كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في لقاء جمع من المعلّمين، بتاريخ 01/05/2024م.
بسم الله الرحمن الرحيم[1]
والحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين المعصومين، [ولا] سيّما بقية الله في الأرضين.
أرحِّب بكم فرداً فرداً أيُّها الإخوة والأخوات الأعزَّاء، المعلّمون، والمربّون على الفضيلة، وصانعو مستقبل البلاد، كما أوجّه سلامي إلى مجتمع المعلِّمين في جميع أنحاء البلاد، وأبارك لجميع معلّمينا الأعزاء بمناسبة «عيد المعلِّم»، كما نستحضر ها هنا الذكرى الجليلة لمن اقترن هذا اليوم باسمه وذكراه، المعلّم الكبير والشهيد المرحوم آية الله المطهّريّ.
هذا اليوم، الذي يوافق الثاني والعشرين من أُرديبهشت، يشكّل فُرصة لنعبّر فيه عن إخلاصنا لمجتمع معلِّمي البلاد؛ فنتوجّه لهم بالشكر، ونعبّر لهم عن محبّتنا، ونقوم بتكريمهم بقدر ما يتاح لنا بكلمات لا تفي بتكريمهم وإن كان التكريم باللسان والكلمات أمراً ضرورياً ولا بدّ منه، كذلك سنستعرض في هذا اللقاء مسائل ترتبط بقضايا التربية والتعليم.
هذا «التكريم للمعلِّم» الذي لا بّد منه كما أسلفنا؛ هو أوّلاً من باب «مَن لَم يَشكُرِ المخلوقَ لم يَشكُرِ الخالِق»؛ حيث يجب على الجميع أن يكونوا شاكرين للمعلِّم، فأنتم المعلّمون من يقوم على تربية أبنائنا، وتعليمهم، وتهيئتهم وإعدادهم للمضيّ في مسيرة حياة كاملة، هذا عمل عظيم، وينبغي على الشعب بأسره فرداً فرداً، في مختلف أنحاء البلاد، في أيِّ مرتبة وموقع كانوا، وأيّ وظيفة شغلوا، عليهم جميعاً أن يشكروا المعلِّمين؛ ثانياً: إنّ تكريم المعلّم وشكره يوجّه الرأي العامّ في البلاد نحو أهميَّة التربية والتعليم، وأهميَّة المعلِّم. فالمشكلة في كثير من قضايانا ترجع إلى الرأي العامّ، والقضية التي يتمّ توجيه الرأي العامّ نحوها ويجري تبيينها له سيكون تنفيذها والعمل عليها أسهل.
في خصوص قضيّة التربية والتعليم نواجه اليوم مشكلات على المستوى المادّيّ والمعيشيّ، على مستوى العمل والوظيفة، لدينا مشكلات أيضاً في البيئة التعليميّة؛ وحينما تصبح هذه القضيّة محلّ عناية من الرأي العامّ، فيهتمّ بها، ويتعرّف إلى المعلّم ويدرك قدره، فإنّ ذلك سيترك تأثيره في سائر هذه المشكلات، وهذا ما نتطلّع إليه. وعندما يتحدّث هذا العبد بصراحة عن وجوب شكر المعلّمين على الجميع؛ فهذا من أجل توجيه الرأي العامّ نحو هذه المسألة.
كلَّ ما كانت مهنة المعلِّم أكثر تقديراً واحتراماً، كانت أكثر جاذبيّة. عندما تحظى مهنة ما باحترام عموم أفراد المجتمع، فمن الطبيعيّ أنَّ تزداد جاذبيّها. وإذا ما ازدادت جاذبيّتها؛ أقبل عليها أفراد ذوو مستوىً أرفع وأرقى، لذا إن ازدادت جاذبيّة التعليم أدّى ذلك إلى ارتقاء مجتمع المعلِّمين على المستوى العلميّ والمعنويّ، وإذا تحقّق مثل هذا الأمر، حصل ارتقاء في البلاد على صعيد التربية والتعليم، إنَّها معادلة واضحة.
لا بدّ لنا من فعل ما يجعل مهنة التعليم مهنة محترمة ومعتبرة على مستوى العالم، وهذا يقع على عاتق وسائل الإعلام، وأصحاب المنابر، والمنصّات التي تخاطب عموم الناس؛ أن يُعرِّفوا الناس بمهنة التعليم، ويمجّدوها. حسناً، هذا عن المعلِّم.
لكن ماذا عن التربية والتعليم؟ ولماذا ينبغي أن نتحدّث عنهما؟ إنّ قطاع التربية والتعليم ليس سواءً وسائر قطاعات الدولة الأخرى في البلاد، وهذا ما ينبغي أن يسلّم به الجميع. ونفس هذ الأمر، سيثير سؤالاً في أذهان كثير من الناس، وهنا يتجلّى ما تحدّثنا عنه حول الرأي العامّ. فما معنى أنّها «ليست على حد سواء مع سائر الأجهزة»؟ نعني بذلك أنّ سائر الأجهزة الأخرى تستثمر وتستخدم الطاقات البشريّة، بينما التربية والتعليم هي التي تصنع وتخلق الطاقات البشريّة. نعم، هناك التعليم العالي أيضاً، لكنَّ الأساس والعمدة هنا. فينبغي عدم التقليل من شأن الاثنتي عشرة سنة هذه. فهويَّة الموارد البشريّة تتشكّل في التربية والتعليم. وعندما يكون المعلِّم حاضراً وناشطاً في الميدان، فهو في الواقع يعمل على بناء الهويَّة وتشكيلها. فسلوككم، قولكم، موقفكم، تلميحكم، المزاح الذي تعمدون إليه أحياناً في الصَّف، والحِدَّة التي تظهرونها أحياناً، هذه كلُّها بنَّاءة ومؤثِّرة في مخاطَبكم، أي ذلك الجيل الشابّ الذي سيكون صاحب وصانع القرار غداً في البلاد.
إذاً، هذه هي [مكانة] التربية والتعليم: هي التي تُعدُّ الطاقات البشريَّة والموارد البشريَّة. والموارد البشريَّة هي الثروة الأعظم لأيِّ بلد، فإن توفّر لدينا النفط، والمعادن، والذهب في باطن الأرض، وشتَّى أنواع الثروات الباطنيّة الأخرى، والطقس المعتدل، والموقع الجغرافيّ المميّز، ثمّ لم يتوفّر لدينا الإنسان الذي يتمكّن من استثمار هذه الموارد والعمل فيها، فأيّ فائدة ترتجى منها؟ في القرن الماضي كانت أفريقيا مصدر أكبر وأغنى ثروات العالم، لكن لم يكن لديها الإنسان الذي يستثمر هذه الثروات، فاستغلّ الأوروبيّون هذه الفرصة، جاؤوا إلى أفريقيا وقضوا عليها، ونهبوا ثرواتها. هذه هي [أهميَّة] الموارد البشريّة، والذي يؤمّن هذه الموارد هو التربية والتعليم. وفي بلادنا، وكأيِّ بلد آخر، فإنَّ أمننا، وتقدُّمنا، وصحَّتنا، ورخاءنا، وعِلْمَنا، وأبحاثنا، وكلَّ قيمنا الإنسانيّة والإسلاميّة تحتاج إلى القوى والطاقات والموارد البشريّة، والتربية والتعليم هي الجهة الكفيلة بصنع هذه الموارد. من هنا، ينبغي الإكثار من الحديث عن التربية والتعليم، وينبغي قول الكثير، وينبغي عمل الكثير.
انطلاقاً من هذا أذكر بضع كلمات في مجال التربية والتعليم. لا شكَّ أنَّ كلام السيد الوزير كان كلاماً حسناً جداً؛ وكثيرٌ منه كان ناظراً إلى التوجيهات التي أُعطيت سابقاً. فالتطوُّرات التي جاء على ذكرها تطوُّرات مهمَّة ولله الحمد؛ وقد جاء بعضها في التقارير التي تصلنا أيضاً، وقد نشير إليها في سياق الحديث.
أذكر بضع كلمات في مجال التربية والتعليم، كما سأذكر بضع كلمات مختصرة حول ما هو منتظر ومرجوّ من المعلّمين، وما هو متوقّع من مجتمع المعلّمين في البلاد.
سأذكر في مجال التربية والتعليم مجموعة من العناوين أحدها وهو أهمّها مسألة «التحوُّل»، التي أشار إليها السيِّد الوزير. سابقاً كنّا قد وضعنا وثيقة التحوُّل هذه في الدُّرج لعدّة سنوات، بل أقفلنا ذلك الدرج أيضاً! لم يحصل أيُّ تحرُّك، وقد أضرّ ذلك بنا. لم يحصل تقدّم على امتداد سنوات عدّة لم تؤخذ فيها وثيقة التحوُّل بجديّة، وهذه خسارة.
بحمد الله، سمعتُ الآن أنَّ الوثيقة أُعيد النَّظر فيها، وأنّ ذلك قيد الإنجاز وبات في مراحله النهائيّة، وأنّ «خريطة الطَّريق» لتنفيذ هذه الوثيقة باتت جاهزة أيضاً، وهذا كلّه مهمّ لا سيّما الخطّة التنفيذيّة للوثيقة، فإنّها بالغة الأهميّة؛ لنعلم ما علينا فعله من أجل تسييل هذه الوثيقة في المراحل المختلفة للتربية والتعليم، وهذا خبرٌ طيبٌ. لا تسمحوا بعد ذلك بالتوقُّف، وتقدَّموا بالعمل بجديَّة.
وليُستعَن بعناصر النُّخبة في سائر المراحل. فالنخب موجودة أيضاً في التربية والتعليم، وعندهم وجهات نظر، كذلك يوجد خارج دائرة التربية والتعليم أشخاصٌ قد لا يكون لديهم عملٌ بارز في مجال التربية والتعليم، لكن لديهم أفكار ووجهات نظر، فليُستفَد من وجهات نظرهم. ولا بدّ من العمل يوماً بعد يوم على تصويب وتعديل هذه الوثيقة أكثر فأكثر وبنحو أفضل، فقد قمتم اليوم على تحديث الوثيقة، وقد تحتاج بعد عامين أو ثلاثة إلى تحديث جديد، فالتحوّلات اليوم تحدث بسرعة كبيرة. [لذا] فليُستفَد من هؤلاء. هذا هو العنوان الأوّل، عنوان التحوّل.
العنوان الثاني، هو موضوع تمكين المعلِّمين. والتمكين على نحوين: أحدهما على صعيد الأمور المعيشيَّة والماديَّة وما شابه؛ وهذا ما كان دائماً موضع تأكيدنا، وينبغي على الحكومة أن تبذل المساعي المطلوبة في هذا المجال في حدود إمكاناتها، وهو أمر له أهميَّته الخاصَّة بلا شكّ، وأمر ضروريٌّ ينبغي أن يُبذَل لأجله كلّ جهد ممكن. لكنَّ للتمكين بُعداً آخر أيضاً أودّ أن أُركِّز عليه؛ وهو استفادة المعلم من طاقته المعنويّة؛ أي ذلك الحبّ للتربية والتعليم الموجود بنحو طبيعيّ في قرارة وجود الإنسان، وأن يستفيد من المعلومات والاحتياجات والتجارب اللازمة ليعطي التعليم اتساقه وهويّته، ليكون التعليم محكماً ومتّسقاً. عندما نقول أنّكم تصنعون الإنسان، وتنتجون الطاقات والموارد البشريّة؛ فإنّ ذلك لا يتحقّق بمجرّد الحضور في الصفّ وتدريس الصفحات المطلوبة في الكتاب، ولو أنّ ذلك ضروريّ أيضاً إلّا إنّ الأمر لا يقتصر عليه. عندما نحضر في الصفّ، بصفتنا أشخاصاً مسؤولين، بصفتنا المعنيّين بهذا الجمع، وبمستقبل هذا الجمع؛ نحن نريد أن نرسم لهم مستقبلهم، لذا علينا أن نأتي إلى الصفّ بهذه النيّة، بهذه الروحيّة، بهذا الدافع، بهذا الفهم والإدراك لمهنة التعليم. هذا ما أردنا قوله في هذا الخصوص، هذا هو التمكين.
إذاً، فإن أردنا أن يبلغ مجتمع المعلِّمين هذا المستوى - [أي] هذا المستوى الذي ذكرته - علينا أن نعمل على تقوية وتعزيز مراكز إعداد المعلّمين، وقد أشاروا إلى هذا الأمر. وقد أوصى هذا العبد مراراً بجامعة «فرهنگیان»، ومراكز إعداد المعلِّم، أكدّت على ذلك وأعيد التأكيد عليه، لا ينبغي التهاون بهذه الأماكن فإنّها مهمّة للغاية. وفي الحقيقة فإنّ جامعة «فرهنگیان» هي [المكان] الذي يُعدّ فيه مربّو الأجيال الجديدة للبلاد؛ ولهذا هي تحوز أهميَّة فائقة. هذه أيضاً مسألة أخرى.
العنوان الثالث، موضوع المعاونيّة التربويّة. في برهة من الزمن أوحى بعض الأشخاص بعدم الحاجة للمعاونيّة التربويّة من رأس، لماذا؟ استدلّوا لذلك بقولهم: ينبغي أن تتحقّق التربية على يد المعلّم نفسه، وهذا كلام صحيح، فليست مهمَّة المعلّم التعليم وحسب، بل لا بدّ للمعلم أن يكون مربّياً أيضاً، وأن يُنشئ أيضاً، لكنَّ هذا يبقى غير كافٍ؛ وهذا هو مدار البحث. فالمعاونيّة التربويّة هي من أهمّ أقسام التربية والتعليم. طبعاً المعاونيّة التربويّة تواجه اليوم مشكلات، كنقص الموارد الماليَّة، والاختلاف في وجهات النظر، [يوجد مشكلات إلَّا إنَّه] يجب تقوية هذا [القسم].
المهمّة الأولى للمعاونيّة التربويّة، هي الحؤول دون وجود الآفات الأخلاقيّة والاجتماعيّة بين الشباب أنفسهم، والحؤول دون رواجها وشيوعها. وفي هذا السياق يقترح هذا العبد على شبابنا - حيث يوجد ضمن هذه المجموعة المليونيَّة للتلامذة، عدد كبير جداً من الشباب واليافعين النَّاشطين - أن يُبادروا أنفسهم لمنع الآفات الاجتماعيّة؛ بالطبع إنّ عدم وجود الآفات الاجتماعيّة داخل المدارس نفسها هو المقدّمة لهذا الأمر، وهذه وظيفة المعاونيّة الثقافيّة، طبعاً تُقدّم إحصاءات حول تفشّ كبير [للآفات]، لكنّ هذا العبد لا يثق كثيراً بهذه الإحصاءات، إذ لا يمكن الاعتماد عليها كثيراً، لكنّ الآفات موجودة؛ كالسلوك العنيف، والعلاقات الأخلاقيَّة غير الملائمة، وأمور كثيرة أخرى لا أريد أن أذكرها. وينبغي على المعاونيّة التربويّة أن يعالج هذه المسائل.
إحدى القضايا الأخرى المرتبطة بالمعاونيّة التربويّة، هي تبيين المصالح الأساسيّة للبلاد ونظام الجمهوريّة الإسلاميّة. لا بدّ من تبيين هذه الأمور وتعريفها للشباب. لو أنّ الملايين من فتيتنا وشبابنا في [مجال] التربية والتعليم وفي المدارس أدركوا المصالح الأساسيّة للنظام، وعرفوا مصالح بلدهم، وميّزوا جبهة المعادين لبلادهم من جبهة الأصدقاء، ووقفوا على القضايا الرئيسيّة التي تحتاجها بلادهم، إن تمت وقاية الفتى عندنا في هذا الميدان - وبحسب التعبير الرائج - تمّ تحصينه من الناحية الفكريّة؛ حينئذ ستخيب كلّ دعايات الأعداء وتُحبط جميع مساعيهم - التي يُنفق عليها المليارات - من أجل نشر هذه الدعايات وتضليل الرأي العامّ في البلاد.
كذلك على الشابّ في بلدنا أن يعرف تلك العناصر التي تتشكّل منها مصالح البلاد، والمنطق الذي يقف خلفها، هذا أيضاً أمر مهمّ، مثلاً لو وقفنا مع شعار «الموت لأميركا»، فلا بدّ لشبابنا الذي يطلقون شعار «الموت لأميركا» أن يدركوا حين هتافهم بهذا الشعار لماذا يهتفون بالموت لأميركا؟! لماذا علينا أن نهتف بالموت لإسرائيل؟! لا بدّ للشابّ أن يدرك ذلك وأن يعرف المنطق الذي يقف وراء الهتاف بهذا الشعار. حينما نعلن عن عدم رغبتنا في إقامة العلاقات مع الحكومة الفلانيّة أو الدولة الفلانيّة لا بدّ للشابّ في بلدنا أن يدرك السبب الذي دعانا إلى ذلك، لا بدّ له من معرفة المنطق الذي يقف وراء هذه المصالح وهذه التوجّهات. هذا كان أيضاً العنوان المرتبط بالمعاونيّة التربويّة.
عنوانٌ آخر هو قضيّة الاستقرار الإداريّ في [وزارة] التربية والتعليم، فوفق التقرير الذي اطّلعت عليه، كان لدينا على امتداد سنوات طويلة مضت وزير جديد كلّ عامين، وزير كلّ عامين! حسناً! من الواضح ما سيؤول إليه حال هذا القطاع، فما إن يشرعوا في إنجاز عمل رئيسيّ حتّى يحين وقت مغادرة الوزير، ومن ثمّ تتغيّر أيضاً المجموعة الإداريّة التي كان يشرف عليها، فيبقى هذا العمل الرئيسيّ معطّلاً. إنّ هذا العبد يؤكّد على الاستقرار في الإدارة بدءاً من المستويات الإداريّة العليا وصولاً إلى المستويات المتوسّطة، يجب أن يكون هناك استقرار حتّى تتسنّى متابعة المشاريع والبرامج. هذا عنوانٌ آخر أيضاً، وهو طبعاً يلحظ [وزارة] التربية والتعليم من الداخل كما يلحظها من الخارج.
العنوان المهمّ الآخر برأيي هو صناعة القدوة داخل مجتمع المعلّمين في البلاد. من هي النماذج التي يحتذى بها بينكم في المجتمع التعليميّ في مختلف أنحاء البلاد؟ فنحن لدينا مثل هذه النماذج في الميادين الأخرى، مثلاً من يشكّل النموذج في الرياضة هم الأبطال، وفي الفن الفنّانون المميّزون، في ساحة التعليم الدينيّ والحوزويّ هناك مجموعة تشكّل النموذج والقدوة للآخرين، حيث يكون نظر الطالب إلى مراجع التقليد والمدرّسين الكبار. فمن هي النماذج البارزة في مجتمع المعلّمين؟ لا بد من التعريف بهم.
على مؤسّسة التربية والتعليم البحث عن المعلّمين الذين لديهم تميّز علىى مستوى المعايير التعليميّة في سائر أنحاء البلاد، والعثور عليهم. مثلاً فلتفرضوا أنّ هناك معلّماً يحسن التدريس، متميّز في تدريسه، أو معلّماً قضى مدّة طويلة من عمره في التعليم؛ كان لدينا معلّمون - عددهم قليل لا يتجاوز عدد الأصابع - أمضوا خمسين عاماً أو ستّين عاماً في التعليم، هذا أمرٌ في منتهى الأهميّة، هذا يشكّل قدوة وأنموذجاً. أو ذاك المعلّم الذي يعلّم في مناطق تقترن فيها العمليّة التعليميّة بالصعوبات، فيذهب مثلاً على دراجته الهوائيّة ويقصد منطقة بعيدة ليعلّم خمسة تلامذة أو عشرة ثمّ يعود.
ذاك المعلّم الذي لا يهتمّ لأنواع المصاعب والهموم الداخليّة والخارجيّة، والجسميّة والروحيّة التي ترافق العمليّة التعليميّة، ولا يصرفه ذلك عن التعليم والتربية؛ هؤلاء أبطال، فليعثروا على هؤلاء الأشخاص في سائر أرجاء البلاد، وليقدّموهم كأبطال. ليُنتخب دوريّاً وتباعاً من كلّ محافظة ثلاثة أشخاص أو خمسة أو عشرة، فيتم إعلانهم أبطالاً، ولتقدّم لهم امتيازات خاصة تحت هذا العنوان، هذا أيضاً من الأعمال الضروريّة.
وهو يشكّل حافزاً للمعلّمين، ونحن بحاجة لمثل هذا التحفيز.
أمّا ما ينبغي ذكره في ما هو منتظر ومترقّب من المعلّمين، إذ لنا توقّعات ننتظرها منكم أيّها المعلّمون: أحد هذه التوقّعات ولعلّه الأهمّ من بينها؛ وهو ما أشرت إليه سابقاً[2]. إنّ المعلّم ليس مدرّساً فحسب؛ بل هو الصانع والمشكّل لهويّة التلميذ، فلتتنبّهوا لهذا الأمر، خذوا بعين الاعتبار أنّكم تصنعون شخصيّة هذا الشابّ وهذا الفتى، إن أدّيتم عملكم على النحو الأتمّ، ثمّ انتقل هذا التلميذ إلى الجامعة، فاتّفق أن واجهته مشكلة ما؛ فلن تأسره تلك المشكلة أو تترك تأثيراً كبيراً عليه، لأنّ هويّته قد تشكّلت. أنتم في الواقع تستخرجون القدرات والقابليّات والمواهب التي يتمتّع بها هذا الشابّ وهذا الفتى الذي يجلس في صفّكم، هو كاتب بالقوّة لكن لا يمكنه الكتابة بالفعل بعد، أنتم من يخرج هذه القوّة إلى حيّز الفعل، هو يملك القدرة على حلّ المسألة بالقوّة، لكنّه لا يتمكّن من ذلك بالفعل، لديه استعداد بالقوة لإنتاج وصناعة المسائل والمعادلات لكنّ فعليّة ذلك لم تتحقّق بعد، أنتم من يعلّمه ذلك، أنتم في الواقع من يستخرج هذه الاستعدادت، تستخرجونها كما يستخرج الذهب والفضّة من المعدن، إذاً أنتم صانعو الهويّة. عليكم أن تعلّموه - وهذا يأتي بالدرجة الأولى -، كما عليكم أيضاً أن تجعلوه يعتمد على نفسه، أن تخلقوا فيه الهمّة والدافع، وأن تزرعوا فيه الشوق للجدّ والعمل؛ كي يتمكّن من استخراج هذه القابليّات التي يملكها. هذا المطلب الأوّل.
التوقّع الثاني وهو مترتّب على التوقع الأوّل: اكتشاف المواهب والقابليّات لدى التلميذ، أنتم الأكثر اتصالاً مع هذا الشاب وهذا الفتى، حتّى الوالدان ليس لديهما مثل هذا التواصل، لا سيما مع المشاغل والمصاعب التي اتّسمت بها الفترة الأخيرة، هذه الفترة التي سادت فيها الآلات والحاسبات، فأنتم القادرون على اكتشاف قابليّاته ومواهبه. عندما يدقّق المعلّم في شؤون التلميذ يمكنه اكتشاف هذه الاستعدادات، وحينئذ إمّا أن يعمل على تنمية هذه الاستعدادت، وإمّا أن يطلع والديه عليها، وإما أن يصله بالمراكز المعنيّة حتّى تأخذ هذه الاستعدادت طريقها نحو التفتح والنموّ. هذا فيما يرتبط بالمطلب الثاني.
التوقّع الثالث وهو برأيي مهمٌّ جدّاً أيضاً: فلتمنحوا تلاميذكم هؤلاء بعداً وتطلّعاً وطنياً. ما الذي يعنيه هذا؟ يعني أن تؤدّوا الدور المرسوم لكم في إنفاذ الخطّة المعمول بها في إدارة البلد، فنحن لدينا مخطّط واسع وشامل لإدارة البلد وتقدّمه، لدينا جدول لذلك، جدول إن ملئت خاناته بالشكل الصحيح أدّى إلى تقدّم البلد، والصفّ الذي تعلّمون فيه خانة من خانات هذا الجدول، فليشعر هذا التلميذ أنّه واحد من أفراد مجموعة، واحد من كلّ. فليعلم أنّ ما يتعلّمه اليوم هو جزء في حركة جمعيّة وعموميّة، أنّه جزء من المجموعة العاملة على تقدّم البلد، هذا ما ينبغي أن نزرعه في الطالب ونغرسه فيه، طبعاً لا بدّ للمعلّم نفسه أن يعيش هذا الإحساس في داخله قبل التلميذ، وصيّتنا للمعلّمين هي أن يعلموا أنّهم ليسوا في نقطة معزولة عن المجموعة؛ بل هم جزء من المجموعة التي من خلال حركتها تحرّك هذه الآلة العظيمة التي تسمّى بلداً، تسمّى مجتمعاً، تسمّى نظاماً، وتمضي بها إلى الأمام، هذا ما ينبغي أن تكون عليه نظرتكم لعملكم، ويجب أن تسري هذه النظرة منكم إلى تلاميذكم، وهذا هو معنى أن يكون التلميذ ذا هويّة؛ أن يشعر أنّه جزء في مجموعة تحرّك البلد بأسره. فما يفعله ليس عملّا شخصيّاً، نعم هو من يدرس اليوم، يتعلّم، لكنّ هذا التعلّم جزء وقطعة من عمل عظيم ينجز على مستوى كلّ البلد؛ هذا ما على التلميذ إدراكه، عرّفوا التلميذ على المفاخر الوطنيّة وما تمتلكه البلاد، وعلى الانتصارات التي تحقّقت بفضل المضيّ في المسارات الصحيحة، وإطلاق الشعارات الصّحيحة، ولتعرّفوه على الأخطار أيضاً، على الأخطار والعداوات والأعداء. هذا أيضاً توقّعٌ آخر.
التوقع الآخر هو قضيّة بثّ الأمل. لقد أكّدت مراراً على قضيّة الأمل عند الشباب. لأنّ الأمل هو الضامن حقّا لمستقبل البلاد. من يقوم اليوم على بثّ الأمل وإيجاده وغرسه في نفوس الشباب هو في الحقيقة يساهم في بناء مستقبل البلاد. هؤلاء الذين يحملهم استياؤهم من النظام أو من شخص ما أو حكومة ما على تيئيس الشباب؛ إنّما يوجّهون الضربة إلى مستقبل البلاد. بثّ الأمل في نفوس الشباب والفتيان يكون من خلال إظهار وتبيين ما تحقّق من تطوّر وتقدّم، من خلال بيان الإيجابيّات، بيان التطلّعات المشجّعة والمحفّزة، قد تحضر في أذهانكم نقطة ضعف ترتبط بالبلد، أو النظام، أو بعمل الحكومة، لكن لا يجدر بكم ذكر ذلك أمام التلميذ فتتسبّبوا له بخيبة أمل أو إحباط. اخلقوا في نفس التلميذ التفاؤل بالمستقبل، فهذا التفاؤل وهذا الأمل هو الذي يدفعه إلى التحرّك، ويمضي به على الطريق الصحيح، غرس الأمل هو خدمة لمستقبل البلاد. هذه أيضاً إحدى النقاط.
النقطة الأخرى، إلى جانب العلم والتعليم - وقد تحدّثنا عنهما - هي أن تشجّعوا التلميذ على الأنشطة الاجتماعيّة. لدينا الكثير من الأعمال الاجتماعيّة الآن: نفس هذه الأنشطة الموجودة في المساجد، والمساعدات والتكافل الإيمانيّ، احتفالات الشوارع في النصف من شعبان وعيد الغدير وأمثالها، وهذه الأنشطة الاجتماعيّة المتعلّقة بالإعمار، و«قوافل النور»، و«قوافل التقدّم»، أو هؤلاء الشباب الذين يذهبون إلى القرى النائية وينشطون فيها؛ شجّعوا الشابّ على هذا النوع من الأنشطة، فهذا ما يُكسبه خبرة، بالإضافة إلى أنّه يحلّ الكثير من العُقد في البلاد. لدينا الآن نحو سبعة عشر مليون تلميذ؛ وبين هؤلاء السبعة عشر مليوناً، هناك ما لا يقلّ عن سبعة ملايين من الشباب والناشئة الذين يمكنهم أداء أدوار في مختلف المجالات؛ وعليكم الاستفادة القصوى من هذه الطاقات من أجل النهوض بالبلاد والمضيّ بالعمل قُدُماً. هذه أيضاً قضيّة.
أمّا القضيّة الأخيرة فهي قضيّة تعليم المهارات، والتي وردت أيضاً في كلمة الوزير المحترم. قبل بضعة أيّام كان لي لقاء مع العمّال الأعزّاء هنا في الحسينيّة[3]، وقلت إنّ هذا المستوى من مهارة العامل تُصَبُّ أساساته في المدرسة. فلو أنّ عمليّة تعليم المهارات تجري في المدرسة - طبعاً، ليس المقصود المؤسّسات المرتبطة بالتعليم المهنيّ ونحو ذلك، إنما لو تمّ إجراء ذلك في المدارس العاديّة في البلاد -؛ فباعتقادي إنّ هذا الأمر سيشكّل تقدّماً كبيراً.
هذه هي توقّعاتنا. بالطبع، معلّمونا الأعزّاء يعملون بنحو جيّد، والعديد منهم يستجيبون لهذه التوقّعات من دون أن نذكرها، ولكن يجب أن تلقى [هذه الأمور] رواجاً عاماً لدى مجتمع المعلّمين.
إنّ قضيّة غزّة هي قضيّة العالم الأولى اليوم، ومهما عمل الصهاينة وداعموهم الأميركيّون والأوروبيّون على إسقاطها من جدول أعمال الرأي العامّ العالميّ لن يستطيعوا ذلك، انظروا إلى [ما يجري في] الجامعات الأميركيّة! وقد قرأت اليوم في الأخبار أنّ عدداً آخر من الجامعات قد التحق بها، في أستراليا وفي مختلف الدول الأوروبيّة[4]. أي إنّ الشعوب تتفاعل بقوّة مع قضيّة غزّة، وباتت قضيّة غزة القضيّة الأولى في العالم. يجب ألّا نسمح بأن تغيب هذه القضيّة عن أنظار الرأي العامّ الدّولي، أو أن تفقد موقعها كقضيّة أولى في العالم. يجب أن يتضاعف الضّغط على الكيان الصهيونّي يوماً بعد يوم.
ثمّة نقطة يحسن الالتفات إليها، وهي حقّانيّة الجمهوريّة الإسلاميّة، فالعالم كلّه اليوم يرى ممارسات الكيان الصهيونيّ؛ يرى مقتل أكثر من ثلاثين ألفاً في غضون ستّة أشهر، نصفهم على الأقل من النساء والأطفال، ليس هذا بالأمر الهيّن، كلّ هذه القسوة، وكلّ هذه الوحشيّة! ليس بالأمر العابر أن يفتك هذا الكلب المسعور بالأطفال الفلسطينيّين والمرضى والشيوخ والنساء. وهذا الذي يجري، من الأمور التي أثبتت لشعوب العالم صحّة الموقف الثابت الذي اتّخذته الجمهوريّة الإسلاميّة. لقد ثبتت حقّانيّة هذا الموقف الدائم لجمهوريّة إيران الإسلاميّة؛ لقد ظهر للجميع لماذا كانوا في الجمهوريّة الإسلاميّة يهتفون على امتداد عشرات السنوات بالـ «الموت للكيان الصهيوني»، لقد بان ذلك وثبت أنّه موقف حقّ. لقد ظهر للعالم أنّ الحقّ كان إلى جانب الجمهوريّة الإسلاميّة، إلى جانب الشعب الإيرانيّ، وذلك بعد أن أسفر هذا الكيان الغاصب عن وجهه وذاته الشريرة والخبيثة، فظهرت حقّانيّة الجمهوريّة الإسلاميّة.
النقطة الأخرى، هي سلوك أميركا. لاحظوا كيف يتصرّف الأميركيّون والأجهزة المرتبطة بهم إزاء المعارضة اللسانيّة ضد «إسرائيل»! الطلّاب الجامعيّون في جامعات أميركا لم يفتعلوا الشغب ولم يُطلقوا شعارات تحثّ على الشغب، ولم يقتلوا أحداً، ولم يضرموا النار في أيّ مكان، ولم يكسروا زجاجاً... ثمّ يجري التعامل معهم بهذا النّحو! لقد أثبت سلوك الأميركيّين هذا حقانيّة موقف الجمهوريّة الإسلاميّة في ما يرتبط بإساءتها الظنّ بأميركا، وفي الواقع صار هذا برهاناً لـ[شعار] «الموت لأميركا» الذي تهتفون به. لقد ثبت للجميع أنّ أميركا شريكٌ في الجريمة. قد يطلقون أحياناً تصريحاً يدّعون فيه حرصاً ما، [إلّا إنّه] كذب ومغاير للحقيقة. إنّ ما يُلاحظه المرء على أرض الواقع يثبت تعاون وتورّط أميركا في هذه الجريمة الكُبرى مع الكيان الصهيونيّ، وفي هذا الذنب الذي لا يُغتفر. هؤلاء شركاء في الجريمة. كيف يُمكن للمرء أن يُحسن الظنّ بنظام وكيان كهذا؟ أو أن يثق بكلامه! كيف يمكن ذلك؟ هذه مسألة.
المسألة الأخرى، تتعلّق بما يجري في فلسطين اليوم. باعتقادنا إنّ مشكلة غرب آسيا لن تحلّ ما لم تعُد فلسطين إلى أصحابها الأصليّين. حتّى لو عملوا على إبقاء هذا الكيان واقفاً على قدميه لعشرين أو ثلاثين سنة أخرى - وإن شاء الله لن يتمكّنوا من ذلك - فإنّ ذلك لن يحلّ المشكلة، حلّ هذه المشكلة إنّما يكون بعودة فلسطين إلى أهلها، أي إلى الشعب الفلسطينيّ، ففلسطين ملكٌ للشعب الفلسطيني، والشعب الفلسطينيّ فيه المسلم وفيه المسيحيّ وفيه اليهوديّ أيضاً، فليعيدوا فلسطين إليهم ليؤسّسوا هم دولتهم ونظامهم، ثمّ يقرّر ذلك النظام كيف سيتعامل مع الصهاينة؛ يطردهم؟ يبقيهم؟ القرارا بأيديهم هم، هذا هو الحلّ الذي أعلنّا عنه قبل عدّة سنوات، ويبدو أنّه قد تمّ تسجيله في الأمم المتحدّة أيضّا، اليوم أيضاً نعيد التأكيد على هذا الحلّ فإنّ قضيّة غرب آسيا لن تحلّ ما لم يتحقّق ذلك، بعض الأشخاص يتوهّمون أنّ المشكلة تحلّ بإقناع الدّول المجاورة بتطبيع علاقاتها مع الكيان الصهيونيّ، كلّا إنّهم مخطئون في ذلك، وافرضوا أنّ عدّة دول هنا وهناك، والدول العربيّة بشكل أساسيّ، طبّعت علاقاتها مع الكيان الصهيونيّ، فهذا لن يحلّ المشكلة، بل سيخلق مشكلة لحكومات تلك الدول نفسها؛ أي ستنتفض الشعوب ضدّ حكوماتها تلك التي غضّت الطرف عن جرائم الكيان الصهيونيّ، ومدّت إليه يد الصداقة رغم تلك الجرائم! إذا كانت شعوب المنطقة اليوم تناهض الكيان الصهيونيّ، فإنّها ستكون يومئذٍ مناهضة لحكوماتها. لن تحلّ المشكلة [بهذا النحو]، بل لا بدّ أن تعود فلسطين إلى الفلسطينيّين. نرجو أن يُبلّغنا الله المتعالي هذا المستقبل في أسرع وقت، إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] في مستهل هذا اللقاء، قدَّم السيِّد رضا مراد صحرائي (وزير التربية والتعليم) تقريرًا.
[2] من جملتها، خطاب سماحته في لقاء مع المعلّمين والتربويّين من أنحاء البلاد، بتاريخ 02/05/2023م.
[3] لقاء الإمام الخامنئي مع جمع من العمَّال بمناسبة «أسبوع العمل والعامل» في إيران، بتاريخ 27/04/2024م.
[4] في إشارة إلى الاحتجاجات المناهضة للصهيونية التي أطلقها طلاب الجامعات في العالم، بما في ذلك في أميركا وأوروبا، والتي أدّت إلى ضرب واعتقال عدد منهم.