كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في لقاء جمعٍ من مدّاحي أهل البيت (عليهم السلام)، بتاريخ 03/01/2024م.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا، أبي القاسم المصطفى محمّد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، [ولا] سيّما بقيّة الله في الأرضين[1].
يبدو لي أنّ الجلسة كافيةٌ إلى هنا[2]. لقد استفدنا فعلاً إلى أقصى حد من الشعر والمعاني والمدح واللحن وكل شيء. أولاً أبارك بالعيد السعيد لولادة الصدّيقة الطاهرة (سلام الله عليها) وأقسم على الله بحرمة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) أن يزيدنا معرفةً بهذه السيدة الجليلة يوماً بعد يوم. وأبارك أيضاً بولادة ابنها الإمام الخميني (قده) الذي خاض طريق الجهاد الفاطمي بصورة جيدة ومضى فيه. اليوم أيضاً هو ذكرى استشهاد حبيبنا الحاج قاسم سليماني. نسأل الله المتعالي أن ينزل التفضّلات التي أنعم بها على أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) على روح هذا العزيز المقتدي الحقيقي بأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)، وأن يلحقنا به وأن يشملنا بشفاعته.
أعددت موضوعاً عن قضية «جهاد التبيين». لماذا؟ لأنّ هذه الجلسة مؤلّفة من أشخاص في وسعهم أن يكونوا روّاد «جهاد التبيين». إنّ جلسة مدّاحي أهل البيت ومعظمّي مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) لهي جلسة كلام التبيين الجهادي. هذا هو موضوعي اليوم، وذلك بقدر ما استطعنا وسنح الوقت.
من بين السمات المميزة والبارزة لفاطمة الزهراء (سلام الله عليها) يبدو «جهاد التبيين» من هذه السمات المميزة جداً لفاطمة الزهراء. لقد أوردت خطبتين مميزتين ومعروفتين إحداهما خطبتها المعروفة: «الحَمدُ لِلَّهِ عَلىٰ ما أَنْعَمَ، وَلَهُ الشُّكرُ عَلىٰ ما أَلْهَم»[3] في جمع الصحابة، وقد قيل عن هذه الخطبة إنّها في مستوى أفضل الخطب لنهج البلاغة. هكذا قال من هم أهل البلاغة والفهم؛ إنّها زاخرة بالمعارف والحقائق. الأخرى أيضاً خطبتها تلك في نساء المهاجرين والأنصار: «أَصبَحتُ وَاللَهِ عائِفَةً لِدُنیاكُم قالِیَةً لِرِجالِكُم»[4] أو «عائِفَةً لِدُنیاكُنَّ قَالِیَةً لِرِجالِكُنَّ»[5]. هاتان الخطبتان هما «جهاد تبيين» فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) في المدّة القصيرة بعد ارتحال الرسول (صلى الله عليه وآله).
ذكر المرحوم المجلسي (رضوان الله عليه) لتلك الخطبة التي أورَدَتْها في جمع الصحابة طرقاً متعدّدة وأسانيد مختلفة، وذكر آخرون غيره أيضاً أسانيد معتدّاً بها ومهمّة. ينقل ابن أبي الحديد هذه الخطبة ويقول: لا أنقل هذه من كتب الشيعة وعلمائهم إنّما أهل السنّة[6]. ويذكر عمّن ينقل هذه الخطبة أنّه ثقة ويبيّن فضائله. أولئك الذين تُنقل عنهم رواية هذه الخطبة هم أفراد عدة بينهم السيدة عائشة. عائشة إحدى ناقلي الخطبة الفدكيّة للسيدة الزهراء (سلام الله عليها). وقد نُقل عن جناب زيد بن علي (سلام الله عليه وعلى أبيه): رأيت أنّ مشايخ آل أبي طالب كانوا ينقلون هذه الخطبة عن آبائهم ويعلمونها أبناءهم، وذلك لتبقى هذه الخطبة في التاريخ. هذه عبارته: «رَأیتُ مَشایِخَ آلِ أبي طالِبٍ یَروونَهُ عَن آبائِهِم وَیُعَلِّمونَهُ أبناءَهُم»[7]، أي إنّ مكانة هذه الخطبة [مهمّة] إلى هذه الدرجة. لقد ترافَق الانتظام الفكري والمنطق القوي في هذه الخطبة، من حيث المضمون، مع المتانة اللفظية واللغة الفخمة والجماليات الأدبية. تصوّروا أنّ فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، السيدة ذات الأعوام الثمانية عشر أو العشرين، وكأقصى حد خمسة وعشرين، ورغم تلك المصائب، تُلقي خطبة يتلقّاها مشايخ أهل البلاغة بالحيرة على هذا النحو وينظرون إليها [بدهشة].
إنها تُبيّن وتوضّح في مثل هذه الخطبة وبهذه الألفاظ والمعاني الحقائق التي لم تكن في الأذهان، أو إذا كانت موجودة، فهي مغفَلَة. هنالك معارف جمّة في هذه الخطبة، فهنالك التوحيد والنبوّة، وهنالك قضية الإمامة والولاية، وقضية العدالة. أرست فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) هذه السُنّة بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، وتبعها أيضاً أبناؤها وآل النبي (صلى الله عليه وآله): خُطب أمير المؤمنين وخطبة الإمام الحسين (عليهما السلام) إلى العلماء، وهي خطبة قاصمة على نحو فائق - «أنتم أيَّتها العصابةُ عصابةٌ بالعلم مشهورة»[8] - وخطبة السيدة زينب (سلام الله عليها) في الكوفة، وخطبة الإمام السجّاد (عليه السلام) في الشام، وخطبة الإمام الصادق (عليه السلام) في عرفات، التي يبيّن [فيها] معنى «الإمامة» - «أيُّها النَّاس، إنَّ رسولَ اللهِ كانَ هو الإمام»[9] - فهذه كلها متابعة لسنّة أرستها الزهراء الطاهرة (سلام الله عليها). إنّ هذه السنّة التي تتمثّل في إلقاء الخطبة، وتبيين الحقائق، بدأت من ههنا، واستمرت، إلى حيث كان ممكناً؛ إذ لم يكن [ذلك] ممكناً أيضاً في مواضع.
ثمّ اقتداءً بأهل البيت (عليهم السلام)، تابع الفصيحون المميزون والبارزون من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) هذا المسار أيضاً، وبيّنوا الحقائق بلغة الشعر، لا الشعراء من الدرجة الثانية والمتوسطة، بل شعراء من الطراز الأول. هؤلاء الشعراء المعروفون الذين تسمعون أنّهم مدحوا أهل البيت (عليهم السلام) هم شعراء العرب من الطراز الأول في عصرهم: الفرزدق شاعر من الطراز الأول في عصره، والكُميت الأسدي شاعر من الطراز الأول، ودعبل الخزاعي أيضاً شاعر من الطراز الأول، وكذلك السيّد الحميَري شاعر بارز من الطرز الأول. عندما يذكر أبو الفرج الأصفهاني سيرة هؤلاء الشعراء - في كتاب الأغاني المؤلف من نيّف وعشرين جزءاً - وحينما يصل إلى السيّد الحميري، ولأنّ الأخير هجا بوضوح وصراحة بالغة مخالفي أهل البيت (عليهم السلام)، يقول: أود الحديث عن هذا الشاعر الكبير - ذلك أنّه كان [بالفعل] كبيراً للغاية - لكن لأنه ذكر كلاماً عن بعض الصحابة سأراعي ولن أتحدث، وسأكتفي باليسير؛ وذلك «اليسير» كان خمسين صفحة! أكثر من الشعراء كلهم الذين ذكرهم هناك! أي إنّ عظمة هذا الشاعر إلى هذه الدرجة. هؤلاء هم من بيّنوا معارف أهل البيت (عليهم السلام) ولم يكن [عملهم] إنشاد الشعر فحسب [إنّما] تبيين معارف أهل البيت (عليهم السلام). كل هؤلاء الذين ذكرتُ أسماءهم وغيرهم - ثمة أيضاً شعراء كبار آخرون، فهؤلاء هم البارزون - تابعوا هذا [المسار]. يعود هذا إلى تاريخ زمن الأئمة - عليهم السلام - وقليلاً بعدهم.
كان الإمام [الخميني] الراحل أعظم من أدى في عصرنا «جهاد التبيين»، بل إنّ أعظم عمل أُنجز بـ«جهاد التبيين» هو الذي فَعله إمامنا العظيم. فعل الإمام الراحل عبر «جهاد التبيين» ما لم يكن في إمكان الآخرين فعله بأي وسيلة مادية ولا فكرية أخرى، وحتى لم يكن يحدوهم الأمل إلى فعله. [أداه] الإمام باللغة والمنطق، وهذا هو «جهاد التبيين». بدأ [الإمام] الكلام من اليوم الأول للنهضة إلى اليوم الذي جاء فيه إلى هنا في [مقبرة] جنة الزهراء. قال: أنا أوجّه صفعة إلى هذه الحكومة في فمها وأعيّن حكومة[10]. هذا كله كان عبر «جهاد التبيين». ما العمل الذي أنجزه بـ«جهاد التبيين»؟ أزال به الحكومة البالية الفاسدة المُخزية الديكتاتورية المستبدة الملكية الوراثية، وأتى بحكومة سيادة الشعب الإسلامية والدينية. هذه هي قضية «جهاد التبيين»، وهذه أهميّتها. إذاً، هذا هو درس فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) الذي استمر على مر الزمان ووصل إلى الإمام العظيم.
في حقبة نضال علماء الدين ونهضتهم، كان هناك تيارات أخرى تسعى وتعمل وتركض وحتى تنزل إلى الميدان بالسلاح [لكن] لم يتسنَ لها إنجاز أي عمل، فإمّا قُمعت، وإما انحرفت. كان التبيين مؤشر الجهاد والنهضة الإسلامية. كنّا قد جلسنا في طهران في جمعٍ من الأصدقاء، وكان هناك شاب من أهل مشهد - كنت أعرفه - على صلة بهذه الجماعات الماركسية المسلحة، فدخل فجأة إلى الجلسة لأمرٍ ما، وبدأ الكلام بيننا وبينه، وتحدثنا قليلاً. كان هؤلاء معروفين آنذاك بـ«جماعة الغابة»، وما أتحدث عنه يعود إلى عامي 1347 أو 1348 (1968 أو 1969م). قلت: حسناً، أنتم الذين تعملون هذه الأعمال، تحدثوا إلى الناس، فالناس لا يعلمون من وما أنتم. قال: يا سيد، هذا الكلام خاص بالإسلام وبالمسلمين! لم يكونوا يعتقدون بـ«جهاد التبيين»، وكانوا يرونه خاصاً بالإسلام. كان يقول الحقيقة أيضاً، فقد كان الأمر خاصاً بنا وبالإسلام. لم يكن لدى هؤلاء كلام حقيقي ليقنعوا به قلوب الناس، فعجزوا وغُلبوا وقُمعوا، وانحرف أيضاً كثيرون منهم. غير أنّ الإمام سلك طريق التبيين وأوصله إلى هنا. إنّ هذا الطريق مستمر اليوم أيضاً.
ما الذي أريد قوله؟ ما أريد قوله: يقع حِملُ جهاد التبيين اليوم على عاتقكم، أنتم المدّاحين. أنتم اليوم مَن تواصلون هذه السلسلة التي أطلقتها الزّهراء الطاهرة (سلام الله عليها). التفتوا إلى ما يعنيه المديح. إنه يعني مواصلة عمل أولئك الأشخاص على مرّ التاريخ، سواء مَن استطاعوا الحفاظ على المذهب في زمن أهل البيت (عليهم السلام) وتمكّنوا من الحفاظ على التشيّع وتيّار الشيعة، أو مَن استطاعوا في زماننا تغيير العالم وتحويل نظام البلاد من «طاغوتي» إلى «إسلامي». هذه السلسلة هي تتابعٌ لتلك السلسلة المنورة نفسها التي بدؤوها. فلتنظروا إلى المديح بهذه النظرة.
إن فن المديح وكياناً باسم الهيئة - إذْ إنّ المدّاح والواعظ هما محور الهيئة، أي الواعظ إلى جانب المدّاح - من أهم جوانب القوة الناعمة للمجتمع الإسلامي. القوة الناعمة أكثر نفوذاً وتأثيراً من الصلبة. ما السبب في أنّ القوى العالمية مثل أمريكا تمتلك قنابل ذرية وأنواع الأسلحة المتطورة، لكنها في الوقت نفسه تعمل في أهم الاستثمارات كالفن والسينما وهوليوود والدعاية، وأمثال ذلك؟ لماذا؟ لأنّ السينما قوةٌ ناعمة، وكتابة قصص الأفلام قوةٌ ناعمة. هذا ما يترك أثراً. القوة الصلبة لها تأثير آني، إذْ إنها تزول لاحقاً. القوة الصلبة تعني أن أمريكا تأتي وتبقى في أفغانستان عشرين عاماً وتنفق المليارات، وفي النهاية، تضطر إلى الفرار من أفغانستان بسبب كره الناس لها. هذه هي القوة الصلبة. القوة الصلبة تعني أن تأتي أمريكا بكامل عتادها وتستولي على العراق بأسره، وتطيح بالحكومة العراقية، وتحلّ مكانها. وبعد نحو 20 عاماً، نجد أن الحكومة الأكثر كرهاً في العراق هي الأمريكية. هذه هي القوة الصلبة. وأما القوة الناعمة، فتعني أن مجموعة تبدو قليلة عددياً لكنها ذات تأثير معنوي ويمكنها أن تلفت أنظار العالم إليها. انظروا اليوم [كيف] استطاع الفلسطينيون المظلومون، الذين لا يملكون سلاحاً للدفاع عن أنفسهم، أن يجذبوا أنظار العالم إليهم بمظلوميتهم وبصبرهم وبصمودهم، أي إنّ الفجوة بين القوة الصلبة والناعمة كبيرة إلى هذا الحد، وتأثيرها مختلف إلى هذه الدرجة.
حسناً، ما أود قوله أنه يجب على المجموعة المعنيّة مباشرة بالمديح والرثاء والمتصدّية له، أي مجتمع المداحين نفسه، الذي هو جزء من القوّة الناعمة في المجتمع الإسلامي، أن يعلم ما هي مهمّته وما ينبغي أن يفعله وما هي مسؤوليّته. تندرج المعارف الإسلاميّة ومنطق القرآن ومعارف أهل البيت وتاريخهم ومصائبهم ضمن محتوى عملكم، وعلى هذه المجموعة أن تعرض [هذا المحتوى] اليوم بأبلغ لسان وأفضل أسلوب مع الاستعانة بالخصائص عينها التي تلاحظونها في تاريخ جهاد التبيين وتاريخ الشيعة. هذا المتوقّع [منكم]. فإذا كان هناك تلاوة جميلة للقرآن، وتُنشَد قصيدة جميلة بصوت حسن ولحن عذب، ويُذاع المحتوى الصحيح والراقي عبر هذا الصوت الحسن واللحن العذب، فإن ذلك يكون أكثر تأثيراً ونفوذاً من كثير من القوى الصلبة في العالم. لقد تحركت الجمهورية الإسلامية على هذا النحو خلال هذه السنوات الأربعين ونيّف، إذْ كان اعتمادها على القوة الناعمة أكبر منه على الصلبة. طبعاً، أنتم تعلمون أنني أؤمن بضرورة امتلاك أسلحة متطورة تتناسب مع احتياجات البلاد وكذلك قدرات الأعداء، لكن اعتقادي أنه إلى جانب تلك القوة الصلبة والأسلحة يجب أن تتعزز لدينا أسلحة الفكر والبيان والمنطق القوي؛ هذا توقّعنا. لدينا توقّع من الشعراء والمدّاحين، ومن صاحب الصوت الحسن والمنشد لدينا.
ثمة معياران مهمان في هذه القوة الناعمة ينبغي أخذهما بالحسبان، أي قيّموا عملكم بهذين المعيارَين: أحدهما القدرة على إثارة الدوافع والحثّ على التحرّك، والآخر هو الاتجاه الصحيح والدقة، [أيْ] يجب أن يكون توجيهه دقيقاً. التفتوا! إنّ من الأمور التي أوليناها أهمية في صواريخنا ونجحنا فيها وحققناها هي الدقة في الاستهداف، أي تستهدف نقطة على مسافة 2000 كيلومتر وتسقط فيها، وليس في عشرة أمتار مثلاً من هذا الطرف أو ذاك. ينبغي أن توجّهوا على هذا النحو في العمل الذي تريدون فعله. ضعوا هذين المعيارين في الاعتبار: أولاً أن تعرفوا مدى القدرة على إثارة الدوافع في العمل الذي تقدّمونه، ومدى قدرته على هزّ القلب وإحداث تحرّك، وثانياً مدى دقته، فالدقة في الحركة مهمة للغاية. أحياناً نريد أن نؤدي عملاً جيداً أو نقول كلاماً، لكننا لا ندقق في ثنايا هذا الكلام، فعندما يكون العالم الإسلامي بحاجة إلى الوحدة نُحدث فُرقةً وفجوة. هذا معنى غياب الدقة. إنني أصرّ على ضرورة توخي الدقة في فهم المعارف الدينية وبيانها. لحسن الحظ، كثيرون من مدّاحينا الأعزاء هم اليوم من الفئة التي تعلّمت ودرست وقطعت أشواطاً علمية، وهم ملمّون باللغة العربية ويفهمونها، وكثيرون منهم يأنسون بالقرآن والأحاديث. إذاً، هكذا الحال اليوم: مجتمع المداحّين لدينا ليس كما مرحلة شبابنا [سابقاً]. إن مجتمع المداحين مجتمع راقٍ ورفيع المستوى، وما نتوقّعه منه أنْ ينقل المعارف إلى الطرف المقابل بدقة وصحة وبتلك الأداة المميزة جداً للمديح والرثاء نفسها. هذا توقّعنا.
تعرّفوا إلى كتب الحديث ولتأْنسوا بها. تعرّفوا إلى نهج البلاغة ولتأنسوا به. نهج البلاغة بحرٌ من المعارف. عندما تنظرون إلى خطبه، وبخاصة بعض الخطب، فإنها مفعمة بالمعارف التي يمكن لكلمة واحدة منها أن تنمّي الإنسان، ويمكن أن تدفع شعباً على التحرّك. ائنسوا بالصحيفة السجادية. إنّ قالب الصحيفة السجادية قالب دعاء، وهي في المحتوى أيضاً تضرّع ودعاء، لكنها إلى جانب ذلك مفعمة بالمعارف الدينية. الصحيفة السجادية ظاهرة مذهلة في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام). لاحظوا! إنّ الإمام السجاد (سلام الله عليه) يدعو لأهل الثغور في الصحيفة السجادية. لديه دعاء مخصوص لأهل الثغور، فمن كان أهل الثغور في ذلك الحين؟ طبعاً كانوا جنود بني أمية! كان يدعو من أجلهم. حارسُ الثغور حارسٌ؛ إنه يحفظ حدود الدولة الإسلامية كائناً من كان. ادعوا لحارس الثغور. هذه دروس لنا.
تقع حدود العالم الإسلامي اليوم في غزّة. قلب العالم الإسلامي ينبض اليوم في غزّة. هؤلاء يقفون في وجه عالم الكفر والطاغوت والاستكبار، وفي وجه أمريكا. ليس الطرف المواجه لهم الكيان الصّهيوني فقط، إنما يقول الرئيس الأمريكي[11] بصراحة: أنا صهيوني[12]! إنه صادقٌ في قوله، فذلك الخبث نفسه لدى الصهاينة موجودٌ لديه أيضاً. وإنّ الأهداف القذرة عينها لديهم حاضرة لديه أيضاً. لقد وقفوا في وجه هؤلاء. ويجب أن نعلم ما علينا فعله. إحدى الخصائص لمجاهد التبيين أن يعرف ما عليه تبيينه اليوم، وماهية قضيته المعاصرة، ويدرك ما ينبغي له تبيينه. عليكم أن تبيّنوا غزّة اليوم. إنهم يمارسون وينفذون أنواع العداء كافة للنظام الإسلامي. طبعاً الآن لا يرون مصلحة لهم في الأعمال العسكرية والتسليحية وما إلى ذلك، ولكن في القوة الناعمة - طبعاً ليس أمريكا فقط إنما أتباع أمريكا ومعارضو الإسلام - يصنعون الأفلام وينشرون دعايات كاذبة ضد الإسلام والنظام الإسلامي، لذا ينبغي التصدّي.
نحن على أعتاب الانتخابات[13]. ثمة مجموعة لا يريدون أن تجري هذه الانتخابات على النحو الذي يستحقه هذا الشعب، إذْ يحاولون أن يثبّطوا الناس ويجعلوهم غير واثقين ويوحوا أنّ الانتخابات غير مجدية أو مؤثرة. يجب أن يتصدّى «جهاد التبيين» لهؤلاء، وأن يبيّن الحقيقة في مواجهتهم. هناك مَن [يريدون] أن يَضعفَ حضور الناس في إدارة البلاد - أي ما يثبت تحقيق السيادة الشعبية الدينية في البلاد - ليصيرَ كلام الإمام الجليل كذباً! هدفهم أن يُظهروا الوعد الإلهي مخالفاً للواقع. هذه الحركة معادية وينبغي بذل الجهود لمواجهتها. إنّ كلّ مَن يعارض الانتخابات يكون قد عارض الجمهوريّة الإسلاميّة والإسلام؛ الانتخابات واجبٌ. هذه إحدى المهمات. إن الشعور بالواجب اليوم تجاه الانتخابات من المهمات المباشرة للمجتمع المجاهد في «جهاد التبيين».
ثمة مَن يجعلون النّاس يسيئون الظنّ بالنظام ويُشعرونهم باليأس حيال المستقبل، [ولذلك] تكون هناك أحياناً نقطة قوّة في النظام فيحوّلونها إلى ضعف. مكافحة الفساد من نقاط القوّة في النظام. ما إن يبرز فسادٌ في مكان ما وتتحرّك الحكومة والمسؤولون القضائيّون والآخرون - بالطبع هذه نقطة قوّة وهي مكافحة للفساد - يأتي أشخاص في المقابل ويقولون: «انظروا، يوجد فساد!». نعم، هناك فساد، ونقطة الضعف هي التغاضي عنه ودعمه. إذا ما كوفح الفساد، فهذه نقطة قوّة. إنّهم يحاولون تحويل نقطة القوّة هذه إلى ضعف. ينبغي التصدّي لهؤلاء. لم يكن الإمام [الخميني] الجليل يتساهل أبداً. نحن كنّا نراعي في بعض المواضع لكنّ الإمام لم يكن كذلك، بل يؤدّي حقّ القضية بأسلوب صريح وواضح، ويقول ما ينبغي قوله. كان يذكر أسماء الأفراد والتيارات والجماعات لكي يتعرّف النّاس إليهم، وهكذا استطاع جعل أسس النظام متينة، فارتقى - بحمد الله - هذا البناء بعد أربعين سنة ونيّف إلى اليوم. وسوف يواصل ارتقاءه أيضاً.
الشعب الإيراني مُحبٌّ للإسلام. الشعب الإيراني يحب الاستقلال، ويحب العزة الوطنية. الشعب الإيراني يكره الانسياق وراء القوى [المستكبرة] واتّباعها؛ يرون عاراً عليهم أنْ يتعالى الأمريكيّون وغيرهم من القوى على هذا الشعب ويتحكّموا فيه كما حدث في عهد الطاغوت. الشعب الإيراني لا يطيق هذه الأمور، ولذلك يتمسّك بالجمهورية الإسلامية، إذْ إن شعارها هو العزة والاستقلال والتقدم الوطني. هذه هي شعارات الجمهورية الإسلامية. الشعب متعلق بهذه الأمور، وهذا الطريق طريق الله. إنّ ما يكون طريقاً إلى الله، وعباده يسيرون فيه، لا يمكن لأي قوة أن تعيده إلى الخلف.
واصلوا «جهاد التبيين» القيّم بكل قوة وطاقة - إن شاء الله - وانقلوا هذه المواريث الثمينة إلى الأجيال اللاحقة بكم. [إذا] شعر الشباب أن مسؤوليتهم مضاعفةٌ مقارنةً بأسلافهم، فسنرى مزيداً من التقدم يوماً بعد يوم، إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] في بداية هذا اللقاء، أخذ لفيف من المدّاحين والشعراء يلقون الشعر والأناشيد في مدح أهل البيت (عليهم السلام).
[2] ضحك الحضور.
[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار الجامعة، ج29، ص220.
[4] الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، ص354.
[5] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، ص374، المجلس 13.
[6] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج16، ص210.
[7] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج16، ص252. العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج29، ص235.
[8] ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول، ص237.
[9] راجع: الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج4، ص466.
[10] صحيفة الإمام (النسخة الفارسيّة)، ج6، ص16؛ كلمة في جنّة الزهراء، بتاريخ 03/03/1979م.
[11] جو بايدن.
[12] بما في ذلك خطاب جو بايدن في عيد «الحانوكا» اليهودي، بتاريخ 12/2023م.
[13] تُجرى انتخابات الدورة الثانية عشرة لـ«مجلس الشورى الإسلاميّ»، والدورة السادسة لـ«مجلس خبراء القيادة» في الحادي عشر من اسفند 1402 (01/03/2024م).