كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في لقاء القائمين على المؤتمر الوطنيّ لتكريم شهداء محافظة لرستان، بتاريخ 25/10/2023م.
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا، أبي القاسم المصطفى محمّد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، [ولا] سيّما بقيّة الله في الأرضين.
أهلاً وسهلاً بكم. أرحّب بكم فرداً فرداً، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، وبخاصّة عائلات الشهداء المكرّمة والمعظّمة والمعززة. إنّ من أفضل الأمور التي غَدَت عُرفاً في مختلف المحافظات والمدن [الإيرانية] تكريم الشهداء: إحياء ذكرى الشهداء ومجالس تكريمهم. لقد أدّيتم عملاً ضروريّاً. هذا العمل الذي بدأتم تقومون عليه -بحمد الله- منذ سنتين أو ثلاث عمل ضروري، ولكن -في رأيي- هذا العمل بدأ متأخراً، أي كان ينبغي أن يجري تكريم الشهداء في لرستان - بما تملكه من سمات وقيَم زاخرة- قبل هذا بكثير. طبعاً الأمر مغتنم الآن أيضاً، وأسأل لكم التوفيق في العمل الذي أنجزتموه، إن شاء الله. هذه المجموعة التي شاهدتها في الخارج، والأعمال المنجزة من كتب وأنشطة مختلفة أعمالٌ قيّمة وجيّدة. تشير كلمات السادة[1] - إمام الجمعة الموقر وقائد «حرس الثورة الإسلامية» [في المحافظة] - إلى الاهتمام بجوهر القضية وأهداف هذا العمل. موفقين ومؤيدين، إن شاء الله.
أود أن أتحدث بجملة عن أهالي لرستان وقوم اللُّر: [إنهم] يتمتعون بخصال مميزة. مما كان لي جلسات وعلاقات مع بعض الشخصيات البارزة والمتنوعة [من اللُّر]، أرى أن هناك خاصيتين في هذه المجموعات أكثر تميّزاً من سائر الخصائص. إحداهما الشجاعة والبسالة. يتمتع قوم اللُّر بالشجاعة والبسالة أين ما كانوا، والأمر على هذا النحو في ساحة المعركة، وفي التعبير عن العقيدة أيضاً، وهو كذلك في مختلف المجالات الاجتماعية. إنهم أناس شجعان وبواسل. أما الخاصية الثانية، وهي مميزة أيضاً في نظري، فمسألة الصداقة والصدق والوفاء. هذه [الخاصية] مميزة حقاً لدى قوم اللُّر. لقد لمست في جلساتي الشخصية -طبعاً بعضها سمعتها لكني عايشتها بنفسي- هاتين الخاصيتين بالإضافة إلى الخصال المميزة الأخرى. كان المرحوم السيد حسن طاهري الخرّم آبادي والشهيد السيد فخر الدين رحيمي والمرحوم السيد جعفر شهيدي -الدكتور شهيدي- والشهيد البروجردي، [أي] هؤلاء الذين رأينا أخلاقهم وسلوكهم وطريقة تفكيرهم وأسلوب حياتهم من كثب، كانوا متميزون إنصافاً، أو المرحوم الشيخ روح الله كمالوند الذي رأينا لحظة ولمحة من شخصيته من قرب، كما سمعنا أموراً كثيرة. أتذكر أنه في سنة 1342 (1963م)، عندما كان الإمام [الخميني] (رض) تحت الإقامة الجبرية في طهران مدة طويلة، وهدأت بعض تلك الحماسة والحركة الثورية في قم، جاء المرحوم الشيخ روح الله كمالوند إلى قم، فذهبت للقائه مع بضعة أشخاص لنطلب منه أن يُحدثَ تحرّكاً ما. لقد كانت كذلك قابلية هذا المرحوم، وكان يحظى باحترام كبير لدى العلماء والمراجع.
طبعاً خصائص هؤلاء الناس تتعدى هذه لكنْ هاتان الخاصيتان [هما الأبرز]. أدّت روح البسالة التي ذكرتها إلى تعرّض قوم اللُّر خلال العهد البهلوي المنحوس لضغوط شديدة [بما في ذلك] القتل والنفي والسجن وأنواع الضغوطات شتى. كانوا يخافون من شجاعة قوم اللُّر وبسالتهم بالمعنى الحقيقي للكلمة، فكانوا يستبقون الأمر ويمارسون عليهم الضغوط. لكن ما كان شائعاً بين أهالي المدن الأخرى [هذه الخاصية]. على سبيل المثال، لم يكن لنا في مشهد أي تواصل مع لرستان لكننا كنا نسمع عن بسالة لرستان من الشباب المناضلين حولنا، وكانوا ينقلون بعض الأمور ويقولونها. كان الشباب في مشهد يرددون قصيدة سمعوها من اللُّر: «حان وقت الحرب، يا أمي». هذا يدّل على أن هؤلاء الناس هم أهل النضال خاصة خلال القمع السائد منذ مرحلة نضالات 1342 (1963م) وما بعدها.
لكن أود هنا أن أشير إلى نقطة: من الضروري أن يحافظ شباب اليوم على الصورة الحقيقية لمختلف الفئات التي يتألّف منها الشعب الإيراني بمن في ذلك قوم اللُر. ينقسم تاريخ قوم اللُر إلى جزأين في هذه الأعوام المئة الأخيرة: جزء يرتبط بالمرحلة البهلوية، وهو جزء المظلومية، فقد كانوا مضطهدين حقاً، وآخر مرتبط بنظام الجمهورية الإسلامية، وهو جزء البروز والظهور والبريق لهذه المجموعة ولمعانها في مختلف المجالات. عليكم الحفاظ على كلتا الصفحتين معاً ولا سيّما من أجل أن يعرف الشباب تاريخهم، ولإثراء الذاكرة التاريخية للشعب. ينبغي الحفاظ على هذين الجزأين كليهما ومقارنتهما. أحد الجانبين هو المظلومية، والآخر صناعة الملاحم. جانبٌ هو القمع الذي يحول دون بروز مواهب الشعب في مختلف المجالات ويقمعها تحت وطأة القهر، والآخر، الصفحة الأخرى، عندما تنجلي هذه الأجواء فتُظهر المواهب نفسها وتسطع الشخصيات البارزة [من قبيل] الشخصيات نفسها التي ذكرتها للتو. على سبيل المثال المرحوم شهيدي كان هو نفسه في مرحلة ما قبل الجمهورية الإسلامية، لكن تألق هذه الشخصية كان في مرحلة الجمهورية الإسلامية. فهذا الشخص نفسه الذي كان قد درس وارتقى وتفوّق في ذلك الوقت لم يبرز ويذيع صيته في مرحلة ما قبل الجمهورية الإسلامية. لقد فتحت الجمهوريّة الإسلاميّة المجال و[تألق] هؤلاء. لا بد من مراجعة التاريخ وأخذه بالحسبان، وينبغي لنا ألا ندع أياً من هاتين المرحلتين التاريخيتين تُنسى. يجب أن يكون هذان القسمان أمام الأعين مع إجراء المقارنة بينهما. لقد تألقت منطقة اللُر حقّاً -سواء في لورستان أو خارج لورستان حيث يكون اللُّر- في عهد الجمهورية الإسلامية. طبعاً ذكر السادة ذلك، فالتقارير التي قدموها صحيحة ودقيقة. إنّ هؤلاء الشهداء: التلامذة والمعلمون من الشهداء كافة، والنساء والسيدات الشهيدات، والحوزويون وعلماء الدين الشهداء، والشخصيات التي كانت أو المجموعات العسكرية سواء الجيش أو الحرس، تألّقت بصورة جيدة حقّاً، وكان حضورهم جيّداً للغاية في مختلف القطاعات، ولا يزال حتى يومنا هذا، بحمد الله.
نأمل أن تثمر جهودكم نتائج جيدة، إن شاء الله. هذه النقطة التي ذكرها إمام الجمعة نقطة مهمة، فالغرض من مراسم التكريم هذه نقل [مفاهيمها]. ينبغي أن تؤخذ هذه النقطة بالحسبان تماماً، وهي أنه يجب العمل للتدفّق الفكري والعملي، ونقل التراث القيّم للجيل الماضي وشباب الماضي المضحّين إلى شباب اليوم. تتّجه البلاد نحو القمة، ولا يزال هناك كثير من العمل وبذل الجهود، وهناك كثير من المخاطر أيضاً، فينبغي طيّ هذا الطريق بقوّة وإرادة. إذا أردنا أن يكون هذا، فعلينا الاستفادة من ماضي هذا الجزء من البلاد وأجزاء أخرى، وعلى الجميع الاستفادة من تراث الماضي القيم ونقله إلى هذا الجيل.
أريد أن أتحدث بجملة عن قضية غزة، لأن قضية فلسطين والأحداث الجارية في غزة اليوم في مقدم قضايا العالم الإسلاميّ. هذه كلها أحداث صانعة للمستقبل. قضيّة غزّة قضيّة مظلوميّة من جهة، وقضيّة اقتدار من جهة أخرى. نعم، أهالي غزّة مظلومون حقّاً وهذا العدوّ الوحشي والمتعطش للدماء، الكيان الإرهابيّ الغاصب، لا يعرف حدّاً في ارتكاب الجرائم. إنه يقتل في قصف واحد ألف شهيد. هكذا هو: لا يعرف حدّاً، وكذلك تتجلّى مظلوميّة الناس.
لكن إلى جانب هذه المظلوميّة هناك نقطتان مهمّتان أيضاً: إحداهما صبر هؤلاء الناس وتوكّلهم. هؤلاء النّاس صبروا للحق والإنصاف، وعُرض بعض المشاهد من ذلك عبر وسائل الإعلام في العالم وبلادنا: يُستشهد ابنه فيَحمدُ الله، يُستشهد ابنه فيقول: فداء لفلسطين، والفتى الجريح يشكر الله ويتلو آيات من القرآن. صبر هؤلاء النّاس مهمٌّ للغاية. أراد العدو أن يُجبر هؤلاء على الاستسلام وأن رفعوا أيديهم، لكنهم لم يرفعوا ولم يستسلموا. هذه نقطة مهمة للغاية؛ هذا الصّبر والتوكّل سيغيثانهم وسيؤدّيان إلى أن ينتصروا، وفي نهاية المطاف، سيكونون المنتصرين في الميدان.
إلى جانب هذه، توجد نقطة أخرى مهمّة هي أنّ الضّربة التي وُجّهت في هذه الحادثة، وعبر هجوم المجاهدين الفلسطينيّين، إلى الكيان الغاصب[2]، كانت ضربة مصيريّة، ولم تُوجّه حتى الآن مثل هذه الضربة إلى هذا الكيان، وكما سبق أن قلنا في البداية إنها غير قابلة للترميم، ومع مرور الوقت يتّضح أكثر فأكثر أنها غير قابلة للترميم[3]. إنّكم ترَون توافد الرئيس الأمريكي ورؤساء الدول الظالمة والشريرة، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، على نحو متتال إلى هناك، فما سبب ذلك؟ هذا كلّه لأنّهم يرون أنّ الكيان يتلاشى ويزول. إنّهم يدركون هذا فيسارعون للحؤول دون هذا الزوال. ولو أنّ خطر التلاشي والزوال لم يتهدّد الكيان الغاصب، ما رأى أشرار العالم هؤلاء أنفسهم مضطرّين إلى أن يتوافدوا واحداً تلو آخر إلى هناك ويعربوا عن تضامنهم. هذا يثبت أنّ الضّربة كانت قاصمة ومصيريّة للغاية. حسناً إنّهم في الواقع يُبقون الكيان المصفوع والنازف والمنهك واقفاً على قدميه بالقوّة، عبر مدّه بالأسلحة والقنابل المَهولة وما إلى ذلك، وهذا لأنّه لم يقوَ على المجاهدين ولن يقوى عليهم، فينتقم من الناس العُزّل والمظلومين ويُلقي القنابل على رؤوسهم. لا يزال المجاهدون على جاهزية للإقدام، ولقد حافظوا خلال هذه المدّة على روحيّتهم ودافعهم وقدرتهم على المبادرة، وسيكونون بعد الآن كذلك، إن شاء الله. في رأيي، ينبغي لكل مَن يتحدث عن غزة أن يتحدّث أيضاً عن صبر الناس والمجاهدين واقتدارهم، وإلّا سوف يُظلم هؤلاء. هذا الصبر الذي صبروه [مهمّ جداً] للحق والإنصاف.
هناك نقطة أساسيّة أخرى هي أنّ أمريكا في هذه القضية شريكٌ حتميّ في جريمة المجرمين، أي إنّ يد أمريكا انغمست حتّى المرفق في دماء المظلومين والأطفال والمرضى والنساء ونحوهم في ما يخص هذه الجريمة وهي ملطخة [بهذه الدماء]. إنّها في الواقع تدير بنحوٍ ما هذه الجريمة التي تُرتكب في غزّة. أمريكا هي التي تدير ذلك.
توسّع نطاق الجرائم في غزّة إلى درجة أنّها هزّت الضمير العام في العالم. ترون الناس في المدن الأمريكيّة والأوروبيّة والعواصم وكذلك الدول الإسلاميّة يُعربون عن معارضتهم بصراحة. مع أنه في الدول الأوروبية يدّعون حرية التعبير [لكنهم] منعوا حضور الناس في مسيرات الشوارع المؤيدة لغزة، وهذه أيضاً إحدى فضائحهم. المظاهرات مسموحٌ بها من أجل كلّ شيء وممنوعة من أجل الدفاع عن المظلوم! لكنّ الناس لم يكترثوا، ورأيتم المشاهد في التلفاز كيف جاء الناس وشاركوا. الناس في العالم غاضبون، ولا يمكن لأحدٍ أن يمنع ردود أفعالهم. ومهما حاولوا، فلن يتمكنوا من منع رد الفعل هذا.
ما أريد تأكيده هو ألّا تيأس الحكومات المسلمة في هذه القضيّة. لا يكوننّ الأمر على هذا النحو: أن يظنّوا أنّه بسبب ارتكاب الأمريكيّين أو سائر الدول الغربيّة حماقة بوصف المدافعين عن ديارهم ووطنهم بالإرهابيّين فعليهم أيضاً يكرّروا ذاك الوصف نفسه. هل مَن يدافع عن دياره ووطنه أمام العدوّ إرهابيٌّ؟ إنّ تلك الحكومة الظالمة والزّائفة التي غصبت دياره هي الإرهابيّة. يجب أن تحرص الحكومات المسلمة والمتحدّثون السياسيّون على ألّا يكرّروا كلام أولئك، وأن يعلموا أنّ فلسطين ستكون المنتصرة حتماً في هذه القضيّة والقضايا التي ستليها.
العالم المُقبل هو عالم فلسطين وليس الكيان الصهيوني الغاصب، وإنّ المستقبل ملكُ هؤلاء [الفلسطينيين]. أمّا المحاولات التي يفعلونها -نعم، يمارسون الظلم ويرتكبون الجرائم والفجائع- فكلّها عبثيّة ولن تحقّق أيّ نتيجة، إن شاء الله، وبإذنه تعالى. ونأمل -إن شاء الله- أن يقدّر الله المتعالي ما هو خير للعالم الإسلاميّ والأمّة الإسلاميّة، وأن يجعل أعداء الأمّة الإسلاميّة منكوبين ومقهورين وأذلّاء، إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] في بداية هذا اللقاء، قدّم تقارير حجّة الإسلام السيّد أحمد رضا شاهرخي (ممثّل الوليّ الفقيه في محافظة لرستان وإمام جمعة خرم آباد) والعميد مرتضى كشكولي (قائد «حرس الثورة الإسلاميّة» في محافظة لرستان وأمين سرّ المؤتمر).
[2] بدأت فصائل المقاومة الفلسطينيّة السبت 07/10/2023م عمليّة واسعة، تحت اسم «طوفان الأقصى»، سقط خلالها عدد كبير من القتلى والجرحى والأسرى الصهاينة في الساعات الأولى.
[3] كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) خلال المراسم المشتركة لتخريج طلّاب جامعات الضبّاط التابعة للقوّات المسلّحة، بتاريخ 10/10/2023م.