بسم الله الرحمن الرحيم
الأمل بين الذم والمدح
إن "طول الأمل" من الرذائل الأخلاقية الّتي تجر الإنسان إلى ارتكاب أنواع الذنوب والخطايا وتبعده عن الله تعالى وتسلك به في خط الشيطان. وبالتالي يترتب على ذلك الكثير من العواقب الوخيمة. وهذا لا يعني أن الأمل رذيلة بالمطلق، فإنّ أصل "الأمل" له دور مهم في إدامة حركة الحياة والتطور البشري في الأبعاد المادية والمعنوية. فإذا سُلب الأمل- مثلاً- من قلب "الأم" فإنّها لا تجد دافعاً لإرضاع طفلها وتحمل أنواع المشقة والألم بتربيته وتنشئته كما ورد هذا المعنى في الحديث النبوي الشريف: "الأمل رَحْمَةٌ لأمتي وَلَوْلاَ الأمل ما أرضعت وَالِدَةٌ وَلَدَهَا وَلاَ غَرَسَ غَارِسٌ شَجَرَهَا"1.
وإن من يعلم مثلاً بأن هذا اليوم هو آخر يوم من حياته أو أنّه سيموت بعد أيّام قليلة ويغادر الدنيا فإنه سيترك جميع ما في يده من أعمال ونشاطات في دائرة المعيشة والعلاقات الاجتماعية..
و نقرأ هذا المعنى في ما ورد عن المسيح عليه السلام: "انه كان جالساً يوماً في مكان وشاهد شيخاً كبيراً يحرث الأرض بمسحاته ويعمل على سقي الأرض وزراعتها، فطلب المسيح عليه السلام من الله تعالى أن يسلب منه الأمل في الحياة: اللهم انزع منه الأمل، فوضع الشيخ المسحاة واضطجع فلبث ساعة فقال عيسى اللّهم أردد إليه الأمل فقام وجعل يعمل فسأله عيسى عن ذلك فقال بينما أنا أعمل إذ قالت لي نفسي إلى متى تعمل وأنت شيخ كبير فألقيت المسحاة واضطجعت ثمّ قالت لي نفسي والله لا بدّ لك من عيش ما بقيت فقمت إلى مسحاتي".
بما أنّ طول الأمل له تأثير مخرب جداً على حياة الإنسان المعنوية والأخلاقية وحتّى الدنيوية والمادية أيضاً، فإنّ الروايات الإسلامية قد ذمت هذه الخصلة بتعبيرات مختلفة، وعلى سبيل المثال نشير إلى نماذج من هذه الروايات:
ـ ما ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: "أربعة مِنَ الشَّقَاءِ جُمُودُ الْعَيْنِ وقسوة الْقَلْبِ وَطُولُ الأمل وَالْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا"2.
ـ وعن الإمام علي عليه السلام: "َمَنْ أطال أمله سَاءَ عَمَلُهُ"3.
ـ وعنه عليه السلام في الخطبة قال: "إنما هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِطُولِ آمَالِهِمْ وَتَغَيُّبِ آجَالِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ الْمَوْعُودُ الّذي تُرَدُّ عَنْهُ الْمَعْذِرَةُ وَتُرْفَعُ عَنْهُ التَّوْبَةُ"، وعنه عليه السلام أنّه قال: "الأماني تُعْمي عُيُونَ الْبَصَائِرِ"4.
دوافع طول الأمل وأسبابه
1-الجهل وعدم الإطلاع على حال الدنيا: وما فيها من التغيرات والإبتلاءات وعناصر التضاد في حركة الحياة، وكذلك الجهل بقدرة الله ولطفه وثوابه العظيم في الآخرة، فمجموع هذه الجهالات تدفع الإنسان إلى منزلقات طول الأمل والتمنيات العريضة. فإن الإنسان وبسبب جهله لنفسه وعدم الالتفات إلى هذه الحقيقة وهي أنّه قد يحين أجله في كلّ لحظة ويرحل عن هذه الدنيا، فقد تعترض جلطة من الدم في شرايين قلبه أو دماغه فيُصاب بالسكتة القلبية أو الدماغية أو يُصاب بزلزلة أو حريق أو حادثة سيارة وأمثال ذلك ممّا يُنهي حياته الدنيوية، نعم وبسبب جهله بهذه الاُمور فإنه يتورط في شراك الآمال والتمنيات البعيدة ويحسب أنّ عمره طويلٌ جداً ثمّ يحيط نفسه بطائفة من التصورات الواهية والآمال البعيدة الّتي لا تسمح له بأن يفكر بالواقع وبالحقائق المحيطة به.
وهنا يقول سلمان الفارسي التلميذ الكبير لمدرسة الوحي: "ثَلاَثٌ أعجبتني حَتَّى أضحكتني: مُؤَمِّلُ الدُّنْيَا وَالْمَوْتُ يَطْلِبُهُ، وَغَافِلٌ لَيْسَ بَمَغْفُول عَنْهُ، وَضَاحِكٌ بملء فِيهِ لاَ يَدْرِي أساخط رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ أم رَاضٍ عَنْهُ"5.
وفي الروايات الإسلامية إشارات واضحة الى هذا المعنى حيث يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "مَنْ أيقن اَنَّهُ يُفَارِقُ الأحباب وَيَسْكُنُ التُّرَابَ وَيُوَاجِهُ الْحِسَابَ وَيَسْتَغْنِي عَمَّا خَلَّفَ، ويَفْتَقِرُ إلى مَا قَدَّمَ كَانَ حَرِيّاً بِقَصْرِ الأمل وَطُولِ الْعَمَلِ"6.
2-الجهل بالآخرة والثواب العظيم: الّذي أعدّه الله للمؤمنين سبباً في أن يتصور الإنسان الخلود لهذه الحياة الدنيا ويغرق في الأوهام والتمنيات والآمال الدنيوية وأحياناً يتسبب جهله بالسعادة الكامنة في الزهد والتحرر من أسر الشهوات والنوازع الدنيوية إلى أن يُحرق نفسه بنار طول الأمل.
وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: "اِسْتَجْلِبْ حَلاَوَةَ الزَّهَادَةِ بِقَصْرِ الاَْمَلِ".
3-الغفلة عن قدرة الله: أحياناً يغفل الإنسان عن قدرة الله تعالى وينسى هذه الحقيقة الحاسمة في واقع الحياة أو يكون جاهلاً بها ولا يعلم أنّ الله تعالى ومنذ انعقاد نطفته في رحم أمه فإنه بعين الله ومحطُّ عنايته ورعايته في كلّ أموره في حين انه كان يعيش الضعف بمنتهاه ولا تصل إليه يد أحد من الناس لتُعينه وتوصل إليه رزقه في ظلمات الرحم، وتستمر عناية الله به إلى آخر حياته، وكذلك حال أولاده إذا كانوا يسيرون في خط الإيمان والصلاح فإنّ الله تعالى لا يتركهم لوحدهم، وإن كانوا من أعداء الله فلا مسوّغ لأن يتعب الإنسان نفسه في سبيلهم وخدمتهم.
إن جميع حالات الجهل هذه "جهل الإنسان بنفسه، جهله بالدنيا، جهله بقدرة الله تعالى، جهله بالآخرة ونعيمها الخالد" يتسبب في أن يعيش الإنسان الحيرة والضياع في صحراء الحياة المحرقة أسير الآمال والتمنيات العريضة.
الآثار السلبية لطول الأمل
إن للآمال والتمنيات آثاراً ونتائج مدمّرة كثيرة في حياة الإنسان المعنوية والمادية منها
1ـ أنه مصدر الكثير من الذنوب: إن أحد أسوأ الآثار السلبية لطول الأمل والتمنيات العريضة هي أنّها تدعو الإنسان للتورط بأنواع الذنوب لأن الحصول على متعلقات هذه الآمال والتمنيات لا تتسنّى عادة إلاّ بطرق غير مشروعة، وعليه فإنّ من يعيش هذه الرذيلة الأخلاقية يجد نفسه مضطراً إلى الغض عن الكثير من مسائل الحلال والحرام في سبيل تحقيق أمنياته وأن لا يُراعي في ذلك حقوق الآخرين ولا ممنوعات الشريعة المقدسة، فيتحرك من موقع غصب حقوق الناس، أكل أموال اليتامى، التطفيف في الميزان، أكل الربا، الرشوة وأمثال ذلك.
ولهذا السبب فقد ورد الحديث المعروف في غرر الحكم: "مَنْ طَالَ اَمَلُهُ سَاءَ عَمَلُهُ"7. وجاء في النقطة المقابلة لذلك: "مَنْ قَصَّرَ اَمَلُهُ حَسُنَ عَمَلُهُ"..
2 ـ قسوة القلب: ورد في الحديث الشريف أنّ الله تعالى خاطب موسى وقال: "َا مُوسَى لاَ تُطَوِّلْ فِي الدُّنْيَا اَمَلَكَ فَيَقْسُو قَلْبَكَ، وَالْقَاسِي الْقَلْبِ مِنِّي بَعِيدٌ"8.
ونفس هذا المعنى ورد في حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: "مَنْ يَأْمُلُ اَنْ يَعِيشَ اَبَداً يَقْسُو قَلْبُهُ وَيَرْغَبُ فِي الدُّنْيَا".
3ـ نسيان الأجل: وهذا الأثر السلبي لا يحتاج إلى مزيد شرح وبسط، ويمكن فهمه بوضوح على مستوى الأشخاص الّذين يعيشون هذه الرذيلة الأخلاقية حيث لا تجدهم يذكرون الموت أبداً ويفكرون بالآخرة بل يعيشون الغفلة التامّة عن هذه الأمور المصيرية. وقد جاء في الحديث عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وكذلك عن أمير المؤمنين عليه السلام القول: "طُولُ الأمل يُنْسِي الآخرة". وورد عنه أيضاً- "أكثر النَّاسِ أملاً اَقَلُّهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْراً"9.
4 ـ الذلّة في الحياة: إنّ الأشخاص الّذين يعيشون الآمال الطويلة مضافاً إلى كدحهم وتعبهم الدائم فإنّهم يعيشون في شخصيّتهم الإنسانية الشعور بالذلّة والحقارة حيث يضطرون إلى سحق حيثيّتهم لغرض التوصل إلى هدفهم الموهوم والخيالي ويذعنون ويخضعون أمام كلّ أحد ويمدّون أيديهم لأيّ شخص كما ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ذُلُّ الرِّجَالِ فِي خَيْبَةِ الآمال"10.
5 ـ عدم إدراك الحقائق: إنّ الآمال والتمنيات البعيدة حالها حال السراب الّذي يخدع الظمآن في الصحراء المحرقة ويجرّه إليه ليعيش الظمأ والعطش أكثر دون أن يصل إلى مقصوده. فهذه الآمال والتمنيات تُظهر الاُمور الواقعية بأقنعة مزيّفة ولذلك لا يُدرك الإنسان أين يذهب وإلى أين يتجّه. عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله "اَلاَْمَانِيُّ تُعْمِي عُيُونَ الْبَصَائِرِ"11.
علاج طول الأمل
1- ذكر الموت والآخرة: إنّ من أقوى العوامل المؤثرة في تقصير الأمل في الدنيا هو ذكر الموت الّذي يُزيل عن بصيرة الإنسان حجُب الغفلة: ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة في نهج البلاغة قوله: "ألا فَاذْكُرُوا هَادِمَ اللَّذَّاتِ، وَمُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ، وَقَاطِعَ الأمنيات".
وعن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: "عُدَّ نَفْسَكَ فِي أصحاب الْقُبُورِ"12.
كما يجب على الإنسان أن يعلم أنه كائن مُعرّض للتلف والموت وأنّ الفاصلة بينه وبين الموت قليلة جدّاً، فهذا اليوم يعيش السلامة والصحّة والنشاط ولكن قد نجده غداً وهو متورط بأنواع الأمراض الصعبة أو المصائب المحزنة، واليوم هو قوي وغني ، وغداً يمكن أن يبدو ضعيفاً ومن أفقر الناس، والنماذج على ذلك كثيرة في صفحات تاريخ البشرية.
وعليه أن يتدبّر ويتأمل هذه الحقيقة، وهي أننا نعتقد بالمعاد واليوم الآخر والحساب الإلهي في عرصات المحشر والثواب والعقاب على الأعمال والأفعال في الدنيا وأنّ هذا العالم ما هو إلاّ قنطرة وجسر يعبر عليه الإنسان إلى تلك الحياة الخالدة فعليه أن يتزوّد من هذه الحياة ولا يتصور أنّها حياة خالدة وأنها هي الأصل والهدف من الخلقة.
2-معرفة حقيقة الدنيا: ومن جهة أخرى يجب أن يتفكر في اهتزاز الدنيا وتغيّرها الدائم وعدم اعتبارها. وكذلك يتفكّر في أنّ الحرص على جمع الأموال والثروات واكتنازها لغرض تحقيق تلك الآمال والتمنيات الواسعة في الحياة الدنيا لا يجلب له السعادة أبداً، بل سيزيده شقاءاً ومحنةً أيضاً، وأنّ أفضل الطرق للوصول لهذا الهدف هو ما ورد في الحديث النبوي المعروف: "خُذْ مِنْ دُنْيَاكَ لآخرتك وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ، وَمِنْ صِحَّتِكَ لِسُقْمِكَ، فَاِنّكَ لاَ تَدْرِي مَا اسْمُكَ غَداً"13.
3-معرفة الآثار السلبية المترتبة عليه: والطريق الآخر للتصدي لطول الأمل وتضعيفه في واقع النفس هو مطالعة الآثار السلبية المترتبة عليه ومعرفة أنّ طول الأمل يُعد مصدراً للكثير من الذنوب والرذائل الأخلاقية، ومن الأسباب المهمة لقساوة القلب ونسيان الآخرة، وأن يعيش الإنسان حياة التعب والذلّة والحرمان من النعم والمواهب الإلهية، وهي تسدل على بصيرته وعقله حجاباً سميكاً لا يدعه يرى الحقيقة من موقع الوضوح في الرؤية. كلّ ذلك يتسبب في أن يتحرّك الإنسان على مستوى التفكير الجدي في علاج هذه الحالة السلبية قبل أن يدمّر سيل الأمل بيت سعادته وبذلك يقوم بتحديد آماله وتهذيب تمنياته ليعود إلى صف العقلاء والسعداء الّذين يعيشون الأمل بشكل معقول ومنطقي.
ويقول أمير المؤمنين عليه السلام: "اِحْذَرُوا الاَْمَانِيَّ فَاِنَّهَا مَنَايَا مُحَقَّقَةٌ"14.
الآمال والتمنيات الإيجابية والبنّاءة: إنّ الآمال والتمنيات ليست بأجمعها سلبية ، لأن هذه الآمال والتمنيات إذا كانت متجهة نحو القيم الأخلاقية والمُثل الإنسانية الرفيعة، أو تصب في دائرة الخدمة الاجتماعية وتتحرّك في خطّ تكامل المجتمع وتطوره الحضاري في مراتب الكمال وتقود الإنسان إلى السعي وبذل الجهد أكثر في هذه المسائل، فلا شكّ في أنّ مثل هذه الآمال والتمنيات حتّى لو كانت طويلة فإنّها ليست فقط غير مذمومة بل من علامات الكمال الإنساني للفرد. وهذا هو ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ ا لْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾15.
وورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "اِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ الْفَقِيرَ لَيَقُولُ يَا رَبِّ ارْزُقْنِي حَتَّى اَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْبِرِّ وَوُجُوهُ الْخَيْرِ، فَاِذَا عَلِمَ اللهُ ذَلِكَ مِنْهُ بِصِدْقِ نِيَّتِهِ كَتَبَ اللهُ لَهُ مِنَ الأجر مِثْلَ مَا يَكْتُبُ لَهُ لَوْ عَمِلَهُ، اِنَّ اللهَ وَاسِعٌ كَرِيمٌ".
وكما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: "مَنْ تَمَنَّى شَيْئاً وَهُوَ للهِ عَزّ َوَجَلَّ رِضاً، لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يُعْطَاهُ".
* من إرشيف المنبر - بتصرّف
1-بحار الأنوار.
2-بحار الأنوار.
3-بحار الأنوار.
4-غرر الحكم.
5-المحجّة البيضاء.
6-بحار الأنوار.
7-بحار الأنوار.
8-ميزان الحكمة.
9-تصنيف الغرر.
10-غرر الحكم.
11-غرر الحكم.
12-بحارالأنوار.
13-بحار الأنوار.
14-تصنيف غرر الحكم.
15-الكهف:46