كلمة الإمام الخامنئي في لقائه رئيس السلطة القضائيّة ومسؤوليها_26-6-2019
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين، لا سيما بقية الله في الأرضين.
أهلًا وسهلًا بكم أيها الإخوة الأعزاء والأخوات العزيزات،[أنتم] من العناصر المؤثرة والفعالة في قطاع مهم جدًا هو السلك القضائي. نبارك لكم أسبوع السلطة القضائية ونحيّي ذكرى الشهيد [السيد محمد حسيني] بهشتي. والحق يقال إنّ هذا الشهيد الجليل كان نعمة؛ نعمة للثورة ونعمة كذلك للسلطة القضائية في الجمهورية الإسلامية بشكل خاص. كان رجلًا مفكّرًا، صاحب إرادة قوية، منضبطًا ومثابرًا ومفعمًا بالنشاط. كان نعمة كبيرة، ونحن نحيّي ذكراه، فأعلى الله من درجاته إن شاء الله. نتقدم بالشكر من سائر رؤساء السلطة القضائية المحترمين في العهود المتتالية، كان كل منهم قد أدّى أعمالًا وإنجازات وبذل جهودًا لهذه السلطة المهمة جدًا.
أنتم العدلية، مهمّتكم الأساس إقامة العدل
حسنًا، لقد قيل الكثير حول أهمية السلطة القضائية، وذكرنا نحن أيضًا بعض النقاط عن هذا الموضوع، وتحدث الآخرون أيضًا عن أهمية السلطة القضائية، فهذا شيء معروف وواضح. إنّ محور هذه الأهمية هو العدل والذي جاء في القرآن الكريم: «وَاِذا حَكمتُم بَينَ النّاسِ أن تَحكموا بِالعَدل» (2). العدل أساس تحقق الحياة الإنسانية الطيبة. أنتم حين تدعون لتعجيل ظهور الإمام المهدي المنتظر (أرواحنا فداه) فإنكم تطلبون أن يظهر لينشر العدالة، هذا هو الواقع بالتالي: «يملَاُ اللهُ بِه الأرضَ عَدلًا وَقِسطًا بعدَ ما مُلِئَت ظُلمًا وَ جَورًا» (3). مع أنّ ذلك الإمام العظيم سينشر الدين والتقوى والأخلاق أيضًا في المجتمع لكنكم لا تقولون: «يملأ الله به الأرض دينًا» بل تقولون: «عدلًا». وهذا يدل على أن العدل هو الحاجة الأساسية للحياة الإنسانية الطيبة. وأنتم مؤسسة العدالة، أنتم العدلية، ومهمتكم الأساسية إقامة العدل. من هنا تنبع أهمية السلطة القضائية. طبعًا في دستور البلاد هناك نقاط أخرى سوف أتعرض لها أيضًا.
القضاء في الجمهورية الإسلاميّة؛ غرسٌ نما وتحوّل..
كانت السلطة القضائية في الجمهورية الإسلامية بناءً جديدًا ـ مثل غرس نبتة صغيرة ـ وتختلف اختلافًا جوهريًا عن السلطة القضائية قبل الثورة. حسنًا، ينبغي لهذه النبتة أن تنمو يومًا بعد يوم. ويجب أن تشهد تقدّمًا في كل فترة بالمقارنة مع الفترة التي سبقتها، وقد بدأت الآن عهدًا جديدًا؛ ويجب أن يكون هناك فضل أو زيادة أو امتياز وثمار تضاف وتهدى للسلطة القضائية علاوة على ما قام به الماضون، فما هي هذه الثمار؟ إنها التحول، التحول في السلطة القضائية. فما معنى التحول؟ معنى التحول أن لديكم أصولًا معينة ومحددة على أساس الإسلام والقرآن والجمهورية الإسلامية يجب أن تراعوها، وينبغي أن تسيروا ملتزمين بها وضمن إطارها، وهذه هي المهمات والغايات الأساسية للسلطة القضائية، هذه أهداف لا تتغير، هذه هي الركائز التي كانت منذ البداية ولا تزال موجودة الآن وستبقى موجودة بعد الآن أيضًا، إنما التحول هو أن تبدعوا وتوجدوا أساليب ومناهج مبتكرة وجديدة ومؤثرة تأثيرًا كبيرًا لتطبيق هذه الأصول والمبادئ ولتنفيذ هذه المهام والمأموريات والوصول إلى هذه المثل العليا والغايات الكبرى، وأن تستخدموا هذه الأساليب المبتكرة؛ هذا أولًا، ومن ثم إزالة العيوب والثغرات والنواقص الموجودة في الماضي. هذا هو معنى التحول.
لا تخشوا شيئًا، توكّلوا على الله تعالى، بادروا واعملوا!
لدينا جهاز بأساليب عملية وبخطط تنفيذية وإلى جانبه هناك مقدار من الإشكالات والنواقص، إذا أردتم خلق التحول فيجب جعل تلك الأساليب نافعة كفوءة وتحويلها إلى أساليب أكثر تأثيرًا وكفاءة ومرونة، ورفع تلك الموانع والإشكالات والنواقص. هذا هو التحول، وهذه العملية تحتاج طبعًا إلى خطة وبرمجة، فالتحول دون تخطيط وبرنامج هو أمر غير ممكن، ولا يمكن التحرك والعمل بطريقة يومية، إنما ينبغي أن تجلس الأجهزة العاقلة والمفكرة وترسم صورة ومخططًا عامًا لهذا التغيير الأساسي وتدونه على الورق وتتخذ القرارات. وهذه العملية تمت بحمد الله. وقد تم طلب هذا الجزء من المهمة من حضرة السيد رئيسي رئيس السلطة القضائية الجديد المحترم قبل أن يتولّى هذه المسؤولية، فقام بإعداد خطة تحول شاملة ومقبولة، إذًا هذه العملية قد تمت، هذا الجزء من المهمة تم وأنجز، وهذا شيء حسن جدًا لكن البرنامج عبارة عن أمور ذهنية، وإذا أردنا لهذا البرنامج أن يتحقق في الواقع فلا بد من العمل. إذًا، توصيتي الأولى لرئيس السلطة القضائية المحترم ومسؤوليها المحترمين ومختلف أقسامها هو أن تطبقوا هذا البرنامج الجيد الذي دوّنتموه وأعددتموه وقدمتموه، أن تنفّذوه وفقًا لجدول زمني من دون أي تساهل أو غض طرف، لا تسمحوا له بالتعثر. لا تخشوا شيئًا، تقدموا إلى الأمام، توكلوا على الله تعالى، وبادروا واعملوا، وطبقوا هذه الخطة عمليًا. افعلوا ما من شأنه أن يوجد، بعد مدة مقبولة ومعقولة، شعورًا راسخًا بأن السلطة القضائية تشهد تحولًا وفي حال تحول ـ مع أن هذه البرامج والخطط طبعًا ليست قصيرة الأمد أو لعدة أشهر وما إلى ذلك وليست أمورًا عملية بهذا المعنى ـ وهذا شيء يحصل بفضل حركتكم وجهدكم. وطبعًا تلك الخطة القصيرة الأمد مهمّة هي الأخرى؛ إعداد الخطة.
ابدأوا اليوم ولا تسمحوا بأي تأخير
وصلت سابقًا، أنا العبد إلى قناعة؛ أن إعداد الخطة يمثل خمسين في المئة من العمل، ولكن ما لم تنضم هذه الخمسون في المئة إلى تلك الخمسين في المئة، فكأن شيئا لم يحصل! على سبيل المثال، أنتم تريدون سحب ماء من قعر بئر إلى الأعلى وعمق البئر مئة متر مثلًا، وتسحبون الماء مسافة خمسين مترًا ويبقى الماء هناك، فكأنكم لم تفعلوا شيئًا، ولا فرق بين أن تسحبوه إلى خمسين مترًا أو لا تسحبوه أصلًا. إذا أردتم أن تصل تلك النتيجة والثمرة إلى أيديكم فعليكم الاهتمام بالخمسين في المئة اللاحقة المتمثلة بالعمل والتحرك والنشاط والمبادرة وباقي الشروط اللازمة، يجب أن تقوموا بهذه الأعمال لكي تصلوا إلى النتيجة والثمار إن شاء الله وأنا متفائل بذلك. إنني حين أنظر للمحاكم والسلطة القضائية في البلاد يغمرني الأمل بأنكم إن شاء الله ستتمكنون من إنجاز هذه المهمة. وأقولها لكم: ابدأوا هذه العملية منذ البداية، ولا يكون الأمر بحيث نقول مثلًا: «لدينا متسع من الوقت، لدينا بعض المجال، ما زال هناك وقت، وسوف نقوم بهذه الأمور إن شاء الله»، ثم نقول في أواسط العمل أو أواخره: «يجب أن نقوم بهذا العمل ويجب أن نقوم بذاك العمل». هذه حالة لا فائدة منها. يجب أن تبدأوا منذ اليوم الأول، لا تسمحوا لأنفسكم بأي تأخير. هذه قضية.
سجلت عدة نقاط حول السلطة القضائية. والنقاط التي أشار لها السيد رئيسي كانت جيدة جدًا، وهذا هو ما نقوله نحن أيضًا وقد ذكره. نشير إلى جملة من النقاط.
إحدى النقاط أن تراجعوا دستور البلاد وتلاحظوا واجبات السلطة القضائية في القانون.
ليس واجب السلطة القضائية القضاء والمحاكم فقط، إنما واجب السلطة القضائية أكثر من هذا. بحسب دستور البلاد إحياء الحقوق العامة من واجبات السلطة القضائية. وإحياء الحقوق العامة عملية لها مديات واسعة جدًا تمتد من قضايا الاقتصاد إلى قضايا الأمن إلى المجال الدولي، هذه كلها ضمن الحقوق العامة. الدفاع عن حقوق الشعب على الصعيد الدولي شيء بالغ الأهمية، وهو من ضمن واجباتكم. أو على سبيل المثال نشر العدل والحرية، ونشر العدل هذا إلى جانب نشر الحرية. والمراد من الحرية في دستور البلاد هو بالطبع الحريات المشروعة، وهذا شيء معروف. نشر الحرية أيضًا من ضمن واجباتكم. كيف تقومون بهذا الشيء؟ بأيّ أسلوب؟ قلت إن الأساليب التي يجب أن تختاروها ينبغي أن تكون أساليب جديدة ومبتكرة.
أو الحيلولة دون وقوع الجرائم، قضية الحؤول والوقاية مسألة بالغة الأهمية.
من الجيد أن نعين قسمًا في السلطة القضائية للوقاية والحيلولة دون وقوع الجرائم، لكن الوقاية عملية واسعة جدًا. يجب أن تعرفوا الجرائم وتعرفوا أسبابها والعوامل التي تؤدي إلى الجرائم، وينبغي أن تعرفوا الأعمال التي يمكنها الحؤول دون وقوع الجريمة. ثمة تفاصيل دقيقة ومتنوعة مطولة في هذا الباب. وكل واحد من هذه الأعمال بحاجة إلى من يقوم به وينجزه. لا يمكن أن نقول مثلًا إننا وضعنا لجنة أو هيئة لهذه المهمة، كلا، هذه أمور ينبغي أن تتابع واحدًا واحدًا.
أو حسن تطبيق القانون، من الذي ينقض القانون؟ من الذي ينتهك القانون؟ ليس القانون مجرد قوانين السير أو على سبيل المثال القانون الذي ينتهكه الشخص الفلاني اللامبالي، ففي بعض الأحيان ينتهك القانون بشكل عام وواسع، وهنا يجب أن تتصدي السلطة القضائية بكل قوة وبشكل مباشر. القصد هو أنه كلما نظر المرء للسلطة القضائية يلاحظ عظمة هذه السلطة وسعتها ومدياتها أكثر، وهذا الأمر بأيديكم ومن اختصاصكم، وأنتم من تحمل على عاتقه هذه الأعباء الثقيلة. إذا استطعتم إن شاء الله أن تقوموا بعمل ما وتنجحوا فسيكون هذا الأمر عظيمًا وكبيرًا جدًا وستكون فيه مرضاة عظيمة من الله. أي إنكم إذا نهضتم بأعمالكم على نحو حسن إن شاء الله فسيكون ذلك من قبيل الصدقة الجارية والإنفاق الذي لا نظير له.
هناك نقطة أخرى أشار لها سماحة السيد رئيسي، وهي قضية مكافحة الفساد. مكافحة الفساد قضية تطرح داخل السلطة القضائية وتطرح خارجها أيضًا، لكن الأولوية لداخل القضاء. هناك آلاف القضاة الشرفاء الطاهرين والموظفين الأمناء في كل السلطة القضائية يعملون بجد واجتهاد ومثابرة، ويظهر عنصر غير صالح في محكمة ما في مدينة من المدن ويقوم بشيء معين ويشوه سمعة هذه النفوس الطاهرة الشريفة. فهل هذا بالشيء القليل؟ هل هذا بالشيء الصغير؟ ربما كان عدد أولئك الأشخاص غير الصالحين الموجودين في كل السلطة القضائية لا يشكلون سوى نسبة مئوية صغيرة جدًا من الأشخاص الذين هم في ذروة الشرف ـ لدينا قضاة يعيشون حياة صعبة ويتابعون ملفات كبيرة مهمة لكنهم لا ينحرفون حتى بمقدار ذرة، ولو كانوا من أهل الانحراف لأصبحت حياتهم أفضل بكثير، لكنهم لا ينحرفون أبدًا ـ أو هم قضاة عاديون يقومون بأعمالهم بأمانة وصدق. نسبة أولئك الفاسدين غير الصالحين إلى هؤلاء الأفراد نسبة ضئيلة جدًا، بيد أن النسبة القليلة حتى لو كانت واحدًا في المئة لها مع ذلك تأثيراتها المخربة، وسوف أعود للتطرق لهذا الموضوع في رسم ملامح السلطة القضائية. تشددوا في خصوص الفساد داخل السلطة القضائية. والسبب هو أن هذه السلطة هي المسؤولة عن رفع الفساد، فإذا فسدت هي نفسها كان ذنبها مما لا يغتفر. كلما ارتفعت مرتبة وشأن والمكانة الحقوقية للإنسان أكثر، ازدادت أهمية عمله سواء بالاتجاه الإيجابي أو بالاتجاه السلبي. لاحظوا أن الله تعالى يخاطب نساء الرسول في القرآن، فيقول لهن: «يٰنِساءَ النَّبِي مَن يأتِ مِنكنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَينَةٍ يضٰعَف لَهَا العَذابُ ضِعفَينِ» (4). أية واحدة منكن تقوم بمخالفة تعذب عذابًا مضاعفًا. العمل نفسه الذي لو قامت به امرأة أخرى تضرب مئة سوط إذا قامت به واحدة منكن تضرب مائتي سوط، لماذا؟ لأنكن زوجات النبي «وَمَن يقنُت مِنكنَّ لِله وَرَسولِه» (5) ثم إن جزاءهن وأجرهن مضاعف أيضًا. حين تفعلون عملًا صالحًا يكون أجركم أيضًا مضاعفًا. هذا بسبب أهمية مكانة الإنسان [موقعية الشخص].
انظروا بهذه العين للمفاسد داخل القضاء
أنا العبد، وفي كثير من الأحيان يرقّ قلبي للنبي يونس (سلام الله عليه). ما الذي كان قد فعله حتى يقول: «سُبحٰنَك اِنّي كنتُ مِنَ الظٰلِمينَ» (6) وبتلك العقوبة الشديدة التي عاقبه الله تعالى بها. كان قد دعا قومه وثابر وحاول، فلم يستجب له قومه، فغضب منهم وترك المدينة، هذا ما فعله!. إذا كان هناك عالم في مدينة معينة مثلًا ينصح الناس والناس لا يصغون له ولا يعملون بنصائحه فيعلن مغادرته ويقول لن أعود إلى هذه المدينة ويقوم ويخرج منها، ففعله هذا سيئ، ولكن هل يكون عقابه مثلًا أن يقع في البحر وفي بطن الحوت ويقول الله تعالى عنه لو لم يكن من المسبحين: « لَلَبِثَ في بَطنِه إلى يومِ يبعَثونَ» (7) كان المقرر أن يبقى في بطن الحوت إلى يوم القيامة! هل جزاؤه هذا؟ ولكن مع ذلك نجد أن الله تعالى عاقب يونس بهذا الشكل. لماذا؟ لأنه نبي. يقول له أنت نبي: «فَظَنَّ اَن لَن نَقدِرَ عَلَيهِ» تصور أننا لن نتشدد معه. «نَقدِرَ» بمعنى التشدد «فَنادىٰ فِي الظُّلمٰتِ اَن لا اِلهَ اِلّا اَنتَ سُبحٰنَك اِنّي كنتُ مِنَ الظٰلِمينَ» (8) اعتبر نفسه ظالمًا واعترف «فَاستَجَبنا لَهُ وَنَجَّيناهُ مِنَ الغَمِّ» (9). هكذا هو الحال، أنت تختلف عن الإنسان العادي. إذا فعل إنسان عادي شيئًا فله توبيخه وعقابه؛ و[إذا] قمت أنت بذلك العمل فسيكون عقابك ضعفًا أو عدة أضعاف [عقاب] الشخص العادي، فالأمر مختلف. انظروا بهذه العين للمفاسد داخل السلطة القضائية.
وبالتأكيد، فإنّ التعرض والتهم والإساءات التي توجّه للسلطة القضائية كثيرة، هذا ما نعلمه أيضًا. أي إنهم يتكلمون ويكتبون ضد السلطة القضائية أكثر بكثير من حقيقة الأمور في الواقع. والآن هناك الفضاء الافتراضي أيضًا، جهاز لا أول له ولا آخر يكتب فيه أي أحد كل ما يشاء. هذه أمور لا أهمية لها ويجب أن لا تعوقكم عن عملكم. هل تعرفون شخصًا في العالم وفي التاريخ أعدل من أمير المؤمنين؟ هذا أمير المؤمنين نفسه الذي هو مظهر العدالة اتهموه بعدم العدالة. هناك شيء يقولونه بالتالي، ويقولونه ضد الجميع، ضد الرسول، وضد الرسل والأنبياء وضد الإمام أمير المؤمنين، وضد الله، ويقولونه ضدكم أيضًا، فليقولوا، لا يمنعكم ذلك من أداء أعمالكم.
هناك نقطة أخرى مهمة جدًا، وهي قضية ملامح وصورة السلطة القضائية. قد تكونون صالحين وشرفاء جدًا ولكن تقع حادثة أو حوادث، من شأنها أن لا تعكس ذلك الشرف وتلك الأمانة وذلك الصدق في أنظار الناس، بل ينعكس في أنظارهم ضد ذلك، هذا شيء سيّئ للغاية. ما يجب أن ينعكس في أنظار الناس هو أن للسلطة القضائية هذه السمات:
أولًا تتميّز بالحكمة، في قرارات التنصيب والتعيين وفي أحكامها وفي سلوكها وفي أقوالها. يجب أن تثبت أنها ذات حكمة. وخصوصًا الدور الذي يمكن أن يقوم به المسؤولون الكبار في السلطة القضائية.
يجب أن تثبت أنها ذات علم بمبادئ القضاء. هذا شيء يجب أن يعرض ويظهر ويكون معلومًا أن القضاء جهاز عالم ويعمل عن علم ومعرفة ويقوم بأعمال تخصصية ذات خبرة علمية. العلم إما قانون أو فقه. مبادئ القضاء في الجهاز القضائي عبارة عن الفقه والقانون.
سلطة لها آذان صاغية للاستماع ولها سعة صدر للاستماع، سواء في المراكز من قبل المحققين أو في مقابل المدعي العام وأخيرًا في المحكمة أمام القاضي. ينبغي أن تكون هناك آذان صاغية. اسمعوا! أنصتوا للشاكي والشخص الذي جاء يشتكي وانظروا ما الذي يقوله حقًا وأنصتوا أيضًا للمتهم الذي يدافع عن نفسه، اسمعوا تمامًا ما الذي يقوله. هذا شيء يجب أن يسمع، وقد لا توافقون كلامه ولا تقبلونه ولكن استمعوا له.
وهناك أيضًا الاقتدار والحسم. يجب أن تتحلوا بالحكمة وبالعلم وبحسن الإصغاء وأيضًا بالاقتدار. يجب أن يدرك الجميع أن السلطة القضائية لها اقتدارها، وأنها تعمل بحسم فيما تشخصه وتصل إليه من نتائج. بقاء الملفات، وهو ما كررته مرارًا في هذه الجلسة من اللقاء بالسلطة القضائية، إنما هو ركلة توجه لهذه الحالة والسمعة المنشودة. عندما يبقى الملف سنة أو سنتين أو خمس سنوات أو عشر سنوات فمعنى ذلك أن الجهاز القضائي يعاني من التردد وعدم الحسم في هذه القضية، ولا يدري ما الذي يجب أن يفعله. وهذا غير ممكن، يجب أن يعملوا بالنتيجة التي يصلون إليها بحسم مهما كانت تلك النتيجة.
حسنًا، ماذا نفعل الآن حتى تتكون مثل هذه الصورة والملامح في أذهان الناس عن السلطة القضائية؟
هذا يعود لسلوككم ولأقوالكم ولأعمالكم وللإعلام الصحيح الذي تقومون به، وبالطبع فإن الأجهزة المتنوعة مثل هيئة الإذاعة والتلفاز وغيرها يجب أن تساعد. الجهاز القضائي ملك الثورة وملك الناس والشعب وملك البلد، وجميع الأجهزة ينبغي أن تساعد في هذا المعنى. لا يكون الأمر بحيث يعمدون إلى شيء صغير في التلفزيون أو في الصحيفة الفلانية ـ مثل ما يفعل الفضاء الافتراضي حيث يقولون فيه كل ما يحلو لهم دون مبالاة ـ فيتكلم هؤلاء أيضًا على هذا النحو فينشرون شيئًا صغيرًا غير معلوم وغير موثوق ويكون فيه إضعاف وزعزعة للسلطة القضائية. يجب أن لا يكون الأمر على هذا النحو. تكوين هذه الصورة يقع على عاتق الجميع، يقع على عاتقكم وعلى عاتق الآخرين. حسنًا، هذه أيضًا نقطة.
ونقطة أخرى تتعلق بالتعيينات والتشكيلات؛ لاحظوا أنّ أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) في عهده المعروف لمالك الأشتر ـ وهو أرقى كتاباته وفيه جزء يتعلق بالسلطة القضائية، ويسمّونه خطأ معاهدة [عهدنامه] وهو ليس معاهدة بل عهد، بمعنى أوامر ودساتير ـ يقول أولًا: «ثُمَّ اختَر لِلحُكمِ بَينَ النّاسِ اَفضَلَ رَعِيتِك في نَفسِك» (10) اختر للقضاء أفضل الناس. «أفضل» هذا شيء مهم جدًا. ثم يذكر الإمام الخصوصيات والسمات التي يجب أن يتحلى بها هذا الشخص الأفضل، وهي عشر خصوصيات أو اثنتا عشرة خصوصية، راجعوها. إنني أرجو بكل تأكيد من الجميع ـ وخصوصًا مديري السلطة القضائية والذين لهم دور في التعيينات وما إلى ذلك ـ أن يراجعوها وينظروا فيها. يذكر الإمام خصوصيات وسمات تنطبق تمامًا على الاحتياجات التي يشعر بها الإنسان، وقد أحصاها الإمام كلها وبينها وقال بأن القاضي يجب أن تتوافر فيه هذه الخصوصيات. إذًا التعيينات مهمة جدًا. انتقاء الأفراد للوظائف والمهمات المختلفة عملية مهمة. التعيينات وكذلك الاستقطاب والتوظيف. تريد اختيار قاض وتريد انتقاء أفراد لأعمال معينة، فانظروا في هذه الخصوصيات وراجعوها بالتأكيد (11). الذي أرجوه أن تراجعوا هذا الجزء من رسالة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أي أوامره لمالك الأشتر.
ونقطة أخرى وهي الأخيرة هي أن واجب السلطة القضائية هو القانون والحقوق والفصل وتعيين الحدود، ولكن في هذه العجلات الضخمة والآلات الفولاذية المتينة للسلطة القضائية، لا بد من وجود وسيلة تلطيف ومرونة. ثمة أشياء تعمل على التلطيف، تعمل على تلطيف السلطة القضائية وتلطيف نتاجات ومخرجات السلطة القضائية. في السلطة القضائية نفسها يمكن هذا الشيء عن طريق مراعاة الأخلاق. وخصوصًا اجتناب سوء الأخلاق مع المراجعين، وكذلك الأمر مع المرؤوسين، ولكن مع المراجعين أكثر من المرؤوسين. حسن الخلق، حتّموا على أنفسكم بالتأكيد أن تتعاملوا معهم بأخلاق. المحقق في مقام التحقيق، والمدّعي العام في مقام المجادلة مع المتهم أو محامي الدفاع في المحكمة. عندما يستدل ويبرهن، فليبرهن ولكن لتكن العملية مفعمة بأخلاق. بعض هذه الأعمال التي يقوم بها الغربيون وينشرون أفلامها من قبيل أن المدعي العام يستخدم النبرة واللهجة الفلانية ويسيء الأدب والاحترام، أولاً؛ الكثير من هذه الأشياء كذب، وثانيًا؛ لا تجعلوا أعمال الغربيين ملاكًا ومعيارًا لأعمالكم أساسًا. انظروا ماذا يقول لكم الإسلام وما هي أوامر الإسلام وتعاليمه. تعاملوا بأخلاق، ثم إنه في بعض الأحيان يتجادل القاضي مع المتهم ويتكلم ويسأل شيئًا ويجيب بشيء، فليكن كل هذا بأخلاق وبلين وبسعة صدر وبصبر. هذا عن التعامل الداخلي.
وفي الأداء؛ في الموارد التي يكون فيها خصام لتكن هناك توصيات بالعفو والصفح والتسامح والتجاوز وما شاكل. والإسلام يقول في القضايا العائلية: «وَالصُّلحُ خَير» (12)، ليتصالحوا وليعملوا على المصالحة. وقضية إحياء التحكيم فيما يتعلق بشؤون الأسرة أو مجالس حل الخلافات ـ طبعًا بشكلها الصحيح ـ هذه هي حالة إعمال الأخلاق في مسائل السلطة القضائية وفي عجلات وآلات السلطة القضائية. حسنًا، كان هذا ما يتعلق بقضايا السلطة القضائية.
شعبنا مقتدر وسيصل إلى كلّ أهدافه!
حول الشؤون السياسية الجارية في الوقت الحاضر أيضًا أظهر الشعب الإيراني عزة وعظمة واقتدارًا بالمعنى الواقعي للكلمة والحمد لله. ليس فقط في القضايا الأخيرة ـ وهذه بحد ذاتها نموذج ـ بل على مدى هذه الأعوام الأربعين، لقد أبدى ذلك حقًا. حين ترون في وكالات الأنباء الخارجية عن ألسنة الساسة والدبلوماسيين وما شاكل أنهم كثيرًا ما يكررون هذه الأيام بأن إيران لا يمكن تركيعها بالضغوط والحظر والتهديد وما إلى ذلك، فهذا ليس ناتجًا عن الأوضاع في الشهر الأخير أو الشهرين الأخيرين أو الأشهر الستة الأخيرة بل هو محصلة أربعين عامًا من مسيرة الشعب الإيراني. لقد حرر الشعب الإيراني نفسه بالثورة من قوقعة الذلة والخضوع التي فُرضت عليه. لقد حطم هذه القوقعة وخرج منها. وبرزت فيه الهوية الإيرانية بخصوصيات إسلامية؛ كطالب للعزة والاستقلال والتقدم، لذلك، مهما زاد الأعداء الظّلمة من ضغوطهم لا تؤثر فيه هذه الضغوط. انظروا إلى كل هذه التظاهرات، إلى مسيرات يوم القدس، إلى مسيرات ذكرى انتصار الثورة، منذ أربعين سنة، فهل هذه مزحة؟! لقد مارسوا كل هذه العراقيل ضد الانتخابات في البلاد، لكن الناس تشارك بعزم وإرادة مثيرة للإعجاب حقًا في ساحات الانتخابات. وفي آخر هذا العام توجد انتخابات، على الرغم من وجود بعض حالات بث الترديد والشكوك من قبل بعض الأفراد، لكنني أعلم أن الشعب سوف يشارك في هذه الانتخابات بشوق وحماسة، وهذا ما يثبت ويدل على عظمة الشعب الإيراني. وإذا بهم يوجهون التهم لهذا الشعب الكبير هذا الشعب الشجاع هذا الشعب حسن السمعة، من الذي يوجه الاتهامات؟ أكثر حكومات العالم شرًا أي الحكومة الأمريكية (13). أكثر دول العالم وحكومات العالم شرورًا ومسبّبو الحروب وسفك الدماء والتفرقة ونهب وسلب الشعوب على مدى تاريخ طويل، وليس على مدى عشرة أعوام أو عشرين عامًا، الوجوه الأكثر كراهية في مثل هذه الدولة يتهمون الشعب الإيراني، ويوجهون الشتائم والإهانات للشعب الإيراني في كل يوم. الشعب الإيراني لا يتوقف بسبب هذه الإهانات ولا يتراجع بسبب هذه الإهانات والشتائم. لقد تعرض الشعب الإيراني للظلم ـ هذا الحظر الظالم نفسه ظلم بارز ضد شعب إيران ـ لقد تعرض الشعب الإيراني للظلم لكنه ليس ضعيفًا، الشعب الإيراني مقتدر. وبفضل من الله وبحول الله وقوته سوف يصل الشعب الإيراني بقوة واقتدار إلى كل أهدافه التي رسمها لنفسه.
.. وهذا الشعب واقف كالجبل، ويزداد رسوخًا!
نحن تعرضنا للظلم، ونحن مظلومون، لكننا لسنا ضعفاء بل نحن أقوياء. الجزء الأساسي والمهم من قوة الشعب الإيراني قائم على الاعتقاد بالتسديد والدعم الإلهي. قال لا تخافا «اِنَّني مَعَكما اَسمَعُ وَاَرىٰ» (14). الله تعالى معنا وهو يساعدنا الآن، والدليل على ذلك هو هذه الأعوام الأربعون حيث مارسوا ضدنا كل هذه المؤامرات والضغوط وأشعلوا الحرب والفتن ومارسوا النفوذ والتغلغل وأطلقوا العناصر الإرهابية ضد الناس، وقاموا بألف عمل قبيح خياني ضد هذا الشعب، وهذا الشعب واقف كالجبل ويزداد رسوخًا وقوة يومًا بعد يوم. وهو اليوم أكثر قوة من قبل عشرة أعوام وعشرين عامًا وأكثر اقتدارًا ورسوخًا. وحين لم يستطيعوا تحقيق أهدافهم عن طريق الضغوط وما شاكل، ولأنهم يتصورون الشعب الإيراني شعبًا بسيطًا ينخدع جاؤوا ليقولوا: «تعالوا وتفاوضوا معنا فأنتم يمكن أن تتطوروا وتتقدموا»! نعم، الشعب الإيراني سوف يتقدم بالتأكيد ولكن من دونكم، وإذا جئتم أنتم فلن يكون هناك تقدم. أنتم [الأمريكيون] وبريطانيا والآخرون كنتم لخمسين عامًا من العهد البهلوي ـ وخصوصًا أمريكا طوال نحو ثلاثين عامًا في العهد البهلوي الثاني ـ "الكل في الكل" في هذا البلد وتراجع هذا البلد إلى الوراء يومًا بعد يوم. أنتم لا يمكنكم أن تكونوا عوامل تقدم، بل أنتم عوامل تأخر الشعب الإيراني. الشعب الإيراني يتقدم شريطة أن لا تقتربوا أنتم.
يقولون تعالوا للمفاوضات، المفاوضات خدعة. المفاوضات على ماذا؟ على ما يريده هو، أي إن هناك في يدكم سلاحًا لذلك فهو لا يتجرأ على التقدم إلى الأمام فيقول لكم أعطني هذا السلاح، ألق هذا السلاح لأستطيع أن أفعل معك كل ما أريد، لأستطيع أن أنزل بك أي مصيبة أريدها. هذه هي المفاوضات. إذا وافقت في هذه المفاوضات التي تحصل على كلامه فسوف تنزل بك الويلات، وإذا لم تقبل كلامه فستعود الأسطوانة نفسها على ما كانت والمعارك والضجيج والإعلام والدعاية وأن «هؤلاء لا يخضعون» وحقوق الإنسان الأمريكية وما إلى ذلك من الترهات. يضربون ويقتلون قرابة ثلاثمئة إنسان في السماء ثم يزعمون المزاعم عن حقوق الإنسان. يهبّون لمساعدة السعوديين ويقصفون الشعب في اليمن بتلك الصور في الأسواق والمساجد ومجالس العزاء ومجالس الفرح وفي المستشفيات وما إلى ذلك، ثم يدّعون حقوق الإنسان. هكذا هم.
كلا، لقد وجد الشعب الإيراني طريقه، وقد رسمت الثورة طريقنا، ورسمه الإمام الخميني الجليل، وأهدافنا واضحة ومعروفة. ولقد تكررت هذه الأهداف طوال هذه العقود مرارًا وتكرارًا، وهي أهداف قيّمة وجذابة: تحقيق الرفاه المادي، تحقيق العزة الاجتماعية، تحقيق مستوى العقلانية بمستواها العالي، والوصول إلى مراحل مميزة وممتازة من العلم، والوصول إلى الاستقرار الاجتماعي والأمن الاجتماعي. هذه هي أهدافنا وهي الأهداف التي رسمها الإسلام لأي شعب. والإسلام رسم هذه الأهداف لنا أيضًا، وقد سرنا نحو تحقيق هذه الأهداف وسوف نصل لها كلها على الرغم من أنف العدو. نسأل الله أن يوفقكم ويوفقنا لنستطيع أداء الواجبات التي على عاتقنا بأفضل وجه إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1 ـ في بداية هذا اللقاء الذي أقيم بمناسبة أسبوع السلطة القضائية، تحدث حجة الإسلام والمسلمين السيد إبراهيم رئيسي رئيس السلطة القضائية.
2 ـ سورة النساء، من الآية 58.
3 ـ بحار الأنوار، ج 36، ص 316.
4 ـ سورة الأحزاب، من الآية 30.
5 ـ سورة الأحزاب، من الآية 31.
6 ـ سورة الأنبياء، من الآية 87.
7 ـ سورة الصافات، الآية 144.
8 ـ سورة الأنبياء، من الآية 87.
9 ـ سورة الأنبياء، من الآية 88.
10 ـ نهج البلاغة، الكتاب رقم 53.
11. هذه الخصوصيات هي: القدرة على أمر القضاء، عدم الفزع من أطراف النزاع، عدم الإصرار على زلات الذات، اجتناب الطمع، عدم الاكتفاء بالتصورات والآراء السطحية، الاحتياط في مواجهة الشبهات، الاستناد على الأدلة، عدم التعب من مراجعات أطراف النزاع، الصبر في اكتشاف الحقيقة، إصدار أحكام قاطعة حاسمة؛ عدم اتضاح الحقيقة؟؟، عدم الانخداع بالمديح والثناء، عدم الميل لأحد أطراف النزاع بسبب تحريض وتشجيع الآخرين.
12. جزء من الآية 128 سورة النساء.
13. صدح الحضور بشعار الموت لأمريكا؛ فعلّق القائد قائلا: يقول ذلك الشخص ان الشعب الايراني لم يعد يطلق هذا الشعار" الموت لأمريكا" فتعالى هتاف الحضور بالشعار ممزوجا بالضحك.
14. طه؛ الآية 46.