بسم الله الرحمن الرحيم
الحياة باقية، وقد استمرت بعد العصور الاولى، والعصور الجيولوجية، وظهرت قارات وغرقت أخرى، وان المحيطات العتيقة، والبحار الضحلة، لتزخر كلها بالحياة.
وقد مضت الحياة قدما حيث تراجع كل عصر من عصور الجليد، وقاومت كل تقدم للمناطق الباردة قوية مظفرة. وقد ارتفعت الجبال من الأرض وانشق السطح واهتز مع كل زلزال. وتفتتت قمم الجبال الشاهقة خلال ملايين السنين، وبان أثر ذلك في طبقاتٍ بعضها فوق بعض، وغمر ماء البحار قارات، وصار طمي الأراضي القديمة يغطي قاع كل محيط وكأنه كفن، ولكن استمرت الحياة بعد ذلك كله.
والحياة تستخدم ذرات الارض، وتخلق عجائب جديدة طبقا لقوانين الكون، ولكنها في تقدمها تخلف وراءها كل صغيرة لمستها، وان (صخور دوفر البيضاء)، المكونة من الطباشير والجير وحجر الصوان، لتقص علينا قصة الحيوانات الرخوة والنباتات المائية والمخلوقات البحرية التي لا عدد لها في خلال الدهور. وان الغابات الحية، والفحم والزيت والغاز، لتدلنا على نشاط العلم القديم الذي تلقت فيه الحياة طاقة الشمس، واحالها الإنسان ناراً. وان هذه التركة لتفوق في قيمتها كل ثروة اخرى، لانها رفعت الإنسان عن مرتبة الحيوان. ومن بين أتون بدايات القشرة الارضية، حيث كانت كل مادة تستحيل جمرة أو رمادا، استخدمت الحياة طاقة الشمس، ومزقت ذرات الماء المتحدة، وفصلت الكربون البليد من الأوكسجين وحولته إلى ثاني اوكسيد الكربون، وخزنت في الأرض وفوق سطحها، الموارد الوحيدة النار. ومن النار قام المثوى وجميع أدوات المدنية، وكل ذلك لان الحياة تلقفت وحفظت كل القوى التي أطلقتها الشمس.
وقد تغلبت الحياة على الظروف المتغايرة للماء والأرض والهواء، ولا تزال ماضية في طريقها في شكل نبات وحيوان. ومن الأميبا صعودا إلى السمك والحشرات وذوات الثدي وطيور الجو، أو نزولا إلى الجرثومة والميكروب والبكتريا وكذا النباتات التي لا حصر لها، وسواء في شكل خلية أو سمكة قرش، أو عنكبوت أو ديناصور، أو انسان، أو زرع – فان الحياة تهيمن على العناصر، وترغمها على حل تركيباتها، والاتحاد من جديد على اساس صلات اخرى، والحياة تاتي بمخلوقات في صور تختلف عن صور السلف، وتمنح هذه الصور القدرة على تكرار انفسها على مدى أجيال لا حد لها.
والحياة شديدة الخصب في توالدها، حتى انها تعول نفسها، وتطعم من فائضها، ومع ذلك تضبط جميع الكائنات الحية، لتمنع أي مخلوق من مخلوقاتها من ان يطغى على العالم، فالجراد مثلا لو بقي دون ضابط لاستطاع في بضع سنين أن يلتهم كل زرع اخضر، وعندئذ تنتهي حياة كل حيوان فوق الارض.
والحياة فنانة ماهرة، ترسم كل ورقة في كل شجرة، وتلون الازهار، والتفاح، والغابات، وريش عصافير الجنة. وهي موسيقية، علمت كل طير كيف يشدو بأغاني غرامه، وعلمت الحشرات كيف ينادي بعضها بعضا بموسيقى اصواتها المتعددة، وهذه الأصوات، سواء أكانت نقيق الضفدعة في الربيع، ام نقنقة الدجاجة بين صغارها، أم زئير الاسد في صولته، ام نهيم الفيل، تشمل كل (برج النغم) للاحاسيس، ولا يفوقها سوى صوت الإنسان في مرونته المدهشة.
والحياة مهندسة، فهي التي وضعت تصميم سيقان الجندب والبرغوث، والعضلات والروافع، والمفاصل، والقلب الذي يخفق دون كلل، ونظام الاعصاب الكهربائية لكل حيوان، والدورة الدموية الكاملة لكل كائن حي. وهي تصمم الهندباء البرية ثم تزخرف بذورها في (شرابات) يحملها كل نسيم. والحياة تشكل الازهار، وترغم الحشرات على ان تحمل اللقاح من عضو التذكير إلى عضو التأنيث.
والحياة كيمائية، فهي التي تهب المذاق للفواكه والتوابل وتهب العطر للورد.
والحياة تهب الضوء البارد (للذباب المنير) ليعاونه على بث غرامه ليلا.. وكيميا الحياة فائقة، لانها لا تقنع باستخدام اشعة الشمس لتحويل الماء وحامض الكربون إلى خشب وسكر، بل انها إذ تفعل ذلك تطلق الأوكسجين كي تتنسم الحيوانات نسيم الحياة.
والحياة مؤرخة، فقد كتبت تاريخها صفحة صفحة، تاركة سجلها في الصخور، وهو تاريخ كتبته بنفسها ولا ينتظر إلا الترجمة.
والحياة تمنح مخلوقاتها الفرح لكونها حية، فالحمل يرتع ويقفز، وهو لا يدري لماذا.
والحياة تلون عيني الطفل وتمنحهما بريقا، وتصبغ خديه، وتبعث بالضحك إلى شفتيه.
والحياة تقي مخلوقاتها بوفرة الغذاء في البيض، وتعد كثيرا من صغارها للحياة الناشطة بعد الميلاد، أو انها تخزن الغذاء تأهبا لصغارها بوحي أمومة لا شعورية.
والحياة تنتج الحياة، إذ تعطى اللبن لسد الحاجات العاجلة.
والحياة قد جاءت للعالم بحب الأم لولدها، وجاءت للإنسان بالمثوى والاسرة، وبحب الوطن الذي يدافع عنه حتى الموت.
والحياة تحمي نفسها: بالحيطة في استخدام الالوان لمساعدة مخلوقاتها أو إخفائهم، وباعداد الساقين للجري، ومنح الاسلحة للدفاع، من القرون والاشداق والمخالب، وكذا السمع والبصر والشم، والاجنحة للتحليق في الجو، وهي تهب قناعا خفيا لبعض الحشرات التي لا يحدث منها أي أذى، لكي تقيها كل هجوم.
اما المادة فانها لم تفعل قط أكثر مما تمليه قوانينها. فالذرات إنما تطيع قواعد الالفة الكيميائية وقوة الجاذبية وتاثيرات درجة الحرارة، والدوافع الكهربائية.
والمادة ليست مبتكِرة، اما الحياة فانها تأتي إلى الوجود بتصميمات وتكوينات جديدة، رائعة.
وبدون الحياة كان سطح الأرض يصير صحراء شاسعة مجدبة، وفضاء من ماء غير نافع.
وبدون الحياة تكون المادة جامدة، ومتى تركتها الحياة عادت مجرد مادة، ولكن تبقى لها القدرة على مواصلة حياة مخلوقات اخرى، وبذا تخلد الحياة في الكائنات الحية.
واما ما هي الحياة، فذلك ما لم يصل إليه إنسان بعد، فليس للحياة وزن ولا حجم.
والحياة ذات قوة، لأن الجذر النامي يقدر ان يشق صخرة، والحياة تنشئ شجرة عظيمة وتحفظها من الجاذبية مدة ألف سنة أو تزيد. وهي ترفع اطنان الماء من الأرض كل يوم، وتنشئ ورق الشجر والفواكه. وأقدم كائن حي هو شجرة يرجع عهدها إلى خمسة آلاف سنة، وهي لا تعدو كونها لحظة في الأبدية. والحياة الفردية عابرة. والحياة هي المسئولة عن كل حركة لكل كائن حي. وكل هذه الطاقة تقريبا تاتي عن طريق الشمس.
والحياة لا تقدر ان تستمر في المادة التي تكون، في حدود ضيقة، بالغة الحرارة أو البرودة، لان هاتين تقضيان على ظروف المادة التي تتوقف عليها الحياة. فان الحياة لم تظهر على هذه الأرض إلا حين كانت الظروف موائمة لها، وستقطع نشاطها حين يحدث تغيير ملحوظ في تلك الظروف غير ان الظروف الحالية قد وجدت واستمرت منذ ثلثمائة مليون سنة على الاقل.
والطبيعة لم تخلق الحياة، فان الصخور التي حرقتها النار، والبحار الحالية من الملح، لم تتوافر فيها الشروط اللازمة. وهل احتضنت الحياة هذه الأرض والكرات الارضية الأخرى في انتظار فرصة يزود فيها الكون بقوة الادراك؟ ان الجاذبية هي من خواص المادة. والكهرباء اصبحنا نعتقد انها المادة نفسها، وأشعة الشمس والنجوم يمكن انحرافها بالجاذبية، ويبدو انها وثيقة الصلة بها.
والحياة منتظمة، على وتيرة واحدة، في بذل جهدها لإحياء المادة. وهي لا تعرف فرحا ولا حزنا، ولا تميز بين أحد وأحد. ومع هذا فالحياة هي الاساس، وهي الوسيلة الوحيدة التي يمكن بها فهم المادة.
والحياة هي المصدر الوحيد للوعي والشعور، وهي وحدها التي تجعلنا ندرك صنع الله ويبهرنا جماله، وان كانت أعيننا لا تزال فوقها غشاوة.
ان الحياة ليست إلا أداة تخدم مقاصد الخالق سبحانه وعلى هذا فالحياة باقية كمشيئته تعالى!
قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿والله خلَقكمْ منْ ترابٍ ثمّ من نُطفةٍ ثمّ جعلكُمْ أزواجا * وما تحملُ من أنثى ولا تَضعُ إلا بعلْمه * وما يُعمر من معمرٍ ولا ينقصُ من عمرِهِ إلا في كتابٍ إن ذلك على الله يسيرٌ * وما يستَوي البَحران هذا عَذبٌ فراتٌ سائغ شرابهُ وهذا ملحٌ أجاجٌ ومن كلّ تأكلوُنَ لحماً طريّا وتَستخرِجونَ حلية تلبِسونها وترى الفُلك فيه مواخرَ، لتبتغوا من فضلهِ ولعلّكم تَشْكرونَ﴾1.
* كريسى موريسون - بتصرّف
1- فاطر :11-12