كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في لقاء مع نواب الدورة الثانية عشرة لمجلس الشورى الإسلامي، بتاريخ 2025/06/11م.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا، أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، [ولا] سيما بقية الله في الأرضين.
أيها الإخوة الأعزّاء، والأخوات العزيزات، نواب الشعب الإيراني العظيم والعزيز في «مجلس الشورى الإسلامي»، أهلاً وسهلاً بكم. بدايةً، أبارك لكم حلول عيد الغدير، وهو حقّاً عيدٌ عظيمٌ للعالم الإسلامي أجمع. إنّ المضامين التي ينبغي أن تحظى بالاهتمام في واقعة الغدير واسعة جدّاً تنتهي بمعرفة الإسلام، فلا يقتصر الأمر على تنصيب أمير المؤمنين (عليه السلام) وليّاً، إذ ثمة مفاهيم مهمّة أخرى نابعة منه. أبارك أيضاً حلول ذكرى ولادة الإمام الهادي (سلام الله عليه).
لقد تُحدِّث عن مواضيع كثيرة متعلّقة بالمجلس الموقّر والمعظم؛ تحدّثنا نحن، والآخرون تحدّثوا، وها هو اليوم، بحمد الله، يأتي التقرير المفصّل الذي قدّمه السيّد قاليباف[1]، الذي نبارك له تولّي الرئاسة، متضمّناً ما ينبغي قوله كلّه أو غالبيته، سواء في هذه الكلمة أو في سائر الكلمات. بدوري أيضاً أودّ أن أتحدّث ببضع جُمل.
تنبثق مكانة المجلس وشأنه من مكانة القانون ذاته؛ فذاك الذي يمنح مجلس التشريع قيمة ومقاماً معزّزاً ومعظّماً، هو مسألة التشريع ذاتها، إذ إنّ القانون هو العنصر الأساسي في الحياة الاجتماعية، وهو شرطٌ إلزامي للحياة الاجتماعية واستمرارها، والمجلس هو من يتولى هذه المهمة، وتُستمدّ أهميّته في الغالب من هذا الدور. طبعاً، يحظى القانون بأهميّة عظيمة، ولكن من حيث الاعتماد العقلائي، فإنّ القانون الذي يصدر من عقلٍ جمعيّ يُعدّ أكثر اعتباراً. لقد وُجدت عبر التاريخ قوانين كانت تُعدّ قوانين، وبعضها لم يكن سيّئاً، بل جيّداً أحياناً، ولكنّها صدرت من عقل فردٍ واحد؛ مثل «ياسا الجنكيزية»[2] المشهورة. وُضعت قوانين قوية وذات اعتبار عالٍ، وقد عمل الناس بها، ولكن من وجهة نظر العقلاء، فإنّ القانون الذي يصدر من عقل فردٍ واحد لا يرقى في قيمته إلى القانون الذي ينشأ من عقلٍ جمعي. حسناً، وإذا ما أُضيف إلى هذا العقل الجمعي امتيازٌ آخر، وهو أنّ الجماعة التي وضعت هذا القانون -أي أصحاب العقول- هي ممثّلو الشعب، فهذا يعني في الحقيقة أنّ الشعب هو الذي يشرّع القانون؛ وعندها، يغدو هذا القانون أكثر اعتباراً. إنّ الاعتبار الحقوقي لمجلسٍ تشريعي يستند إلى هذه [الأسس]: أوّلاً لأنّه جهة مشرّعة، ثانياً لأنّ تشريعه نابع من عقلٍ جمعي، وثالثاً لأنّ هذه المؤسسة انتخبها شعب؛ إذ جلس الناس وفكّروا، ثمّ اختاروا هذا الجمع بأكثريّة [الأصوات] وأرسلوه إلى المجلس.
إذاً، هذه هي المنزلة الحقوقية للمجلس التشريعي؛ ولكن إلى جانب هذه المنزلة القانونية، ثمّة ميدان اختبار آخر لا بدّ من أخذه في الحسبان، وهو المنزلة الحقيقية والوزن الحقيقي للمجلس. حسناً، الآن لقد فهمنا أنّ مجالس التشريع في الأنظمة الديمقراطية حول العالم تحظى بهذا الاعتبار من وجهة نظر العقلاء، ولكن هل الوزن الحقيقي لهذه المجالس متساوٍ؟ في بعدها الحقوقي هي متشابهة، ولكن من حيث [الوزن] الحقيقي، هل هي متساوية؟ كلّا. ذاك المجلس الذي يستند إلى الوحي والدين ويعتمد على أشخاص نزيهين ومؤمنين وأتقياء، ليس كالمجلس المؤلف من أشخاص لامبالين. حسناً، لقد انتُخبوا لأيّ سبب كان في بلدانهم، ولكنّهم ليسوا أشخاصاً يتمتّعون بالرفعة وليسوا بارزين، هم ليسوا أشخاصاً يمكن للمرء أن يثق بهم في قضيّة شخصيّة، ناهيكم بالقضايا العامّة والاجتماعيّة. المجلس الذي يتألف من مثل هؤلاء الأشخاص، يختلف وزنه الحقيقي عن ذاك المجلس الذي يتألف من أفراد أتقياء ورفيعي المستوى، والفرق بينهما كاختلاف الأرض والسّماء. أو على سبيل المثال مجلس ينصبّ همّه وجهده على خدمة العدالة، ويتجنّب بشدّة إضعاف الضعفاء وممارسة الضغوط على المستضعفين، ويتصدّى لذلك. هذا المجلس ليس مثل ذاك المجلس الذي دأبه إعانة الظلم والتمييز والمساهمة في تعميق الفجوات الطبقيّة، ويقف إلى جانب من يمارسون الأذى بحق البشر، ويساند القتلة في غزّة. هؤلاء ليسوا سواسية. لذلك، إلى جانب الوزن والمعيار الحقوقي الموجودين في البرلمانات كلّها، التي تجعلها في مستوى راقٍ، لدينا معيار ومقياس آخر، وهو الوزن الحقيقي، وهذا موجود في بعض الأماكن ومفقود في أخرى.
عندما ننظر إلى الأمور بهذه النظرة، حينها تتضح لنا منزلة «مجلس الشورى الإسلامي» في نظام الجمهورية الإسلامية؛ وهذا هو ما أريد أن أبيّنه. إن المنزلة والمكانة اللتين تتمتعون بهما بصفتكم نواباً في «مجلس الشورى الإسلامي» في إيران الإسلامية، لا نظير لهما في هذا العالم الذي نراه من حولنا. أنتم «مجلس الشورى الإسلامي». لقد أكّد الإمام [الخميني] (رضوان الله عليه) كلمة «الإسلامي». في الدورة الأولى حين كنت أنا أيضاً عضواً في المجلس، كان بعض الأشخاص آنذاك يطلقون عليه اسماً آخر، ولكن الإمام قال: كلّا، بل «مجلس الشورى الإسلامي». إذاً، إنّ منزلة «مجلس الشورى الإسلامي» رفيعة جداً؛ أي إننا، عند المقارنة بين هذا المجلس وسائر المجالس التي نشهدها اليوم في العالم، لا يمكننا التغاضي عن المميزات التي ينفرد بها هذا المجلس الموجود في بلدنا. منذ انتصار الثورة إلى اليوم، مرّ هذا المجلس بأشكال مختلفة وتوجّهات سياسية متنوّعة -هذا أمر لا جدال فيه، فالدورات لم تكن جميعها على وتيرة واحدة- ولكن حين نُمعن النظر في مجمل المسار، نرى أن هذا المجلس يختلف عن سائر المجالس؛ إنه مجلس بارز ومتميّز. الاحترام الذي نكنّه لـ«مجلس الشورى الإسلامي» نابع من كونه يملك وزناً قانونياً إلى جانب امتلاكه وزناً حقيقياً أيضاً. كما إنّ الاحترام الذي نكنّه للنائب نابع من كونه يُعدّ جزءاً من هذه المجموعة القيّمة والموقّرة. حسناً، ولهذا نُقل عن الإمام (رضوان الله عليه) أنّ «المجلس عصارة فضائل الشعب»[3]؛ وطبعاً، إنّ المجلس الذي يتبلور على ذاك النحو وينبثق من ذاك المنشأ، يُعدّ عصارة فضائل الشعب ويحظى بقيمة سامية ورفيعة جداً. في رأيي لو تأمّلنا في مقتضيات هذا المجلس ومضمونه الحقيقي، لوجدناه في جوهره محراباً للعبادة، [نعم،] إنّ مجلسكم هذا مسجد ومكان للعبادة بالمعنى الحقيقي للكلمة. أنتم حين تجلسون وتفكّرون وتبذلون الجهد وتعملون، وما أشار إليه الدكتور قاليباف كلّه من أعمال تتابعونها وتُقرّون القوانين بإحكام، وغير ذلك، كلّ واحدٍ من هذه الأعمال يُعدّ عبادة. إذاً المجلس أصبح مسجداً، وهو مصداق لـ: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا﴾[4]؛ إنه مصداق لهذه الآية. هذه هي أهمّية «مجلس الشورى الإسلامي». أنا أنظر إلى المجلس من هذه الزاوية، وأفهمه بهذا التعريف.
طبيعة المجلس في الجمهورية الإسلامية طبيعة شريفة وطاهرة، وهو منقطع النظير بين سائر المجالس التشريعية في العالم؛ هذه هي نظرتنا. لكن ثمّة نقطة هنا، وهي أنه ينبغي أن نحافظ على هذه الطبيعة في مصاديق هذا المجلس المتعدّدة ونصونها؛ فإذا كان قد ﴿أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى﴾، فلا بدّ من الحفاظ على التقوى فيه، ولأنه عُدّ مكاناً للعبادة، والعبادة تقتضي الإخلاص، فلا بدّ من حفظ الإخلاص فيه، وقد دوّنتُ بضع نقاط في هذا الصدد وسأعرضها. هذه أمور لا بد أن تكون حاضرة، ويجب الحفاظ عليها؛ فإنّ رفعة «مجلس الشورى الإسلامي»، بناءً على ما ذكرناه، ليس أمراً قائماً ودائماً في الأحوال كلها، بل ينبغي صونه والمحافظة عليه وإدارته على ذاك النحو، وإلّا فإنّ «برصيصا العابد»[5] نفسه انحدر ذات يوم من مقام العبادة: ﴿كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾[6]؛ هكذا تغدو الحال. [لذا] لا بدّ من أن تحافظوا عليها وتصونوها.
من الذي يجب أن يحافظ عليها؟ أنتم؛ أنتم من عليكم أن تحافظوا عليها، نوّاب المجلس أنفسهم هم الذين يجب أن يصونوا هذه المكانة. نحن من الخارج يجب أن نقيم الاحترام للمجلس، وسنفعل ذلك إن شاء الله -أي على الجميع أن يكنّوا الاحترام للمجلس- ولكن من ينبغي له أن يصون تلك الحقيقة والطبيعة والكرامة والنزاهة الموجودة في «مجلس الشورى الإسلامي»؟ إنّهم النواب الحاضرون في المجلس؛ هم من ينبغي لهم الحفاظ عليها. لذلك، إنّ سلوككم مهمٌّ جدّاً، وأسلوب تعاملكم على درجة عالية من الأهميّة. لذلك هناك مجموعة من الواجبات والمحظورات بالنسبة إلى المجلس. حسناً، في هذه الأعوام الطويلة ومع تشكّل كلّ مجلس، كنت -أنا العبد- أقدّم كلمات قليلة، بضع سطور، بعض الصفحات، كمقترح وتعبير عن المعتقد، وهي متوافرة للسادة. هناك بعض الواجبات والمحظورات التي ينبغي الالتزام بها، وبعض الأمور ذكرتموها بأنفسكم أيضاً، وذكرها الآخرون، وقد دوّنت الآن بعض النقاط وسوف أتطرّق إليها.
أوّل قضيّة ضمن هذه الواجبات والمحظورات هي أنّه على النائب أن يرى نفسه مسؤولاً؛ مسؤولاً أمام من؟ أمام الله ثم أمام القانون. أي يجب أن تشعروا بأن هناك رقيباً سيحاسبكم على كل خطوة تخطونها. يجب أن تكونوا مسؤولين. ما هو مقتضى الشعور بالمسؤولية؟ ألّا تتدخل المصالح الشخصية في أعمالكم داخل المجلس، سواء في تصويتكم على قانونٍ ما، أو في امتناعكم عن التصويت عليه. يجب إقصاء المصالح الشخصية. أمعنوا النظر حقاً، بتشخيص ودقّة، وانظروا ما هي المصلحة، وما الذي يُرضي الله المتعالي، وصوّتوا وفقه. لا تُقحموا الأهواء الشخصية في الأمر. إنّ مقتضى الشعور بالمسؤوليّة هو ألّا يجعل الإنسان الغايات والأغراض الشخصيّة جزءاً من قراره، بحسب المصطلح الرائج في هذه الأيام الذي يبدو أنّه مستوحى من مصطلح أجنبي «تضارب المصالح»؛ فلا تستسلموا لتضارب المصالح هذا.
النقطة الأخرى هي أنّ النائب يجب أن يكون مدركاً لتأثير كلماته وإجراءاته وقراراته في الأجواء العامّة للبلاد. أنتم قبل أن تصبحوا نوّاباً، كنتم على سبيل المثال أساتذة أو أطبّاء أو تجّاراً أو طلاباً حوزويّين أو كنتم تمارسون أعمالاً مختلفة، وكان من الممكن أن تطرحوا رأياً أو تصرّحوا بكلام دون أن يكون له صدى كبير أو تأثير واسع، أما الآن، فبمجرّد صعودكم هذا المنبر -منبر المجلس-، يصبح لكلامكم حينها تأثير. يتلقّى بعض الأشخاص مفهوماً معيّناً من كلامكم -ليس الجميع ورعين وأتقياء، وهناك بعض من هم عديمو التقوى- ويسيئون وفق رغباتهم استغلال ذاك الكلام بما يضرّ بالبلاد والنظام والحكومة والمصالح القوميّة. يجب توخّي الحذر وانتقاء الكلمات.
هذا الكلام والتصريح اللذان تلقونهما من على منبر المجلس، يجب أن يبثّا الأمل في بيئة المجتمع وأن يخلقا أجواء الاستقرار. طبعاً، لحُسن الحظ، يتمتّع المجلس منذ مدة بهذه الحالة، وفي المُدد السابقة، في برهة من الزمان، عندما كان المرء يشغّل منبر المجلس، كانت تخرج منه الشجارات والخلافات وأمثال هذه الأمور، وبحمد الله، ليس الحال اليوم على هذا النحو، والمجلس ليس مدعاة لبثّ الخلافات، ويبثّ الاستقرار والهدوء إلى حدّ كبير حقّاً، وهذا أمرٌ مهمّ. ليكن ما يُقال في المجلس ويصدر عن لسان النائب مظهراً لعقلانيّة المجلس ومؤشّراً إلى أنّه يُعمل ويُتكلّم انطلاقاً من التفكير، ولتتكوّن هذه الصورة لدى المستمع؛ هذا ما يؤثّر كثيراً. ليكن دالّاً على التمسّك بمبادئ الثورة الإسلاميّة. يجب ألّا نتصوّر أنّ ما يُرضي زيداً وعمرو الجالسين في بيوتهما في إحدى زوايا العالم، يجب أن يكون له أثر في كلامنا؛ لا، لدينا مُثل ومبادئ وتكاليف مدوّنة، يجب أن تبرز في كلمات النواب الموقّرين.
ينبغي أن تكون مؤشّراً على العزم والاقتدار، خاصّةً في الأجواء الخارجيّة، أي يجب أن تتكلّموا على النحو الذي يشير إلى وجود العزم والاقتدار، وأنّ الشعب -الذي تمثّلونه- يملك العزيمة والإرادة، لديه إرادة وطنيّة، وهي إرادة راسخة، وهو يتمتّع بالاقتدار. هذا ليس خلاف الواقع أيضاً، بل هذا هو واقع الأمر؛ إنّ شعبنا هو حقّاً شعب الإرادة والحزم؛ أيّ شعبٍ آخر تعرفونه يقف في وجه قوى مثل هذه المنكبّة على الترّهات وفرض الإملاءات وإصدار الأوامر لهذا وذاك في العالم اليوم، ويتصدّى لها، ويجهر بكلمته بثبات وصراحة ووضوح؟
قلّ ما تجدون شعباً مثل شعبنا. الأوروبيّون ارتعدت فرائصهم أمام بعض المواقف، أمّا شعبنا، فلا؛ إنّه يقف بثبات على مواقفه. لقد شنّوا ولا يزالون يشنون هذا الكمّ كله من الدعايات ضد الإمام [الخميني] باستمرار، ولكنكم ترون ما يفعله الناس في ذكرى رحيل الإمام بعد مرور أكثر من أربعين عاماً، ولقد كالوا هذا الكيل من الكلام كله ضد الثورة، ومع ذلك ترون كيف يخرج الناس إلى الشوارع في الثاني والعشرين من بهمن في البرد وفي تلك الظروف. هذا يدل على الاقتدار وعلى الإرادة القوية، ويجب أن ينعكس وأن يظهر هذا في كلامكم وأفعالكم وقراراتكم وفي قبولكم ورفضكم للقوانين أو للأشخاص. طبعاً، أنا ألاحظ آثار هذه الخصائص في المجلس إلى حدٍّ كبير، إلى ذاك الحدّ الذي أستطيع الاطلاع عليه، وهو جيّدٌ بحمد الله. ركّزوا على هذه الأمور، فهذه قضايا مهمّة.
الواجب الآخر هو قضيّة الانسجام الوطني، فالانسجام الوطني اليوم ضروريّ أكثر من أيّ زمنٍ مضى. كان ضروريّاً دوماً، ولكنّه اليوم ضروريّ أكثر من أيّ وقت مضى. الخلاف، الخلاف بمعنى السجال، يضرّ دائماً، حتى وإن لم يكن هذا السجال من أجل قضيّة شخصيّة على سبيل المثال، ولكن أن نطرح هذه الخلافات الذوقيّة والسياسيّة والوظيفيّة وأمثالها على هيئة شجار وخلاف على سبيل المثال، فإنّ هذا مضرٌّ دائماً، وهو اليوم أشدّ ضرراً من أيّ زمنٍ مضى. لقد قلت مراراً إنّه يجب أن يصدر عن البلاد صوتٌ واحد في القضايا الأساسيّة، يجب أن يكونوا يداً واحدة. ينبغي أن يكون شعبنا ومجموعتنا، مجموعتنا السياسيّة والمجموعة الإداريّة للبلاد، يداً واحدة. الأرضيّة مهيّئة. لحُسن الحظ، رؤساء السلطات يجرون لقاءات جيّدة. لقد كنت -أنا العبد- أصرّ في بعض الحكومات، وأؤكد أن اعقدوا اللقاءات معاً، واجلسوا وحُلّوا قضاياكم سويّةً، بدل اعتلاء المنبر -إذ تطلقون التصريحات ضد بعضكم بعضاً- تحدّثوا إلى بعضكم بعضاً داخل لقاء خاص، وكان يصعب عليهم ذلك، ولكنهم الآن يجلسون بحمد الله معاً ويتحدّثون ويطرحون قضاياهم، ويسعون إلى حلّ مشكلاتهم مع بعضهم بعضاً. الأرضيّة مهيّئة الآن من هذه الناحية، وهناك تقارب نسبي بين السلطات بحمد الله، ويجب الحفاظ عليه، فليُحفظ هذا [التقارب]، ويجب ألّا تتشكّل اصطفافات ولا يكوننّ الحال بأن يُظهر منبر المجلس وجود الخلاف، والحمد لله أن الحال ليس هكذا. حسناً، كانت هذه في الواقع نصائحنا وكلمتنا عموماً، وهناك بعض النقاط التفصيليّة ذات المصاديق أيضاً، وأنا دوّنت ثلاث أو أربع نقاط لأذكرها.
قضيّة أخرى، هي قضيّة الخطة التنمويّة السابعة[7]. كانت الخطة التنمويّة السابعة متزامنةً ومتناسقةً مع انطلاق أعمال هذا المجلس تقريباً، وهذه فرصة. الخطط السابقة -حسناً هذه الخطة السابعة، ما الذي يعنيه ذلك؟ أي كان لدينا ستّ خطط قبلها- تحقّقت بنسبة 35 بالمئة كحدّ أقصى، حسناً، ما الذي يعنيه هذا؟ أي إنّ من يضعون الخطط من الحكومة والمجلس -لأنّ المجلس هو الذي يقرّ هذه الخطط بطبيعة الحال- يجلسون ويقضون ساعات من الوقت، وتُستهلك هذه الموارد البشريّة والماليّة كلّها، لتخرج منها خطّة، ثمّ لا تطبّق هذه الخطّة! تستقلّون سيّارة أجرة، وتدفعون مبلغاً كبيراً، ثمّ توصلون أنفسكم إلى الطبيب، وتجلسون وتنتظرون هناك لساعة أو اثنتين حتى يحين دوركم، ثمّ تدخلون إلى غرفة الطبيب، ويكتب لكم وصفة، فتخرجون وتمزّقونها وترمونها بعيداً! كم هذا الأمر عقلاني؟ يجب ألّا نفعل ما يؤدي إلى تطبيق الخطة بنسبة 35 بالمئة، بل يجب أن تُطبّق بنسبة 100 بالمئة. حسناً، إذا كان هناك بعض التقصير -ولدينا تقصيرات عادةً- ليكن بنسبة 95 أو 90 بالمئة، ولكن يجب تطبيق الخطّة. تابعوا هذا الأمر. حسناً، تُحدّث عن هذا الأمر في كلمة السيد قاليباف أيضاً، ولكن عليكم أن تبادروا جدّياً. الخطّة تحتاج إلى قانون، ويحتاج تطبيق كلّ فقرة منها إلى قانون. ابحثوا وحيثما تلاحظون وجود نقص وحاجة إلى قانون في مكان ما، لتُشرّع القوانين بصورة صحيحة، إن شاء الله.
القضيّة الثانية هي قضيّة تنقيح القوانين. لقد ناقشت -أنا العبد- بصورة متكرّرة قضيّة تنقيح القوانين، وتحدّثت، وفي الخارج أيضاً، عرض عليّ السادة -السيد قاليباف وزملاؤه- صفحة تتضمّن الأعمال التي تُنجز من أجل تنقيح القوانين. من ضمنها، على سبيل المثال، استخرجوا القوانين غير السارية في مجال البيئة ودوّنوها هنا. استخرجوا القوانين غير السارية في مجالات عدّة وكتبوها هنا [في هذه الصفحة]. أخيراً، ينوون الاستفادة من برامج الذكاء الاصطناعي والأدوات الإلكترونية لإنجاز هذه المهمة، وقد شُرح ذلك لي. قلت للإخوة الذين كانوا يشرحون: إنّ هذه الأمور كلها ما هي إلّا «مقدّمات» لتنقيح القوانين، وليست هي التنقيح نفسه. إذا وظّفتم هذه المقدّمات على نحو صحيح ودخلتم في جوهر المسألة، فعندها يتحقق التنقيح.
لقد وصلني تقرير -برغم أنّ السيد قاليباف يناقش دقته ويقول إن معدّيه ربما لا علم لهم- مفاده أنّه من بين خمسين عنواناً خُصّصت لتنقيح القوانين، أُقرّ قانون واحد فقط، وبقيت تسعة وأربعون قانوناً! هذا ما ورد في تقريرنا، ونأمل أن يكون غير دقيق؛ وقد أكّد هو أنّه ليس دقيقاً، ونتمنّى أن يكون كذلك، إن شاء الله. لكن إن صحّ هذا التقرير، فهو غير مقبول. إنّ تنقيح القوانين مهم جداً، والفوائد التي ذكرها جنابه[8] في هذا التقرير كانت حاضرة أيضاً في أذهاننا، ولذلك أكّدناها مراراً.
القضية الثالثة هي قضيّة حضور النواب. لقد قلتُ لهم ذات مرة في لقاء ضمّ نواب إحدى الدورات السابقة -وإن كنت لا أحبّ تكرار هذا القول في شأن المجلس الحالي -: حين أُشاهد وقائع الجلسة العامة للمجلس عبر شاشة التلفاز، ينتابني شعور بالخجل أمام الناس؛ لأن كثيراً من المقاعد شاغرة[9]. هذا أمر مهم، فالحضور في قاعة المجلس وفي اجتماعات اللجان، أمر ضروري، هذا أمر. الأمر الثاني هو الاستعداد؛ أعني بذلك المطالعة المسبقة. رحم الله المرحوم الشيخ أختري[10]! عندما كان نائباً، أخبرني أنه يخصص -على ما أذكر، قال ساعات عدّة- للدراسة قبل انعقاد المجلس. كان يقول: بالنسبة إلى القانون الذي سيُطرح اليوم، أجلس لساعات أدرسه وأحلل جوانبه، أو أناقشه مع المختصين إن لزم الأمر. هكذا يجب أن يكون الأمر؛ فالمجلس هو العمل الأساسي للنائب. إنه ليس مجرد عمل ثانوي يضاف إلى مهمات أخرى؛ بل هو العمل الأساسي للنائب في هذه السنوات الأربع. هذا هو جوهر عملهم؛ لذا يجب دخول اللجان وقاعة المجلس باستعداد كامل وبعد دراسة [وافية]. هذه توصية أخرى.
ثمّة توصية أخرى تتعلق بمسألة التعاون مع الحكومة. حسناً، للتعاون مفهوم واسع ونطاق كبير. أحد أشكال التعاون مع الحكومة هو تجنّب إشغال المسؤولين الحكوميين بكثرة الأسئلة أو كثرة استدعائهم إلى المجلس. المسؤولون الحكوميون -ليس فقط هذه الحكومة؛ صحيح أنّ هذه الحكومة قد اشتكت لي، ولكن الحكومات السابقة اشتكت أكثر بكثير- قدَّموا لنا إحصائيات بأن عدداً كبيراً جداً من الأسئلة طُرح في مدة معينة! عدد كبير جداً؛ في حين أن هذه الأسئلة كلها ليست ضرورية، والاستدعاءات كلها ليست ضرورية. أن نستدعي الوزير إلى اللجنة ويُشغل وقته لساعتين أو ثلاث ساعات أو أكثر. قللوا من هذه الأمور قدر الإمكان؛ فهذا أحد مصاديق التعاون مع الحكومة؛ الاكتفاء بالحد الأدنى. أو هذا التحقيق والتقصّي الذي يُجرى أحياناً، والذي يُعد جزءاً من إشراف المجلس؛ نعم، للحق والإنصاف، المجلس لديه الحق في التحقيق والتقصي، ولكن التساؤل يكمن في: أين يحدث ذلك؟ بأي نهج؟ وما الدافع وراءه؟ ففي بعض الأحيان، يقدم لنا مصدر رسمي موثوق تقريراً عن جهة معينة، فنضطر إلى التحقيق والتقصّي؛ وفي أحيان أخرى، لا يكون هناك مصدر موثوق بذلك القدر، ويكون التقرير قد وصل من مكان ما؛ هنا، فيُحرج المجلس وتلك الجهة. لذا، توصيتنا الأخرى هي أن تقللوا قدر الإمكان من هذا التحقيق والتقصّي والأسئلة والاستدعاءات وما شابهها، وأن تقتصروا على الحد الضروري. طبعاً، أنا أؤمن بهذا الحق للمجلس بجدية، ولكن في الحد الضروري؛ ينبغي ألّا يحدث أكثر من الحد الضروري.
مسألة أخرى هي مشاريع القوانين الاقتصادية، وقد أوصيت المجلس بهذا الأمر مرات عدّة. يجب أن يكون التدخل في مشاريع القوانين الاقتصادية محدوداً إذ ينبغي ألا يُعدَّل فيها كثيراً. مشروع القانون الاقتصادي يبدأ وينتهي من نقطتين واضحتين، وهو مبني على أسس محددة، وله هيكله وإطاره، فإنْ أخضعتموه لتعديلات مفرطة أفقدَته هذا الإطار، فسيفقد فاعليّته.
عندئذ، عندما يُطبق، لا يحقق النتائج المرجوة، وتصبح المسؤوليات مبهمة. الحكومة تقول: لو أن المجلس أعاد لي المشروع الذي قدمته ووافق عليه، لكان قد أتى بنتائج. لو أن المجلسَ قد أعاد إليَّ المشروعَ الذي قدَّمتُه موافقاً عليه، لأثمرَ نتائجَ مرجُوَّة. هكذا تُلقى تبعةُ الفشلِ على عاتقِ المجلسِ، فيردُّ المجلسُ بأسلوبٍ مغايرٍ! هذا لا يجدي نفعاً. في تقديري، ينبغي أن يقلَّ التدخل في مشاريع القوانين الاقتصادية إلى أقصى حدٍ ممكنٍ.
أما في ما يخص الموازنة العامة، فيؤكد المسؤولون الحكوميون الموقّرون عزمهم إعداد موازنة العام المقبل على أساس «تشغيلي»، وقد تكرر هذا الادعاء سابقاً إذ قيل «موازنة تشغيلية»، ليتضح لاحقاً أنها ليست موازنة تشغيلية، بل إنفاقية بحتة. الموازنة التشغيلية تعني أن تُقابل كلَّ إنفاق فائدةٌ ملموسة، لا مجرد مصاريف. هذه هي الموازنة التشغيلية. عند تقديمها للمجلس، ينبغي الحفاظ على إطارها الأساسي؛ لا مانع من التعديل عند الضرورة، ولكن دون المساس بهيكلها العام.
ثانياً، إحدى المشكلات التي واجهناها هي إدراج موارد غير واقعية في الموازنة. في حين أن النفقات تكون في الغالب واقعية ونادراً ما تنحرف، ولكن الموارد والإيرادات غالباً ما تكون غير واقعية. نرى ذلك في موازنة السنوات المختلفة: يجب أن تحصل الحكومة على هذا القدر من الإيرادات من بيع كذا وكذا!، في حين أن هذا البيع ليس ممكناً ولا موجوداً في الأساس. لذلك، يجب أن تكون الموارد في الموازنة واقعية؛ هذه توصية أخرى قدمناها.
النقطة الأخيرة، وقد سبق لي أن ذكرتها كما ذُكرت مراراً من قبل، هي أنّ المجلس يجب أن يتمتع بنهج ثوري. المجلس هو مجلس الثورة؛ ينبغي للمجلس أن يسلك نهجاً ثورياً، ولكن احرصوا على ألّا يحدث الخطأ في فهم التوجّه الثوري، فالروح الثورية ليست إثارة للضجيج. الروح الثورية تعني التحرك نحو المُثل العليا. هذا هو الأساس الأول لها. أي، يجب ألّا ننسى لماذا قامت الثورة. أيها الشباب، كثير منكم -وبحمد الله، المجلس مجلسٌ شاب نسبياً- لم يكن في مرحلة الثورة ولا في مرحلة النضال ولم يشهد النهضة. ما كانت أهداف النهضة؟ حسناً، تأملوا بيانات الإمام، وستتجلى لكم الحقيقة. تدبروا شعارات الثورة، تدركوا ذلك. أمعنوا النظر في المثل العليا التي قامت عليها الثورة، تعرفوا ذلك. يجب ألّا يحدث تجاوز لمُثل الثورة العليا، فهذا هو الأساس الأول للثورية. ثمّ الشجاعة في التعبير عن الرأي؛ هذه هي الروح الثورية. أي أن يُعبّر عن الرأي بوضوح وصراحة، وبأسلوب صحيح ومحترم.
أحد أركان الروح الثورية هو إقصاء الأغراض الشخصية تماماً في الحسابات العملية. على سبيل المثال، قد يُعجب المرء بشخص ما أو لا يرتاح لآخر من حيث السلوك أو الذوق الشخصي؛ ينبغي اجتناب ذلك. في الحسابات التي تجرونها من أجل العمل، لا بدّ من تجاوز الأمور والأذواق الشخصية والفردية وما إلى ذلك؛ هذه هي الروح الثورية. كذلك استحضار الله، وأن يرى الإنسان نفسه دائماً في محضر الله. الإمام (رضوان الله عليه) قال بتلك العبارة المختصرة إنّ «العالَم محضر الله»؛ «محضر» تعني مكان الحضور. إنّ عالَم الوجود هذا كلّه هو مكان لحضور الله المتعالي. الآن ونحن نتحدّث أنا وإيّاكم، فإننا نتحدّث في محضر الله؛ فعلينا أن ننتبه إلى ما نقول، وأن نضع رضى الله نُصب أعيننا، ونلتفت إلى ما يريده الله المتعالي منا ويكون مدعاة لمرضاة الله؛ هذه هي الروح الثورية.
ثمّ أيضاً، في مواقف الثورة، التعبير والتصريح واتخاذ القرار بحزم وشجاعة وصراحة. عندما يصدر في مكان ما من العالم قولٌ طائش أو ينتشر اتهامٌ ضدّ الجمهورية الإسلامية عالمياً، على المجلس أن يردّ على نحو منسجم وقوي وحازم. أحياناً يكون من الضروري أن يردّ كامل أعضاء المجلس، وأحياناً يكفي أن يتصدى نائب أو اثنان، أو مثلاً النائب عضو اللجنة السياسية المعنيّ يجب أن يتخذ موقفاً ويردّ بلا تساهل. هذه هي الثورية. أمّا أن يتحول استخدام منبر المجلس الموقّر بطريقة تؤدي إلى إهانة أو ما شابه، فذلك أمر غير محبّذ.
على كلّ حال، نسأل الله المتعالي أن يمنّ عليكم جميعاً بالتوفيق والهداية، ونأمل أن تُؤجروا على ما تبذلونه من جهود، وأن يعينكم الله المتعالي على إتمام هذه الدورة بأفضل وجه، وأن تكونوا، إن شاء الله، حاضرين حيثما ينبغي أن تكونوا حاضرين، كما نسأله أن يرزقكم أعماراً مديدة ومحفوفة بالتوفيق، ومقرونة بالخدمة، إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] في مستهل هذا اللقاء، قدّم السيد محمد باقر قاليباف (رئيس «مجلس الشورى الإسلامي») تقريراً.
[2] «الياسا» أو «الياسق» قانون صدر عام 1206م وضعه جنكيزخان، وهو يشتمل على جانب كبير من الأحكام التي تتعلق بالجزاء والعقاب من أجل نشر الأمن في أرجاء الإمبراطورية المغولية. ورد في اللفظ العربي بتسميات متعددة في المصارد العربية والفارسية: ياسا، ياسه، يساق، ياساق، يسق.
[3] «صحيفة الإمام» (النسخة الفارسية)، ج12، ص345؛ خطابه في نواب «مجلس الشورى الإسلامي»، بتاريخ 25/05/1980م.
[4] سورة التوبة، الآية 108.
[5] برصيصا هو راهب من بني إسرائيل، وكان من أعبد أهل زمانه وأزهدهم، وظلّ يتعبد لله سنيناً طوال في صومعته لا يعصي الله شيئاً، فزيّن له الشيطان الزنا بامرأة فحملت منه فعمد إليها فقتلها، ثم أغواه الشيطان فسجد للشيطان ومات على ذلك.
[6] سورة الأعراف ، الآية 117.
[7] الخطّة التنمويّة الخماسية السابعة لتقدّم جمهوريّة إيران الإسلاميّة؛ راجع: إبلاغ السياسات العامّة للخطّة التنمويّة السابعة مع أولويّة التقدم الاقتصادي المترافق مع العدالة، بتاريخ 12/09/2022م.
[8] رئيس «مجلس الشورى الإسلامي».
[9] كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في لقاء مع نواب «مجلس الشورى الإسلامي»، بتاريخ 16/06/2004م.
[10] حجة الإسلام والمسلمين عباس علي أختري (نائب عن الدورة الأولى والسابعة في «مجلس الشورى الإسلامي»).