اليوم، مقابل الأعداء، تشبه إمكانيّاتنا يومذاك مقابل العدوّ. طبعًا، في
ذلك اليوم تغلّبنا على العدوّ، واليوم سوف نتغلّب عليه أيضاً، سوف نتغلّب عليه بلا
شكّ، لكن هذا هو الوضع [اليوم]. بتلك الإمكانيّات الواسعة، أهمّ ما يريد العدوّ
القيامَ به هو ترويجُ صورةٍ خاطئةٍ عن الوضع في البلاد؛ ليس فقط من أجل إغواء
وتضليل الرأي العامّ العالمَيّ، بل من أجل تضليل الرأي العامّ في داخل البلاد، حتى
داخل البلاد نفسها! أي إنّهم يتكلّمون بطريقةٍ تجعلني -أنا العبد- وحضرتَك -ممّن
نتنفّس في هذا الهواء في الداخل- نفترض شيئًا آخر غير الواقع الموجود. هذه الحرب
موجودةٌ وقائمةٌ، وإذا لم نستطع ممارسة دورٍ في هذه الحرب، ولم يستطع الشباب النخب
القيام بدورهم، فسيكونون قد تقاعسوا عن أداء واجبهم. إذًا، هذه النقطة الأخيرة التي
أشرت لها؛ أي السعي العلميّ تحت لواء المطالبة بالعدالة وكسر الاحتكار ومقاومة
الظلم ومتابعة قضايا الناس المختلفة ممّن يعيشون حول النخبة، هي من الأعمال
والأدوار الضروريّة. هذا ما يتعلّق بقضايا النخبة.
يجب أن لا تعرفوا ليلًا من نهارٍ!
مؤسّسة النخب، لها بحثٌ آخر بالطبع، ويجب أن أتقدّم بالشكر لمؤسّسة النخب. يجب أن
نعمل ليلَ نهارٍ. وقد ضرب السّيّد ستّاري هنا مثالًا من [عمليّات] "والفجر 8"، حيث
استطاعت أجهزتنا وعسكريّونا إسقاط ثمانين طائرةً عسكريّةً متطوّرةً للأعداء في غضون
أيّامٍ عدّةٍ، والشخص الذي كان محورًا لهذا العمل هو والده نفسه؛ المرحوم الشهيد
اللواء ستّاري. لم يكن لديهم ليلٌ أو نهارٌ، وأنا على علم، كنتُ على اطّلاعٍ كاملٍ،
ربّما مضت 48 ساعةً دون أن تسنح لهم فرصةٌ للنوم. لقد قسَّموا منظومات "هوك" (دفاعٌ
صاروخيٌّ) إلى قسمين؛ لكي لا يستطيع العدوّ الملاحقة والرصد، ولكي لا يستطيع قصف
مضادّاتنا الجوّيّة. كانوا يُشغِّلون هذه المنظومات، ويطلقون الصواريخ، ثم يجمعونها
بسرعةٍ، ويأخذونها بعيدًا كيلومتراتٍ عدّةٍ؛ لكي لا يستطيع العدوّ مواجهتها
[وقصفها]. قاموا بمثل هذا العمل الثقيل! كانوا يعملون ليلًا ونهارًا حتّى استطعنا،
على حدِّ قولهم -وهو قولٌ صحيحٌ- إسقاطَ ثمانين أو تسعين طائرةً حربيّةً حديثةً
للعدوّ. والآن أيضاً نحتاج إلى مثل هذه الأعمال. الآن يجب على السيّد سورنا ستّاري
-وهو ابن ذلك الشهيد- وأصدقائه وزملائه أن لا يعرفوا ليلهم من نهارهم، يجب أن لا
تعرفوا ليلكم من نهاركم، يجب أن تعملوا، اعملوا؛ لتستطيعوا تشخيص النخبة واستقطابهم
وإرشادهم وتنظيمهم وسماع كلامهم ومعالجة مشكلاتهم وآلامهم؛ حتّى لا يأتي أمثال هذا
الشابّ الذي يلعب التكواندو هنا ويعتبوا ويشتكوا ؛ أي يجب أن لا تعرفوا ليلًا من
نهارٍ، ستعملون إن شاء الله.
نقطة أخرى هي أنّ السادة الذين يعملون في قسم توجيه النخبة -مؤسّسة النخبة أكثر من
غيرها- يجب أن يحذروا من أن يتحوّل عملهم إلى عملٍ روتينيٍّ تكراريٍّ رتيبٍ. يبدأ
الإنسان، في البداية، عملًا بشوقٍ ولهفةٍ ورغبةٍ، وبعد أن تنقضيَ مدّةٌ من الزمن،
يتحوّل هذا العمل، بالنسبة له، إلى عملٍ عاديٍّ ويوميٍّ رتيبٍ. هذه الحالةُ ينبغي
أن لا تحصل. يجب أن تكون هناك أعمالٌ وإبداعاتٌ جديدةٌ دومًا. ينبغي التجديد دومًا
في الأساليب والمناهج والأعمال وما شاكل، وإذا اقتضت الضرورةُ، التغييرُ في
المؤسّسات نفسِها.
كما ينبغي لمؤسّسة النخبة أن تخطّط لقضيّة "الهويّة الوطنيّة" هذه، ويجب أن
يستفيدوا -بالتأكيد- من مكتب ممثّليّة القيادة في الجامعات، وسوف يساعدونهم.
يجب أن يتمّ الاهتمام بالشركات علميّة المحور
سمعتُ أنّ ضوابط هذه الشركات -وكنتُ قد أوصيتُ مسبقًا أن لا يسمحوا بهبوط ضوابط
الشركات علميّة المحور- قد هبطت. وهذا -طبعًا- [ما أفاده] أحد التقارير، فتابعوا
هذه القضيّة حتمًا، ولا تسمحوا بهبوط معايير هذه الشركات. لا تُمَنّوا أنفسَكم
كثيرًا بالأعداد، وبالطبع لا ريب في أنّه لو كان هناك ثلاثون ألف شركةٍ علميّةِ
المحور بدل ثلاثةِ آلافٍ لكان ذلك أفضل، ولكن، بشرط أن تكون شركةً علميّةَ المحور
حقًّا، وتُراعَى فيها الضوابط اللازمة.
والنقطة الأخيرة حول قضيّة النخبة: حاوِلوا الاستفادةَ من النخبة في التوزيع
الإداريّ في البلاد. المواقع الإداريّة الوسيطة تحتاج إلى مثل هؤلاء الشباب. وقد
تقولون مثلًا: "إنّ هؤلاء الشباب لا يملكون تجارب إداريّةً بالمستويات الأولى"،
لكنّهم يستطيعون النهوض بالمواقع الإداريّة الوسيطة، فانتفعوا منهم، وخصوصًا من
المتديّنين والمهتمّين بالأعمال الدينيّة والإسلاميّة وما إلى ذلك؛ وأعدادهم كثيرةٌ
جدًّا -والحمد لله-، وربّما كانت الأكثريّة من هذا القبيل.
فمن الذي قام بهذه الأعمال كلّها؟
وأشير شيئًا ما إلى قضايا الجامعات، والوقت يكاد ينتهي. لقد كانت الجامعات خلال
العقود الأربعة الأخيرة في خدمة البلاد. يُشْكِلُ بعض الأشخاص على الجامعات بأنّها
تلهث فقط وراء دراساتِ ومقالاتِ ISI [مقالات المحكمة الدوليّة] وما شاكل. نعم، هذا
إشكالي أنا أيضًا. لقد أشرتُ إلى هذا الأمر مرارًا، وقلتُ لا تنظروا ولا تأخذوا
بالحسبان ما الذي يريده منكم الشخص الذي يريد مقالتَكم أو ما يطالبكم به جماعة
"الواحد في المئة"، بل خذوا بالحسبان ما تحتاجه وما تريده البلاد. هذا ما قلناه
مرارًا، وأؤكّد عليه الآن أيضًا. ولكن يجب أن لا يُقال أو يُتَصَوَّر أنّ جامعات
البلاد لم تعمل لخدمة قضايا البلاد، بلى، تمّ إنجازُ هذه الأعمال العمرانيّة
المهمّة كلّها في البلاد، فمن الذي قام بها؟ قام بها الجامعيّون، والشباب منهم في
الغالب. لقد سُجِّلَت هنا صناعات السدود، وصناعات محطّات الطاقة، وصناعات الجسور،
وصناعات الطرق والمواصلات؛ هذه ظواهر في البلاد، فمن الذي قام بهذا؟
في بدايات الحرب، توجّهتُ نحو المنطقة الحربيّة للاطّلاع والمتابعة. جاء شباب جهاد
البناء هناك، وقالوا لي: إنّنا نبني "إهراءات" -وهي هيكلٌ معماريٌّ معقّدٌ، بخلاف
ظاهرها؛ حيث يبدو أنّها مجرّد عمود. إنّها بُنيةٌ معقّدةٌ وتقنيّةٌ مُهمّةٌ- قالوا:
إنّنا نبني إهراءات، فقلت لهم: هل تستطيعون فعل ذلك؟ قالوا: بلى، فقلت لهم: ابنوا
إذًا، ونحن سنساعدكم لِتُنجِزوا هذه المهمَّة. وصرنا من بُناة الإهراءات المهمّين
في المنطقة. هل تلاحظون؟ كانوا عددًا من طلّاب الجامعات الشباب. هذا، في حين كنّا
قبل الثورة، نشتري قمحَنا من أمريكا، وكان السوفيات يبنون لنا الإهراءات. كانت هذه
من العبارات التي كثيرًا ما كنّا نقولها قبل الثورة في معارضتنا للجهاز الحاكم
آنذاك، القمح أمريكيٌّ، والمخازن روسيّةٌ أو سوفياتيّةٌ. لم تكن لدينا المقدرة على
ذلك أبدًا، لكنّ الشباب تجرّؤوا وبنَوا. تمّ إنجازُ هذه الأعمال كلّها، ومُدَّت هذه
الطرق المتطوّرة كلّها، وشُيِّدَت هذه الجسور الجميلة جدًا والمتينة كلّها، في
طهران بشكلٍ، وفي المدن بشكلٍ ثانٍ، وفي بعض الطرق الخارجيّة بشكلٍ آخر. مَن الذي
شيَّد هذا كلّه؟ شباب الجامعات هؤلاء.
الصناعات الدفاعيّة، صناعاتنا الدفاعيّة بارزة!
لحسن الحظّ، قطاع الصناعات الدفاعيّة عندنا واحدٌ من القطاعات الجيّدة جدًّا من حيث
التعاون مع الجامعات، فلهم تعاونهم مع الجامعات. وللأسف، فإنّ الأجهزة الأخرى
-الأجهزة الحكوميّة- لها درجةٌ أدنى من التعاون. أولئك لهم تعاونٌ جيّدٌ، الصناعات
الدفاعيّة، والصواريخ، والطائرات بدون طيار، وغير ذلك، الصناعة النوويّة المهمّة
بأبعادها المتنوعة. قبل سنوات -حين كانت الطاقة النوويّة لا تزال حقّنا المسلَّم-
أقاموا هنا، في هذه الحسينيّة، معرضًا كبيرًا متنوّعًا، وغالبًا ما كانوا شبابًا.
دخلتُ وجُلتُ في المعرض لما يقارب ساعةً أو ساعتين، وكان الجميع من الشباب، في
أعماركم. شبابُ الجامعات هم الذين قاموا بهذه الإنجازات، الطلبة الجامعيّون
والخرّيجون هم من قاموا بها. تقنيّة الرادارات وصناعات الجوّ والطيران وعلوم
الأحياء وتقنيّات الأحياء والعشرات من النتاجات والإنجازات المتطوّرة الأخرى في
صناعة الأدوية ذات التركيبات الجديدة والمنتجات البيولوجيّة، وعلوم وصناعة الخلايا
الجذعيّة، وهي علومٌ في غاية الأهمّيّة، ولها مردوداتٌ علميّةٌ مُهمّةٌ جدًّا على
المستوى العالميّ، أنجزها شباب المرحوم الشهيد كاظمي (رحمة الله عليه)، وأنتجوها،
وحوّلوا تلك الاكتشافات العلميّة إلى تقنيّةٍ، واستخدموا تلك التقنيّة للعلاج.
والآن، فإنّ الخلايا الجذعيّة من الإنجازات المهمّة في البلاد، ويتمّ إنجاز أعمالٍ
كبيرةٍ بواسطتها، وعلماؤها من أرقى العلماء مستوىً في العالَم، وغير ذلك من هذا
القبيل. هذه كلّها من خدمات الجامعات. وعليه، ينبغي عدم اتّهام الجامعات بأنّها لم
تكن في خدمة البلاد، كلّا، لقد كانت الجامعات في خدمة البلاد، والحقّ يُقَال.
طبعًا، النواقص في عمل الجامعات كثيرةٌ، فهؤلاء الإخوة الأعزّاء أنفسهم أو الأخوات
العزيزات الذين تحدّثوا هنا، أشاروا إلى شيءٍ منها خلال كلماتهم.
إنّني أوصي بالاهتمام بالبحث العلميّ في جميع المستويات
ينبغي الاهتمام بالبحث العلميّ، والاهتمام الجادّ بالتواصل مع القطاع الصناعيّ.
الارتباط بين الجامعة ومنظومة الصناعة -والصناعة تشمل الصناعات الزراعيّة وما شاكل
أيضًا- موضوعٌ على جانبٍ كبيرٍ من الأهمّيّة؛ فهو فوزٌ عظيمٌ للجامعة، وتوفيقٌ كبير
للصناعة. ينبغي أن يصل الأمر إلى درجةٍ تتحوّل معها كلُّ رسالةٍ جامعيّةٍ يُعِدّها
طالبٌ جامعيٌّ، في مختلف المجالات العلميّة، منذ بداية تأييدها وإقرارها، إلى
رسالةٍ جامعيّةٍ تمتلك داعمًا وراعيًا، سواءٌ أكان من القطاع الخاصّ أو من القطاع
الحكوميّ. ينبغي أن نصل إلى هذه المرحلة، وهذا هو الواقع الآن في كثيرٍ من بلدان
العالَم. يحضُر أصحاب الصناعات ذَوُو الصلة بتلك الأطروحة الجامعيّة في جلسةِ
مناقشتها، ويصطادون هناك ذلك الطالب الجامعيّ الذي يناقش رسالته، ويوقّعون معه هناك
عقدًا، لينتفعوا من علمه. يمكن للصناعة أن تستفيد الكثير من الجامعة، كما بوسع
الجامعة أن تنتفعَ الكثيرَ من الصناعة. وهذه الحالة لم تحصل إلى الآن كما أردنا
وقلنا.
وينبغي تحديث الخارطة العلميّة الشاملة بعد [أن مضى على إعدادها] تسعة أعوامٍ.
طبعًا، تمَّ إعداد الخارطة العلميّة الشاملة بشكلٍ جيّد جدًّا، ولكن مضى عليها الآن
تسعة أعوامٍ، ويجب إعادة النظر فيها وتحديثها؛ فهناك قضايا جديدةٌ ينبغي أن يتمّ
إضافتُها إليها، ويجب على الجميع الاهتمام بها طبعًا.
التواصل مع البلدان السائرة في طريق النموّ العلميّ على شكل قفزاتٍ واسعةٍ؛ أي
البلدان الآسيويّة. ينبغي أن تكون الوجهة غالبًا تجاه الشرق، فالنظر تجاه الغرب
وأوروبا وما شاكل لا حاصل منه سوى التأخير والمتاعب والمِنَن التي يُحَمِّلُوننا
إيّاها والإذلال. ينبغي أن تكون وُجهتنا نحو الشرق؛ فهناك بلدانٌ تستطيع مساعدتنا،
ونستطيع أن نتعامل معها بموضوعيّةٍ متكافئةٍ، فنساعدهم ويساعدوننا، ونقيم معهم
تبادلًا علميًّا.
وهناك التواصل والتعاطي مع الحكومة بشأن معرفة الاحتياجات والأولويّات؛ أي ينبغي أن
يكون تواصل الجامعة مع الحكومة على هذا النحو، ويجب أن تُنجِزَ الجامعة الأعمال
والمهامّ التي تحتاجها الحكومة. هذا العمل الذي قام به مؤخرًا عددٌ من الأساتذة، في
خصوص القضايا الاقتصاديّة، أفرحني حقًّا! هذا عمل حسنٌ جدًّا. ولا أدري هل تعمل
الحكومة بهذه التوصيات أم لا؟ وكم ستعمل، وكم لا تعمل -فهذا شأنٌ آخر- ولكنْ أنْ
يشعرَ أساتذةُ البلاد وعلماءُ اقتصاد البلاد بالمسؤوليّة، فهذا شيءٌ حسنٌ.
التجمّعات المختلفة، وخصوصًا الأساتذة التعبويّين، كتبوا لنا رسائل عديدة -ونحن
طبعاً نرسلها للحكومة؛ فهم من يجب أن يعمل ويبادر- وكتبوا للحكومة نفسِها، وكتبوا
لرئيس الجمهوريّة المحترم حول القضايا المصرفيّة، وحول السيولة النقديّة في البلاد،
وحول قضايا العملة الصعبة في البلاد، سواءٌ أكان بشكلٍ جماعيٍّ أم بشكل فرديٍّ،
وقدَّم عددٌ من النخبة الشباب وأصحاب الفكر الجيّد بشكلٍ فرديٍّ حلولًا وتوصياتٍ،
وقد طلبنا دراستها جميعًا في المكتب وتلخيصها وإرسالها إلى المسؤولين التنفيذيّين
في البلاد ليستفيدوا منها. هذه حالةٌ حسنةٌ جدًّا. "تعريف العلاقة بين الجامعة
والحكومة" من القضايا المهمّة. حسنًا، انتهى هذا البحث.
وتبقى قضايا البلاد دَينًا علينا
أعتقد أنّ الوقت قد انتهى، وأظنّ أنّه وقت الأذان، وكنت قد سجّلت نقاطًا عن شؤون
البلاد خلاصتها في كلمةٍ واحدةٍ هي أنّ العدوّ يريد تسويق صورةٍ خاطئةٍ وقبيحةٍ عن
البلاد، وهذا على الضدّ تمامًا من الواقع. للبلاد، من نواحٍ مختلفةٍ، صورتها
الجذّابة المحبّبة الجميلة، من النواحي كلّها. وقد يرتفع سعر العملة الصعبة لأيّامٍ
معدودةٍ أو ينخفض، وتحصل مشكلاتٌ معيشيّةٌ للناس، هذا موجودٌ، ونحن نَعلَمُه، لكنْ
تلك الصورة التي يريد العدوُّ فرضَها والإيحاء بها غيرُ موجودةٍ على الرغم من أنفه،
بل [الواقع] الموجود هو نقيض تلك الصورة. رُفِعَ الأذانُ، وبحثنا ينتهي طبعًا (4)،
ومن بعد الأذان الغداء (5)، بعد الأذان الصلاة، ثم الغداء. وتبقى قضايا البلاد
دَينًا لكم علينا؛ تطلبونه إذا بقينا على قيد الحياة والتقيناكم مرّةً أخرى، فقد
نتحدّث معًا. أيّدكم الله وحفظكم إن شاء الله!
أنتم جميعًا اليوم غرساتٌ جميلةٌ وخضراء، وستتحوّلون، إن شاء الله، إلى أشجارٍ
طيّبةٍ مُثمِرةٍ، وتكونون مُفيدين لبلادكم.
والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1- في بداية هذا اللقاء، تحدَّث الدكتور سورنا ستّاري (المعاون العلميّ والتقنيّ
لرئيس الجمهوريّة)، والدكتور منصور غلامي (وزير العلوم والبحث العلميّ والتقنيّة)
مُقدِّمين تقاريرهما. كما تحدّث 11 شابًّا وشابّةً، من النخب والمواهب العلميّة
المتفوّقة في البلاد، عن هواجسهم وأفكارهم وتصوّراتهم حول مختلف القضايا العلميّة
والبحثيّة والإداريّة والتقنيّة.
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 20، ص 319.
3- نهج البلاغة، الخطبة رقم 3.
4- هنا قال أحد الحضور: نواصل بعد الأذان.
5- ضحك الإمام الخامنئيّ والحضور.