كلمة الإمام الخامنئي في لقائه جماعة من الشعراء والأدباء والمثقفين بمناسبة ذكرى ولادة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام (1)_20/05/2019 م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد وآله الطاهرين، سيّما بقيّة الله في الأرضين.
لقد دوّنت هنا بعض الجمل والملاحظات لأعرضها إذا ما تقرّر أن أتحدّث إلى الأعزّاء، لكن قبل الشروع بما أريد قوله، أودّ التنويه إلى أنّ جلسة قراءة الأشعار هذه الليلة كانت جلسة جيّدة جداً، فالأعزاء الذين قرأوا أشعارهم كان الواحد منهم أفضل من الآخر حقّاً، لقد كانت هذه الجلسة الليلة بحمد الله ممتازة أكثر ممّا توقّعت منها ومن الشعراء الشباب الذين لم يسبق لمعظمهم أن قرأوا أشعارهم في هذا المحفل. شكراً جزيلاً وأحمد الله تعالى أن أعان على تقدّم الحركة الشعرية في البلاد بين جماعة مثل جماعتكم. بالتأكيد، توجد جماعات كثيرة في طهران وأماكن أخرى ينظمون الشعر ويهتمون بشؤونه وما إلى ذلك، وأنا على تماسّ ومعرفة بهذه الحركة أحياناً بدرجات تزيد أو تنقص، وأقرأ أشعارهم، ولم يتقدّم أولئك بمقدار ما تقدّمتم، فهم ينظمون الأشعار الغزلية المحضة، وأشعار الحبّ الأرضي، والأشعار الخالية من الحكمة والمعرفة، ومن ذكر المصالح الوطنية والثورية ـ أولئك الأعزاء يسعون وراء مثل هذه الأشعار ـ وفي بعض الأحيان ينظمون الأشعار الماجنة؛ أولئك لم يتطوّروا. إنّني أنظر فأرى في الأشعار التي تنشدونها مضامين نادرة، وصقل للألفاظ، وإبداع في المفاهيم بدرجات لافتة حقاً. إنّني متفائل جداً بشعر الثورة وهو شعركم.
الشعر من معجزات عالم الخلقة
ما سجّلته هنا لأقوله عبارة عن نقطتين اثنتين ـ وسوف أختصرهما ما أمكن إن شاء الله ـ إحداهما حول الشعر والثانية حول اللغة الفارسية. ما أريد قوله حول الشعر هو أنّ ظاهرة الشعر من معجزات الخلقة، ظاهرة الشعر هذه من معجزات عالم الخلقة؛ كالبيان نفسه، فالبيان بدوره من أرقى معجزات الخالق في عالم الخلقة. أن تستطيعوا نقل أفكاركم وصوركم الذهنية للآخر في قالب الكلمات والألفاظ فهذا أمر مهمّ جداً، وظاهرة عظيمة جداً. لكن حيث إنّنا تعوّدنا عليها، لا نلتفت إلى عظمتها. إنّها أرقى بكثير من خلق الشمس والقمر والنجوم وغيرها ممّا يقسم الله تعالى به، ولذلك يقول: «اَلرَّحمٰن، عَلَّمَ القُرءان، خَلَقَ الاِنسان، عَلّمَهُ البَيان» (2). الشيء الأول الذي يبيّنه الله تعالى بعد أصل الخلقة، وفيما يتعلّق بخلقة الإنسان هو تعليم البيان، فالبيان هو معجزة الخلقة. ومن بين أنواع البيان يمتاز الشعر بخصوصية الجمال والرونق. ليس كلّ بيان جميلاً، بل هو معجزة، ومهمّ، لكنّ الجمال كامن في الشعر. وإنّه لأمر جميل أن تستطيعوا في الشعر نقل مفهوم راقٍ على شكل ألفاظ ترصفونها إلى جانب بعضها البعض إلى المخاطب والمتلقّي، وله جماليّة. وكونه فنّاً يعود إلى هذا الطابع الجماليّ فيه. حسنًا، وحيث إنّه كذلك، وله هذه الميزة الجماليّة، فإنّ هذا الجمال يجعل منه وسيلة إعلامية مؤثرة. الشعر وسيلة إعلاميّة، وسيلة إعلاميّة مؤثرة تمتاز بكفاءة مضاعفة لنقل المفاهيم قياساً إلى البيان غير الشعري. وهكذا هي غالبية الفنون. حتماً تختلف الفنون فيما بينها، والشعر نفسه له سمات وخصائص ومميّزات خاصة ـ كما أنّ لبعض الفنون الأخرى أيضاً مميّزاتها ـ فريدة، ولا أريد الآن التطرّق إليها.
مسؤولية الشعر: أن يكون في خدمة تيّار الهداية
حسنًا، قدرة التأثير هذه الكامنة في الشعر تستتبع مسؤولية. وكل الأشياء بشكل عام، وجميع الأشخاص والظواهر الأرقى شأناً، تستتبع مسؤولية أعلى. جنابك، إن كنت تمتلك قوّة البيان وآراءً وأفكاراً مؤثرة في جماعة من الناس، فستكون مسؤوليتك أكبر من الشخص الذي ليس له هذا التأثير. وعليه، فبسبب هذه القدرة التأثيريّة، للشعر مسؤولية والتزام. هناك التزام على عاتق الشعر، فما هو هذا الالتزام؟ أن يكون في خدمة التيّار والحركة الإلهيّة التنويريّة على مرّ التاريخ الإنساني. فقد كان هناك تيّاران على مدى التاريخ: تيّار البيّنات وتيّار الإغواء، تيّار الهداية وتيّار الضلالة والإضلال. فـ «لَقَد أرسَلنا رُسُلَنا بِالبَيّنات» (3) تيّار موجود على مرّ التاريخ، و«لَأغوِينَّهُم أجمَعين» الذي هو كلام الشيطان، يمثّل تياراً آخر. مسؤولية الشعر هي أن يكون في خدمة التيار الأول، والسبب واضح، وهو أنّ هذا [الشعر] موهبة إلهيّة، وهو لله وملك له ونعمة إلهيّة، ونحن عبيد الله، لذلك ينبغي أن نضع كلّ ما أنعم به علينا في خدمة تيّار النبوة والهداية الإلهية. إذاً، هذا هو الالتزام.
حتماً، هناك كلام كثير يقال، وثمّة مغالطة ساذجة يطرحها البعض فيميّزون بين الجانب الجمالي والفني للشعر وبين جانب الالتزام في الشعر، ويقسّمون الشعر إلى شعر يرى بأنّ لديه رسالة والتزاماً وشعر هو شعر محض. ويقولون إنّ الأوّل ليس بشعر بل هو شعارات، وهذه مغالطة واضحة، وهي مغالطة ناجمة إمّا عن الغفلة أو عن قلّة المعرفة. انظروا، من هم قمم الشعر الفارسي؟ سعدي وحافظ ومولوي والفردوسي، هؤلاء هم قمم الشعر الفارسي. لاحظوا أيّ منحىً نَحَت أشعارهم وهم قمم الفنّ الشعري على امتداد تاريخنا. لسعدي كتاب «بوستان» وهو أفضل أعماله الفنية ـ ويأتي في المرتبة الثانية بعده كتاب "گلستان" ـ انظروا في كتاب "بوستان" ستجدون أنّ هذا الفن الفاخر الممتاز البارز موظّف دائماً في خدمة الأخلاق وخدمة التعليم وخدمة الالتزام. هكذا هو "بوستان" من أوله إلى آخره. بمعنى أنّ فنّ الشعر في خدمة الأخلاق.
إن كنت شابّاً وتعشق يا سعدي فيكفيك عشق محمد وآله (5).
أو: سعيد أنا بهذا العالم لأنّ هذا العالم البهيج منه وأعشق كلّ العالم لأنّ العالَم نابع منه (6)
أو: أتناول السمّ بمحبّة وشوق فالجميل هو الساقي وأتجرّع الألم بإرادتي فالدواء منه أيضاً (7)
هذه من أبيات سعدي، وهي ذروة فنّنا الشعري.
وكذا الحال بالنسبة إلى حافظ الشيرازي، حتماً أنا أعتقد بأنّ هناك شعراً أرضياً مادياً في ديوان حافظ، لكن ما من شكّ في أنّه شعر عرفانيّ ممتاز مبرّز. كان بعض الأكابر من قبيل المرحوم العلامة الطباطبائي يشرح شعر حافظ لبعض تلامذته، وقد دوّنوا هذه الشروحات وكتبوها وجمعوها. أي هكذا هو العرفان في شعر حافظ.
لن يوصلك سوى العشق وإن أنت حفظت القرآن بأربع عشرة رواية كما حافظ (8).
هكذا هو حافظ. إنّنا نقرأ القرآن من كتاب الله مباشرة وبصعوبة، أمّا هو فيحفظه عن ظهر قلب وبأربع عشرة رواية، إذ يوجد سبعة قرّاء معروفين أصحاب أساليب [في القراءة] ولكلّ واحد منهم راويان، فتصبح هذه أربع عشرة رواية. هكذا هم هؤلاء، وهم قمم الشعر. وكذا الحال بالنسبة للفردوسي، "الحكيم الفردوسي". التفتوا، إنّ الحكيم الفردوسي مهمّ بين شعرائنا، وحكمة الفردوسي حكمة إلهيّة، ولقد أودعت الحكمة في أعماق قصصه. ثمة حكمة في كل قصص الفردوسي تقريباً أو الكثير منها، ولذلك يسمّونه بـ "الحكيم الفردوسي". قلّما سمّينا شاعراً في كلّ التاريخ بالحكيم، لكنّه يلقّب بالحكيم الفردوسي. أما مولوي فحاله معروف، فهو العرفان بتمامه والمعنوية والحقيقة والإسلام الأصيل، والمعرفة التوحيدية الخالصة. هو أيضاً على هذا النحو. هؤلاء هم قمم الشعر الفارسي. إذا كان من المطلوب أن نتصوّر أن الجانب الفني والجمالي للشعر منفصل عن جانبه المعنوي والرسالي، فينبغي أن نخرج كلّ هذه الأشعار عن دائرة الشعر ونقول إنّ هذا ليس بشعر، والحال أنّ هذه هي أفضل الأشعار في اللغة الفارسية.
قمم الشعر؛ شعرهم في خدمة أهل البيت
وكذا الحال بالنسبة إلى اللّغة العربية في حدود معرفتنا. فالسيد الحميري والفرزدق ودعبل وأمثالهم وهم كبار شعراء أهل البيت والإمامية كانوا كذلك أيضاً، وكانوا أفضل الشعراء. وربّما سبق وذكرت بأنّ كتاب الأغاني (9) الذي يستعرض فيما يستعرضه سير الشعراء وما إلى ذلك، عندما يصل إلى السيّد الحميري يقول: إنّ السيّد الحميري شاعر عصره المبرز ـ وربما قال أبرز شعراء زمانه ـ ثم يقول صاحب الأغاني: لكن العيب فيه أنّه نال من كبار صحابة صدر الإسلام وفعل كذا وكذا، ولولا ذاك لتكلّمنا عنه أكثر. هكذا يقول، ثم يبدأ بسرد سيرة السيّد الحميري، ويبدو لي أنّه أطال الكلام عنه أكثر من كلّ الشعراء الذين سرد سيرتهم، خمسون صفحة، خمسون ونيف من الصفحات في استعراض سيرته. أي هذه كانت عظمة السيد الحميري. والفرزدق أيضاً، مكانته معروفة، وكذا الحال بالنسبة لدعبل. هؤلاء هم قمم الشعر، وشعرهم في خدمة المعنوية وأهل البيت وهذا السياق. وعليه فالذين يفصلون الشعر الخالص المحض عن الشعر الفني يجب القول إنّهم لا يمتلكون معرفة ولا ثقافة أدبيّة وشعريّة. أي إنّهم يغالطون؛ يفهمون هم أنفسهم شيئاً ما فيطرحونه.
وأقول هنا بالتأكيد، إنّ هذه العلاقة ثنائية الاتّجاه، أي إنّنا عندما نجعل شعرنا في خدمة المفاهيم الأخلاقية السامية، وفي خدمة التوحيد، وفي خدمة بيان فضائل أهل البيت، وفي خدمة القيم الأخلاقية، وفي خدمة العناوين والمصالح الوطنية والثورية، فلا يعنى ذلك أنّنا نقدّم خدمة لتلك القيم وتلك المعارف فحسب، بل إنّنا نقدّم الخدمة لشعرنا أيضاً، فالشعر سوف يرتقي ويتسامى في هذه الحال. برأيي، إنّ أشعاركم الليلة كانت كلّها أشعاراً ملتزمة مسؤولة، وكان مستواها، والحق يقال، راقياً وجيداً. وهي، للإنصاف، تختلف في المستوى عن أشعار الحبّ المحض، والحبّ الأرضي. أي إنّها تميزت برقيّ ورفعة خاصّة. إذاً، العلاقة ثنائيّة الاتّجاه. بالتأكيد، أنا لا أرى إشكالاً في أن يعبّر الشاعر عن همومه وآلامه وعذاباته في الشعر، ولا نقول بأنّه لا يحقّ للشاعر بأن ينظم الغزل فيما يتعلّق بهمومه، وآماله وأمنياته، وهواجسه ومخاوفه، ليست هذه عقيدتي على الإطلاق؛ لا، [بل] يمكنه أن ينظم في هذه الأمور، بيد أن هذا فصل من فصول الشعر، والفصل الأهمّ في الشعر هو الالتزام.
حسنًا، لدينا في البلاد اليوم الكثير من الشعراء الملتزمين لحسن الحظ. بالتأكيد، لا أقول الجميع، فهناك أيضاً أفراد بعيدون كلّ البعد عن هذا المضمار ـ وأنا إلى حدّ ما مطّلع على أوضاعهم وأشعارهم وقيمة شعرهم ومستواه ـ لكن بحمد الله غالبيّة التيار الشعري الثوري ملتزمة، سواء ما يتعلّق منه بالشعر الديني أو ما يرتبط منه بالشعر الأخلاقي، أو ما يتّصل بالشعر السياسي والثوري، أو ما يرتبط منه بالقيم الأخلاقية والتوحيدية وما إلى ذلك، أو ما يتعلّق منه بالشعر الحِكمي. بالتأكيد، الشعر الحكمي قليل للأسف، وسبق أن أوصينا بالاهتمام به، لكنّ شعراءنا قلّما يخوضون في هذا المجال. هذه المجموعة تسجّل اليوم تقدّماً وتطوّراً جيّداً جداً لحسن الحظ. الذين لا يحسبون هذا شعراً ويقولون إنّه شعارات وأيديولوجيا ـ وكأنهم يعارضون تضمّن الشعر للأيديولوجياً ـ هم أنفسهم يدرجون في أشعارهم الأفكار المنحرفة والأيديولوجيات المنحرفة أكثر منكم. إنّهم لا يعارضون إدراج الأيديولوجيا في الشعر، بل يعارضون تلك الأيديولوجيا التي تحملونها أنتم مهما كان البيان والقالب الذي تطرح فيه، وسواء كانت في قالب الشعر أو في قالب الأفلام السينمائية أوفي قالب القصة. وعليه، اسعوا في هذا الاتّجاه.
سيكون شعركم بيرقًا لهويّة الشعب
الحمد لله أنّ تيّار الشعر، وهذا الشعر الذي تنظمونه قد تحسّن كثيراً، ولا فرق في هذا الباب بين أن يكون الشعر في موضوع المعارف الإسلامية أو محبة أهل البيت، أو معارف الثورة، أو حول أحداث البلاد الجارية، حوادث البلاد المهمّة ـ كهذه الأشعار التي قرأها بعض الأعزّاء حول اليمن وحول قضايا العالم الإسلامي المختلفة ـ أو في تمجيد جماليّات سلوك الشعب وتعاطيه. لاحظوا، لشعبنا سلوكيات جميلة. لقد كان سلوك شعبنا جميلاً جدّاً في أحداث السيول التي وقعت في الشمال والجنوب. والمطّلعون على ما حدث ـ سواء في منطقة گلستان أو في منطقة خوزستان، أو في منطقة خرّم آباد، أو في إيلام، وهذه هي الأماكن المهمّة التي حدثت فيها السيول ـ يعلمون [مدى] مشاركة الناس وتضحياتهم، ويعلمون أيّ ملحمة عظيمة جميلة سطّرتها الجماهير. هذا شيء يمكن أن تدرجوه في أشعاركم وتصفوه. عندما تدرجون هذه الأمور في أشعاركم سيكون شعركم في الواقع راية لهوية هذا الشعب، سيكون هذا بيرقاً لهوية شعبكم، سواء في مضمار المعارف الإسلامية أو معارف الثورة أو المعارف الوطنية أو القيم الأخلاقية، أو أحداث من هذا القبيل، عندما تنظمون الشعر في مثل هذه الأحداث سيكون هذا الشعر راية هوية. والهوية يا أعزّائي، بالنسبة لشعب ما مهمّة جداً. الشعب الذي يضيّع هويته سوف يذوب بسهولة ويتلاشى بين يدي الأجانب. هذا عن الشعر.
أمّا حول اللغة فالحقيقة أنّني قلق، قلق حقّاً!
في مجال الشعر والأشعار التي تنظمونها فهي لحسن الحظ أشعار جيّدة من حيث المحتوى واللغة، لكنّنا نجد في السياق العام أنّ اللغة تتآكل وتتهاوى، هذا ما يراه المرء. والليلة كان أحد الإخوة من الإذاعة عندي وروى لي شيئاً حسناً، لكنّني عاتب على مؤسّسة الإذاعة والتلفزيون، لأنّها بدل أن تروّج للّغة الصحيحة والمعيارية والمصقولة تماماً تروّج للغة بلا هوية، وخاطئة أحياناً، ولتعابير خاطئة، والأسوأ من كلّ ذلك مليئة بالعبارات الأجنبية والخارجية وما إلى ذلك. عندما تكون هناك مفردة أجنبية استخدمها كاتب أو مترجم ـ كأن ترجم مقالاً عن اللغة الإنكليزية أو الفرنسية ـ وأبقى عليها بعينها، فيستخدمها مقدّم برامجكم في التلفاز أو الإذاعة مرّة ومرّتين ويكرّرها فتكتسب هذه طابعاً عامّاً. وهكذا، فإننا نعمل على تلويث لغتنا بلا سبب وبصورة مجانية ونثقلها بالزوائد المضرّة.
في بعض الأحيان قد تكون إحدى اللغات مفتقرة لمفردة من المفردات فتستعيرها من لغة أخرى، وحتماً ينبغي هنا أيضاً التصرّف والتغيير. ذات مرّة قلت في جماعة من أدباء اللغة الفارسية قبل سنوات (10) أن العرب يأخذون المفردة من الأجانب لكنّهم يعرّبونها، وهذا شيء حسن جداً. أمّا نحن فلا نفعل ذلك بل نحرص مهما أمكن على التعبير عن المفردة الأجنبية حتّى باللهجة نفسها. في بداية الثورة حيث كنت في عداد المسؤولين في الثورة، كان تُستعمل أحياناً كلمة كميسيون، أو كميته، إذ كان هناك بعض السادة من خرّيجي فرنسا يقولون «كوميسيون»، أي إنّ «كميسيون» لم تكن تنفع، وكان يجب أن يقولوا «كوميسيون» لتكون أقرب إلى اللهجة الفرنسية. أو «كوميته» مثلاً. ما الضرورة لذلك؟ وقلت كان بإمكاننا أن نفعل كما فعل العرب عندما اختُرع التلفزيون فأطلقوا عليه اسم «التلفاز» ـ التلفاز صناعة اللغة العربية، مفردة معرّبة مثل مرحاض، تلفاز ـ فلنسمّه «تلفيزان» وهي مفردة ذات شكل فارسي. ليس لدينا في الفارسية كلمة تشبه كلمة «راديو»، إلّا إذا أمكن أن نجد مفردة ما بنحو نادر، وما المشكلة لو كنّا سمّينا الراديو «راديان» لتكون فارسية، لم يكن من إشكال في ذلك، لكنّنا لم نفعل حتّى هذا. تدخل الألفاظ والكلمات الدخيلة هكذا وباستمرار إلى اللغة الفارسية ويجري تكرارها، وتُكتب في الصحافة وتُكرّر في الإذاعة والتلفزيون، وتوضع في الكتب، والآن هناك الفضاء الافتراضي أيضاً، وهي تُستخدم في الفضاء الافتراضي، أنا قلق، وهذه حقّاً من الأعمال التي ينبغي القيام بها. وبوسع الدائرة الفنيّة أن تعمل في هذا المجال. والذي من المفترض أن يكون كلامنا في هذه الجلسة موجّهاً إليه اثنان: أحدهما، وزير الثقافة والإرشاد جناب السيد صالحي المحترم (11)، وثانيهما رئيس الدائرة الفنّيّة حضرة السيد مؤمني، فلتجتمعا ولتفكرا في هذه القضية، ولا تسمحا بتآكل اللغة الفارسية وتهاويها. علينا الحفاظ عليها كثيراً.
يجب الحفاظ على حرمة اللغة
أحياناً أجدّ أنّه حتّى في زمن الطاغوت، حيث كانت كلّ أمورهم وشؤونهم مرتبطة بالأجانب، كان هناك في مكان ما تعصّب للّغة وما شابه، وقد كنّا في بدايات الثورة جيّدين جداً من هذه الناحية، لكن شيئاً فشيئاً حصل تراخٍ وإهمال شديدان.
وقد دخلت حالة التراخي اللغوي هذه إلى عالم الشعر أيضاً، ففي مجال كتابة الأنشودة، [نرى حقّاً أنّ] مستوى بعض هذه الأنشودات التي يجري إنتاجها هابط جدّاً. إنها معيبة من حيث المضمون، وكذلك من حيث السبك اللغوي، بعض هذه الأنشودات ذات بنية سيئة جدّاً. ثم تأتي هذه الأنشودات بهذه البنية ـ الآن فيما يتعلّق بالأغاني الممنوعة غير المرخصة، فهو بحث آخر ـ وتُبثّ في التلفاز والإذاعة، وتتكرّر في شارات الأفلام وتنتشر. أعتقد أنه ينبغي التفكير في هذه القضايا. أنشودات بداية الثورة، مثل هذه الأنشودة التي قرأها [الأخ العزيز] «إنّه نداء الحرية الذي يرتفع من المشرق» جميلة جداً. رحم الله حميد سبزواري فقد كان له الكثير من مثل هذه الأشعار. يجب أن نحافظ على حرمة اللغة.
لاحظوا يا أعزائي، لقد جرى الحفاظ على هذه اللغة قروناً طويلة وتنوقلت من يد ليد بواسطة الشعراء، وعلى يد الكتاب بمقدار ما، لكن بالأساس على يد الشعراء. لغة سعدي مثلاً، إذا أردتم أن تعبّروا عن مضمون هذا البيت الذي قرأته الآن «سعيد أنا بهذا العالم لأنّ العالم البهيج منه» (13) فلن تجدوا كلمات أبلغ وأكثر فصاحة من هذه؟ أو لنفترض بيت الشعر:
أين أنتم يا شهداء الله؟ يا فدائيّي أرض كربلاء (14)
هل كنتم تتصوّرون أنّه من نظم مولوي؟ هذا من شعر مولوي نظمه قبل ثمانمائة عام وكأنّه نُظم اليوم. أي إنّ اللغة وصلتنا سالمة إلى هذا الحدّ، تعاقبت عبر القرون إلى أن وصلتنا. وحتى الأسلوب الهندي [في الشعر] أيضاً، فمع أنّه معقد من حيث المضمون، لكنّ لغته لغة رصينة نقيّة قويّة، وخاصّة لدى المبرّزين في هذا الأسلوب كصائب وكليم وحزين وبيدل، فقد كانت لغتهم لغة راقية حقّاً.
لا يخلو ستار من ندائك وصوتك، العالم مليء بك ومكانك خال
مع أنّ الكائنات مساكين واقفون ببابك، لكن لا أحد يعلم أين بيتك ومكانك (15)
إذا أردتم التعبير عن هذا المضمون اليوم بعد أربعمائة عام على زمن صائب فهل تستطيعون الإتيان بألفاظ أوضح وأنصع وأفصح من هذه؟ هكذا حفظوا اللغة وأوصلوها إلينا. فهل نسلّمها الآن إلى فلان من كتّاب الأنشودات عديمي الفن ـ عديمي الفن حقاً! ـ ليخرّبوا الألفاظ ويكسروها وما شاكل، ثم نقوم نحن بنشرها على حساب بيت المال ونبثّها عبر الإذاعة والتلفزيون أو الأجهزة المختلفة، الحكومية منها وغير الحكومية!
أسأل الله تعالى أن يمنّ علينا بتوفيقه لنستطيع إنجاز هذه الأعمال بصورة صحيحة إن شاء الله. لقد سررنا اليوم كثيراً للّقاء بالأعزاء، وأسأل الله التوفيق لكم جميعاً إن شاء الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1 ـ في بداية هذا اللقاء قدّم عدد من الشعراء قصائدهم.
2 ـ سورة الرحمن، الآيات 1 إلى 4 .
3 ـ سورة الحديد، شطر من الآية 25 .
4 ـ سورة ص، شطر من الآية 82 .
5 ـ سعدي الشيرازي، القصائد.
6 ـ سعدي الشيرازي، الغزليات (القصائد الغنائية).
7 ـ سعدي الشيرازي، الغزليات، الغزل رقم 13 .
8 ـ حافظ الشيرازي، الغزليات، من غزل مطلعه: «زان يار دلنوازم شكريست با شكايت / گر نكتهدان عشقي بشنو تو اين حكايت» (أشكر حبيبي الحميم وأشكوه، إن كنتَ ممن يفهمون دقائق العشق فاستمع لهذه القصة).
9 ـ لأبي الفرج الإصفهاني.
10 ـ كلمة الإمام الخامنئي في لقائه أعضاء المجمع الدولي لأساتذة اللغة الفارسية بتاريخ 06/01/1996 م .
11 ـ الدكتور عباس صالحي.
12 ـ السيد مرتضى أميري إسفندقة.
13 ـ سعدي الشيرازي، الغزليات.
14 ـ المولوي، ديوان شمس، الغزليات، غزل بهذا المطلع.
15 ـ صائب تبريزي، ديوان الأشعار، الغزليات، غزل بهذا المطلع.