كلمة الإمام الخامنئيّ في لقاء القيِّمين على مؤتمر تكريم شهداء محافظة أذربيجان الشرقيّة، بتاريخ 06/12/2023م.
بسم الله الرحمن الرحيم[1]
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاةُ والسّلامُ على سيّدنا محمّد وآلهِ الطّاهرين، [ولا] سيّما بقيّة الله في الأرضين.
أتقدّم بالشكر الجزيل على هذه الخطوة الضروريّة والمفيدة جدّاً التي أنجزتموها - أيّها الإخوة الأعزّاء والأخوات العزيزات - إذ طرحتم الذكرى والأسماء للشهداء البارزين في أذربيجان وتبريز، التي لا تُنسى طبعاً، مرّة أخرى وبأسلوب أرقى وأرفع وأكثر تجلّياً. إنّها خطوة جيّدة للغاية وفي محلّها. طبعاً إنّ المسافة [الزمنيّة] بين [مؤتمر] التكريم الأوّل الذي عُقد قبل سنوات وهذا التكريم، طالت بعض الشّيء. من الجدير أن تتكرّر مثل هذه الخطوات والتكريمات وإحياءات الذِّكر والذكريات باستمرار، وكما نحيي في شهر محرّم من كلّ عام ذكرى شهداء كربلاء، ويجري الآن تكرار هذا الأمر بصورة متواصلة منذ قرابة ألف وثلاثمئة عام مثلاً، لكنّ هذا التكرار ليس من التكرارات المملة، بل إنه من التكرارات اللازمة والمفيدة لحال مجتمعنا وحاضرنا ومستقبلنا.
ما قيل في الثناء على تبريز وأذربيجان ليس بقليل، ولقد تحدّثنا في هذا الصّدد تكراراً ومراراً خلال اللقاءات السنويّة التي جمعتنا بكم. وفي ما يخصّ الشهداء، إنّ ما قاله اليوم إمام الجمعة الموقّر والقائد المحترم في «حرس الثورة الإسلاميّة» كان جيداً جدّاً وكاملاً. وبحمد الله، كان السادة ملتفتين إلى التوصيات كافة التي نرغب في ذكرها ونقولها عادةً، ولقد طبّقتم كثيراً منها. دعوني أكتفي بالقول إنّ إحدى مسؤوليّاتنا أن نكون متنبّهين إلى ذاتنا وجوهرنا. على الشّعب الإيراني ألّا ينسى هويّته، فإنّه سيتلقّى ضربة وصفعة ويبقى متأخّراً إذا نسيَها. يقول الله المتعالي للذين نسوا ذكره: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾[2]. لقد نسوا الله فأغفلهم الله عن أنفسهم وابتلاهم بنسيانها. هذا إنّما يثبت أنّ الالتفات إلى الذات والهويّة والخصائص الذاتيّة أمرٌ ضروريّ لأيّ شخص وشعب وجماعة.
ينبغي أن تولي أذربيجان اهتماماً تامّاً بتلك الهويّة التي ميّزتها. إنّ التركيبة التي نُطلق عليها اسم «أذربيجان» هي هويّة مميّزة بين الشعب الإيراني بالمعنى الحقيقي للكلمة. أذربيجان مهدُ الشهداء والمضحّين بأرواحهم. وهذا ليس منحصراً في مرحلة «الدّفاع المقدّس»، فهكذا كان الحال سابقاً، وسيكون كذلك فيما بعد. وبشأن ما هو مرتبط بالثورة الإسلاميّة - لو أردنا أن نحسب - فإنّ سلوك الشهادة ولحنها قد انطلقا في أذربيجان قبل الثورة، أيْ قبل بدء نهضة الإمام [الخميني] الجليل والشعب الإيراني، [واستمرّا] حتى اليوم، إذ لدينا شهداء أذربيجانيون في قضايا الدفاع عن العتبات المقّدسة. بيد أنّ ذروة هذه التضحيات وإبراز القيم والخصال الأذربيجانية الرفيعة تجلّت في مرحلة «الدفاع المقدّس»، فهذه الشخصيّات التي ذكَرَ أسماءها جنابه: الشهيد السيّد مهدي باكري، والشهيد حميد باكري، والشهيد تجلّايي والشهيد ياغتشيان، هؤلاء كانوا الإخوة العظماء والبارزين الذين التحقوا بلقاء الله، وكثيرون من هؤلاء الأعزّاء والبارزين حاضرون اليوم أيضاً بحمد الله. لذا، إنّ خصوصيّة طلب الشهادة والبروز في التضحية ليست مقتصرةً على الحرب المفروضة ومرحلة «الدفاع المقدّس» [بل] كانت قبل انتصار الثورة الإسلاميّة واستمرّت إلى اليوم. لهذه المدينة إمامَا جمعة شهيدان[3]، أي من بين أئمّة الجمعة الشهداء الخمسة في أنحاء البلاد الذين يُعدّون من مفاخر الحوزة العلمية[4]، هناك إماما جمعة من تبريز. هذه أمور مهمة ومميزة جداً.
ما أرغب في عرضه كتوصية. أولاً ألّا تسمحوا بأن يخمد فوران دماء الشهداء، أيْ إن ذكرى الشهداء ليست مجرّد عودة إلى الذكريات، وهذا يعني أن تنعكس وتسري تلك التقوى والتضحية والشجاعة وذاك الجوهر الوجودي اللامع الذي يسوق أمثال الشهيد باكري - مثلاً - إلى وسط الميدان، وأن تُقدم قدوةً إلى الجيل الجديد. شبابنا يبغون القدوة وهؤلاء هم أفضل القدوات. بعض الشعوب الخالية الوفاض بالكامل أو إلى حدّ كبير من هذه الناحية، تعمد إلى اصطناع القدوات وتزيّفها من دون أن يكون لها وجود أساساً، [في حين] أنّ القدوات هي ماثلة أمامنا. يجب ألّا يُنظر إلى الشهيد باكري في ميدان الحرب حصراً، بل يجب النظر إليه أيضاً في الخطوط الخلفيّة، وفي جامعة تبريز، وفي نشاطاته خلال المرحلة التي سبقت انتصار الثورة الإسلاميّة، ويجب النظر إلى تلك الروحيّة أيضاً. لقد التقيت الشهيد السيّد مهدي باكري في مشهد قبل انتصار الثورة الإسلاميّة [وكان] مفعماً بالحماسة ومهتماً وفهيماً وقادراً على تحليل القضايا. حسناً، هذا ما يجعله يلمع في ميدان «الدفاع المقدّس» بعد الحرب ويجذب القلوب إليه. ينبغي أن تنعكس هذه الروحية. علينا حين نصنع الأفلام وننظم الأشعار ونؤلف الكتب وندوّن الذكريات وننشرها أن نلتفت إلى انعکاس هذه الروحيّة، فهذه الروحيّة روحيّة بنّاءة. هذا في ما يخصّ الموضوع الأوّل: لا تسمحوا لفوران دماء الشهداء أن يخمد. لاحظوا! كما قلت في البداية: [الأمر] مثل الإحياء لمجالس العزاء لسيّد الشهداء - سلام الله عليه - أي [كما] مع حلول شهر محرّم كلّ عام، ومع حلول عاشوراء، يكون الأمر كأنّما ترون عاشوراء عام 61 [للهجرة] أمامكم، فتظهر الأحداث وتحيا الشخصيّات أمام أعين المستمعين، يجب أن يحدث هذا الأمر نفسه مع شهداء «الدفاع المقدّس» والعشرة آلاف شهيد، هؤلاء الذين أشرتم إليهم.
الموضوع الثاني ألّا تنسوا عائلات الشهداء. للأسف، غادر كثيرون من الآباء والأمّهات هذه الدنيا والتحقوا بشهدائهم، فلتستفيدوا من ذكريات أولئك الذين لا يزالون على قيد الحياة وتوصيفاتهم، سواء أكانوا زوجات الشهداء أم آباءهم وأمهاتهم، وكذلك من زملاء هؤلاء ورفاقهم. فمثلاً الشهيد باكري كان لديه كثير من الزملاء خلال الحرب وبعضهم الآن أحياء وسالمون - بحمد الله - وهم مستعدّون ورأوا تفاصيل حياته هناك. لا تقتصر الشجاعة على الحرب والسيطرة على النفس، بل تكون أيضاً في التحدّث والصمت والإمساك والمبادرة. هذه كلّها على درجة كبيرة من الأهميّة. هناك بعض الذين رأوا هؤلاء من كثب وعرفوهم، ويجب أن يُستفاد منهم وأن تُجرى المقابلات والحوارات معهم وأن تُسجّل أحوال الشهداء على هيئة وثيقة حقيقيّة وأن تُعرف. هذا موضوعٌ آخر أيضاً.
موضوعٌ آخر كذلك: عند النظر إلى الشهداء ينبغي أن تُستكشف مقدّمات عروجهم، أي الناس، أو أولئك الذين أطلقوا الشرارات الأولى، مثل الشهيد قاضي الطباطبائي، إذ كان سماحته في قضايا الثورة الإسلاميّة وفي 29 بهمن 1356هـ.ش. (18 شباط/فبراير 1978م) مطلق الشرارة الأولى ومن أقدم على الخطوة الأولى ودعا الناس إلى حيّه ومسجده و[غير ذلك] من تلك القضايا. فيجب أن تُعرف المقدّمات: وقعت الحركة الأولى بعد حادثة قم في تبريز وليس في المدينة الفلانيّة أو الفلانيّة، فما السّبب؟ ما الذي يميّز هؤلاء الناس كي ينشِئوا ويربوا الشباب على هذا النحو ويقدّموا الشهداء هكذا؟ هذه أمورٌ مهمّة للغاية، أي الهويّة القوميّة والوطنيّة والدينيّة. ذات يوم قلت في لقاء[5] الإخوة والأخوات الأذربيجانيين هؤلاء إنّ المرحوم ستّارخان كان يملك في جيبه ورقةً من علماء النجف في قضايا الثورة الدستوريّة وتلك الأحداث والخطوات التي أقدم عليها، أي كان قد استفتى علماء النجف وسألهم وأجابوه أيضاً، فكان يتحرّك بهذه النيّة. هذا مهم للغاية. ما مقدّمة الحركة؟ فليتّضح هذا لأنه من دلالتها. إذا اكتملت هذه الأمور، فحينئذ ستستمرّ الحركة.
حسناً، [دور] «فرقة عاشوراء» واضح. لقد كانت هناك شخصيّات لمعت حقّاً، ولا بدّ لي من الإشارة إلى القاعدة الجويّة الثانية[6]: تلك الحركة العظيمة التي أنجزتها مقاتلاتنا الحربيّة في الأيام الأولى للحرب، وطبعاً تحرّكوا من القاعدة الثانية وسائر القواعد - الثالثة[7] والرابعة[8] - وانطلقوا وأنجزوا ذاك العمل العظيم، إذْ أقدموا على هذه الخطوة في الأسبوع الأول للحرب، وقد ذهبتُ حينذاك إلى «مجلس الشورى الإسلامي» وقدّمت إلى نوّابه تقريراً عنها. هذه أمور جديرة بالاهتمام وتنطوي على أهميّة كبيرة جدّاً ويجب أن ترسخ في الأذهان - إن شاء الله - وأن تُسجّل في الذاكرة التاريخيّة للشعب الإيراني، أيْ إن أهم عمل حقاً هو أن تُسجلَ هذه الأحداث المهمة والظواهر المؤثرة التي قلّ نظيرها والمنقطعة الوجود في بعض الحالات، وأن يعرفها شبابنا وفتياننا. طبعاً قصّرنا في العمل بعض الشيء إلى الآن وعدد من شبابنا وفتياننا لا يعرفون الشخصيّات البارزة وكثير من هذه القضايا أيضاً، لذا علينا أن ننشر هذه الأمور في الأجهزة الإعلاميّة الرسميّة كمؤسسة الإذاعة والتلفزيون وأمثالها أو الوسائل المتوافرة للناس اليوم وفي متناول أيديهم.
آمل أن يوفّقَكم الله المتعالي جميعاً، وأن تتمكّنوا من إنجاز هذا العمل العظيم، وأن تكون المسافة [الزمنيّة] بين هذه التكريمات وإحياءات الذكرى أقلّ من التي فصلت ذكرى اليوم سابقتها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] في مستهلّ هذا اللقاء، عرض تقارير كل من حجّة الإسلام السيّد محمّد علي آل هاشم (ممثّل الوليّ الفقيه في محافظة أذربيجان الشرقيّة وإمام جمعة مدينة تبريز)، والعميد أصغر عبّاس قلي زاده (قائد «فرقة عاشوراء» في محافظة أذربيجان الشرقيّة وأمين المؤتمر).
[2] سورة الحشر، الآية 19.
[3] الشهيد آية الله السيّد محمّد علي قاضي طباطبائي والشهيد آية الله السيّد أسد الله مدني.
[4] الشهيد آية الله محمّد صدوقي، والشهيد آية الله عطاء الله أشرفي الأصفهاني، والشهيد آية الله السيّد عبد الحسين دستغيب، والشهيد آية الله السيّد محمّد علي قاضي الطباطبائي، والشهيد آية الله السيّد أسد الله مدني.
[5] كلمته (دام ظله) في لقاء أهالي محافظة أذربيجان الشرقيّة، بتاريخ 16/02/2013م.
[6] القاعدة الجوية الثانية «الشهيد فكوري» في تبريز.
[7] القاعدة الجوّيّة الثالثة «الشهيد نوجه إي» في همدان.
[8] القاعدة الجوّيّة الرابعة «الشهيد وحدتي» في دزفول.