بسم الله الرحمن الرحيم
الحديث حول الإمامة له جوانب متعددة وجهات مختلفة، وقد تناول علماؤنا المتقدمون والمتأخرون- رضوان الله تعالى عليهم- البحث حول اثبات النص وإفحام الخصم وإقامة الأدلة المتنوعة على إثبات إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وخلافته عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أمثال الإرشاد والغدير وعبقات الأنوار والمراجعات وغيرها كثير، وكانت نتيجة هذه الجهود المتواصلة أن أصبح البحث حول صحة وتواتر حديث من أحاديث الولاية من السهولة واليسر مما لا ينكره إلا مكابر أو معاند.
والبحث الذي نريد أن نتناوله هنا هو حقيقة الإمامة وماهيتها وكنهها، وهو ليس أمرا مبتكرا في بابه، فقد تناوله الأعلام لكن بنحو مضغوط ومبعثر في ذيل تفسير بعض الآيات القرآنية، وفي شرح بعض الأحاديث الشريفة، ونسعى إلى طرح ذلك من خلال نهج واضح وأسلوب يرفع الستار عن كثير من الحقائق التي خفيت في كتب الأقدمين ويعتبرها بعض أهل العصر من العجائب والغرائب، وقبل الشروع في ذلك نقدم ذكر بعض الامور التي لها مدخلية في البحث:
أولاً: تحرير محل النزاع
يعتبر مصطلح الإمامة من الموضوعات التي كانت مثار بحث وجدل بين المتكلمين والفقهاء من الصحابة والتابعين وغيرهم منذ بدأ عصر الرسالة، وعندما يحررون محل النزاع يقال: إن الإمامة ترادف الزعامة الدنيوية، وأن البحث حول الإمامة هو البحث حول من يجب أن يتولى إدارة أمور المسلمين ومن يكون له الأمر والنهي، وبالتعبير الحديث حصر محل النزاع في ما يصطلح عليه اليوم بالفقه السياسي.
وتوسع بعض المتكلمين من الامامية بل أكثرهم في محل النزاع، وأضافوا إليه الزعامة الدينية بمعنى أنه بالإضافة إلى دور الإمام في إدارة شئون المجتمع فهو يقوم ببيان الدين والذب عنه ونشر الأحكام الشرعية، فيُعد قوله وتقريره مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي.
ونحن لا ننكر هذين الموردين - وإن كان العامة قد انكروهما وأصبح موردا للنزاع - لكن نقول أن الأمر لا ينحصر بهما، بل إن الإمامة تحمل في طياتها معنى أوسع وأكبر مما ذكره هؤلاء جميعا، ويمكننا القول أن علماءنا رضوان الله تعالى عليهم ألجأتهم ظروف التخاصم والتقية إلى ذكر ذلك كمحل للنزاع ولا يحصرون اعتقادهم بالإمامة في هذا النطاق.
فالإمامة في حقيقتها هي محور الاتصال بين الأرض والسماء، حيث أن الاتصال الغيبي بين الخالق ومخلوقه لم ولن ينقطع منذ بدء الخليقة حتى قيام الساعة، فدائما يوجد من يمثل تلك الصلة الروحية والمعنوية ومن هنا اعتبروا الإمامة امتدادا للنبوة والرسالة، فهي من تلك الجهة تؤدي نفس وظيفة النبوة في عالم الدنيا.
فإن الأدلة قائمة على ضرورة وجود حجة لله عز وجل في كل زمان، وأن الاتصال لا ينقطع بوفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، وهذا هو المقام الإلهي الذي يثبته الامامية الأثني عشر، وهو من الامور التي انفردوا بها عن بقية المذاهب حتى الاسماعيلية والزيدية، وهنا يكمن النزاع والخلاف مع المذاهب الأخرى، وتلك الحقيقة هي التي نريد إماطة اللثام عنها.
ومن الشواهد التي تؤيد ما ذكرناه: أن الأئمة في دعواهم للإمامة لم يكونوا ليقصروا حديثهم على زعامة المسلمين، بل كانوا يركزون على مقامات أكبر من ذلك ويذكرون في كلماتهم اتصالهم بالغيب، وتحديث الملك لهم، وأن علومهم من نور، وإطلاعهم على أعمال العباد، وأن ما لديهم هو علم لدني.
والجدير بالذكر أن مثل هذه الدعاوى لم تصدر عن غيرهم ممن عاصرهم أو من أتى بعدهم، بل غاية ما ادعوه هو تصديهم للزعامة الدنيوية، ومن هنا نرى بعض المنحرفين يرمون الأئمة بدعوى الألوهية والنبوة، وذلك لأن الأئمة كانوا يركزون على مسألة الاتصال بالغيب وهي أعم من النبوة والإمامة.
وفي ذيل قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُسُلِنَا﴾1 يذكر البحراني في البرهان وكذلك الطباطبائي في الميزان أن نافع كان على خط الخليفة الثاني جالسا في المسجد الحرام في موسم الحج، إذ رأى أن الناس قد تجمعوا حول شخص (وهو الإمام الباقر (عليه السلام)) فسأل هشام بن عبد الملك: من هذا الجالس الذي اجتمعت عليه الناس؟ فقال: هذا نبي أهل الكوفة.
فهم كانوا يعرفون أن عقيدة الامامية هي بأن هؤلاء هم الرابط بين السماء والأرض، فالتهمة بالربوبية ليست تهمة جديدة بل لها جذورها من العصر الأول، والسبب في ذلك أن دعوى الربوبية - في أذهانهم - تختلف عن دعوى الألوهية، فالربوبية تعني اتحاد الوسائط بين الارض والسماء، وذلك لأن الإنسان بنفسه يذعن بعدم إمكانيته الاتصال بالغيب وفي نفس الوقت يشهد عقله بأن الاتصال بالغيب لابد منه.
فحكم الفطرة يوجب ان تكون هناك واسطة، ولكن يجب في هذه الوسائط أمران:
أحدهما: أن تكون مجعولة من قبل الخالق الواحد الأحد، لا أن يختلقها بنو الإنسان كما كانوا يفعلون في الأصنام.
والثاني: أن لا تصل هذه الوسائط إلى رتبة الألوهية فهي مخلوقة لله وهي ذليلة لله تعالى ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً﴾2، وخاضعة له سبحانه في السر والعلانية، وسوف يأتي مزيد بيان لهذا المطلب.
ثانياً: الإمامة وراثة نسبية أم روحيّة
ينسب إلى الشيعة القول بأن الإمامة وراثية، وبالتالي فهم يقولون أن الزعامة تنتقل بالوراثة كما تنتقل الرئاسة بين الملوك وأبنائهم. وهذا لا أساس له من الصحة إذ بناء على ما ذكرنا من أن الإمامة مقام إلهي واتصال بالغيب، فبالتالي فهي بعيدة عن التوريث النسبي، بل هي مقام تكويني ووراثة روحية بمعنى وجود استعداد في روح أخرى للكمالات التي أفيضت على روح سابقة، وعندما يقال: أن الإمامة وراثة فإن ما ذكرنا هو المقصود منه، قال تعالى ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْض﴾3.
ثالثاً: الإمامة نصّ أم شورى
مما ذكرنا في الأمر الأول يتضح أن مثل هذا المقام لا يكون بيد الانسان بل لله عز وجل يجعله حيث يشاء، أما إذا اقتصرنا في محل النزاع على الزعامة الدنيوية فواضح أن ما يطرحه العامة من جعله بيد الناس وباختيارهم يكون أوهم إلى العقول وأميل إلى النفوس، وكأنه اشبه بلغة العصر، لنفرة الإنسان من تسلط فئة معينة على إرادته وتقييدها في إدارة شئون مجتمعه، فطرح محل النزاع بتلك الصورة يخدم العامة، أما على ما ذكرناه من حقيقة الإمامة يتضح السبب في إيكال ذلك الأمر إلى الله عز وجل، وما إن يجعل الحق تعالى إماما فلا معنى للجوء إلى طرق أخرى لتعيين من له الزعامة الدنيوية بل يكون هو المتعين، وبتعبير آخر أن من تثبت فيه الكمالات الروحانية العالية ومن يتصل بالغيب لا يمكن أن يلجأ الناس إلى غيره لإدارة شئونهم، وبهذا ترى أن مركز الزعامة الدنيوية متفرع على ذلك المقام وتابع، كما رأينا في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) فإنه بعد ثبوت نبوته وإيمان الناس به لم ينازع أحد في حاكميته، والخلاصة أنه يمكننا القول أن مقام الزعامة الدنيوية هو أدنى مراتب الإمامة ومقاماتها.
رابعاً: الإعتبار والتكوين
إن وظيفة النص في تعيين الإمام لا تنحصر في الجعل والاعتبار والإنشاء كما يقوم أي حاكم في تعيين حاكم آخر، بل إن النص سوف يكون كاشفا عن الإرادة التكوينية والجعل الإلهي. ومن هنا يتضح أن نصب الرسول أو الإمام السابق للإمام اللاحق لا يقوم به من تلقاء نفسه بل هو بايحاء من الله عز وجل فهو جعل اعتباري كاشف عن الجعل التكويني.
خامساً: الإمامة من أصول الدين
من الامور المهمة التي تترتب على تغيير محل النزاع هو أن مسألة الإمامة تدخل في ضمن المسائل الاعتقادية الأصلية في الدين، لأنها تكون بمنزلة النبوة وإن اختلفت عنها، وتكون هذه المسألة ما بها النجاة يوم القيامة، بخلاف المسائل الاعتقادية غير الأصلية وهي التي لا تكون النجاة يوم القيامة مرهونة بها.
بيان ذلك: أنا ذكرنا أن الركن الاساسي في مقام الإمامة هو مقام السفارة الإلهية ومَن يكون سفيراً من قبل الغيب ومَن هو حجة الله على خلقه، فالأمر الرئيسي هنا هو في الاعتقاد والتسليم بهذه السفارة والسفير وهذا أمر اعتقادي وليس مسألة عملية فرعية، نعم هذا المقام تلحقه شؤون عملية وفرعية، لكن الأمر الاساس هو الأمر الاعتقادي، كما هو الحال في بحث النبوة.
وللأسف الشديد نجد البعض يعبّر بأن مسألة الإمامة خارجة عن الأصول وداخلة في الفروع، وهذا بلا شك غفلة عن حقيقة الحال، وله لوازم فاسدة من نحو عدم وجود فائدة عملية لهذا البحث في زماننا الحاضر وذلك لأن الامام غائب فينتفي موضوع الزعامة ولو انتفاء مؤقتا، كما انه لا فائدة من البحث عمن كان يجب أن يخلف النبي (صلى الله عليه وآله) فهذا حدث تاريخي قد مضى، اما على ما ذكرنا فإن البحث تبقى له أهميته القصوى، إذ قضية الاعتقاد لا ترتبط بحضوره وعدم حضوره ولا بحياته وعدم حياته.
ومثل هذا في الوهن أن يقال: أن أهمية بحث الإمامة تنحصر في أن الإمام هل هو مصدر من مصادر التشريع الإسلامي أم لا؟ فهذا وإن كان صحيحا إلا أن فائدة البحث لا تنحصر به بل البحث في أمر اعتقادي جانحي كما يُبحث حول النبوة مع عدم وجود نبي على قيد الحياة إلا أن البحث له أهمية وخطورة من حيث وجوب الاعتقاد على كل مسلم.
فليس البحث حول من يكون رئيسا وزعيما فقط، وليس البحث عن ميزان استنباط الأحكام الفرعية، وهل السنة تشمل النبي والأئمة أم يقتصر فيها على النبي، فهذه كلها أمور فرعية تبتني على ذلك الأصل الاعتقادي، وهو أن الإمامة استمرار لمسيرة النبوة فالاعتقاد بها على نحو الاعتقاد بالنبوة.
سادساً: مقامات الأئمّة (عليهم السلام)
أن البحث قد يتعمق إلى البحث حول مقامات الأئمة سلام الله عليهم، وليعلم أن مقام الإمامة من أهم هذه المقامات كما أن مقام الزعامة أدناها وأقلها، فتوجد مقامات أخرى تتجاوز الإمامة ككونهم كلمات الله4 وأسماء الله الحسنى، وغيرها من المقامات العالية التي تعد من أسرار معارف أهل البيت، وفي كل هذه المقامات لا يخرجون عن زي العبودية بل أن خضوعهم وتذللهم التام وفنائهم في المعبود هو الذي جعلهم ينالون هذه المقامات.
وبعض هذه المقامات يشاركهم فيها غيرهم من الأنبياء والمرسلين، وفي بعضها يتفردون ويشاركون بها الخاتم (صلى الله عليه وآله)، وكذلك الزهراء (عليها السلام) تشاركهم في بعض هذه المقامات كمقام حجة الله، كما ورد في الخبر المتواتر معنى "وفاطمة حجة الله علينا" أو كون مصحفها مصدر من مصادر علومهم.
سابعاً: الوظيفة الشرعيّة
إذا تم مقام الإمامة فسوف يتوجه إلى المكلفين عدد من الوظائف الشرعية، بدءا من الاعتقاد والمعرفة والتسليم إلى التولي والتبري القلبي والعملي، ووظائف أخرى سوف نأتي على ذكرها في الخاتمة.
ولا يخفى أن هذه المقامات الاخرى لا يتوقف عليها الإيمان، فكثير من علمائنا في علم الرجال يشيرون إلى أن الاعتقاد بأدنى مراتبه وهو إجمال الزعامة الدينية والدنيوية- كما هو حال كثير من الناس والرواة- كاف في اعتبارهم من الامامية.
ثامناً: تحليل الإقتداء
وقد يطرح هاهنا إشكال حاصله: إن اثبات المقامات الغيبية للنبي والأئمة وتعميق هذا الجانب في شخصيتهم البشرية يتنافى مع جعلهم قدوة للبشرية ولا يتلاءم مع أمر الله عز وجل باتباعهم واتخاذهم أسوة.
بيان ذلك: أن طبيعة الاقتداء والاتباع أن يأمل المقتدي من الوصول إلى مرتبة المقتدى، وأن يجعل همه الأول هو الوصول إليه والسير على هداه، وهذا يعني أن يكون المقتدى بمرتبة ومقام يمكن الوصول إليه، أما إذا كان مقامه مما لا يمكن الوصول إليه بل هو ممتنع المنال فكيف يجعل قدوة ونؤمر باتخاذه أسوة! فعليه يجب حصر الجانب الغيبي في ما يظهرونه من معجزة لاثبات الرسالة والإمامة فقط.
وقد يطرح الاشكال بنحو آخر أن تعميق هذا الجانب الغيبي في أحكام الدين سوف يبعد الدين عن الجوانب الاجتماعية والمادية التي جعلها ضمن اهتماماته، وبتعبير آخر أنه لو قلنا أن ملاكات الأحكام أمور غيبية بعيدة عن تأثيرات وضعية دنيوية سوف يفقد المكلف الدافع المحرك للسعي وتحصيل تلك الملاكات.
وفي الواقع ليس هذا الاشكال بصياغتيه شيئا جديدا مبتكرا بل هو اشكال يعود في جذوره إلى ما قبل الاسلام، حيث كان الناس يعتقدون أن الوصول والاتصال بالله سبحانه وتعالى ذي القدرة المطلقة اللامحدودة متعسر وممتنع فيجب توسيط وسائط تعد أربابا وآلهة صغيرة تكون وسيلة وواسطة.
أما الجواب:
أولا: أن طبيعة الاقتداء تقتضي أن يكون هناك فارق بين المقتدي والمقتدى، فإذا كان المقتدى مساويا للمقتدي، فإن الإقتداء يكون ممتنعا، إذ لا توجد مزية للمقتدى حتى يقتدى به، فالسعي والحركة والانبعاث الذي يحصل للمقتدي إنما هو من أجل تحصيل أمور وكمالات هو فاقد لها لكنها متوفرة وحاصلة في المقتدى، إذن يجب أن يكون المقتدى غير مساو للمقتدي.
ثانيا: كما أن الحاصل لا يسعى الإنسان إلى تحصيله، كما أن الممتنع أيضا لا يسعى الانسان إلى تحصيله، فيجب أن يكون المقتدى له مرتبة بين هذين الأمرين، وفي نفس الوقت يجب أن يكون هذا الاقتداء ملازماً للانسان في كل مسيرته بمعنى أن المقتدى يجب أن يكون متفوقا دائما على المقتدي، وإلا لو فقد هذا التفوق لتوقف الاقتداء في فترة من فترات حياة الإنسان، وذلك فيما إذا نال كل كمالات المقتدى، وحينئذ لا يكون هناك سعي ولا يكون هناك هدف يحرك هذا الانسان، فيجب أن يكون هناك باعث ومحرك دائمي للانسان وللانسانية قاطبة، وفي نفس الوقت لا تكون كل درجات كمالات المقتدى ممتنعة، كي يمكن السعي والتحصيل.
وهذا هو معنى الحالة الوسطية بين الأمرين أي لا كمالاته كلها ممتنعة ولا كل كمالاته بكل درجاتها حاصلة، فيسعى الانسان لتحصيل تلك الكمالات فقد يصل بجهده إلى تحصيل بعضها وقد لا يستطيع "ألا أنكم لا تستطيعون على ذلك فأعينوني بورع واجتهاد وعقل وسداد".
فتحصيل كل كمالات المقتدى أمر مستحيل غير ممكن أما تحصيل بعض درجات كمالاته فهو أمر مرجو ممكن الحصول عليه، فلماذا لا يصح الاقتداء ولماذا لا يمكن السعي نحوها!!
وقد يقال: إذا كان الأمر كذلك فما الحاجة إلى الإمام من أجل الإقتداء به إذا لم يكن من الممكن الحصول على كل كمالاته، فليقتدى مباشرة بالكمال المطلق اللامحدود وهو الذات المقدسة؟
وجوابه: أن الإمام هو الآية العظمى وفي الحديث "ما لله أية أكبر مني" وآيته في الصفات الخلقية، فالسعي إلى الله غير متناه لا في الدنيا ولا في الآخرة ومن رحمة الله بعباده أن جعل لهم إماماً يقتدون به يماثلهم في البشرية ومتخلقا بأخلاق الله عزّ وجل، وهذا هو لطف الله بعباده لأن المقتدى أيضا هو في حالة سير وحركة من أجل تحصيل الكمال اللامتناهي، وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة.
ونعود إلى محل الكلام فإن هذه الحالة الوسطية دائما هي التي تدفع الإنسان نحو الحركة والعمل وكما في الخوف والرجاء، فلا هو حصر في حالة الخوف فقط لأنه يأس من رحمة الله، واليأس عدم اعتقاد برحمته تعالى فهو كفر، والرجاء المطلق كفر أيضا لأنه عدم اعتقاد بعقاب الله.
فالإمام ليست صفاته كلها قابلة للمنال ولو كانت كذلك لما كان الانسان متحركا نحوها بحركة مستمرة دائمة لا تقف عند حد، ولا هي حاصلة للانسان حتى لا يكون هناك دافع نحو السير والسعي الحثيث. وسوف نشير في بحث الفقه العقلي للإمامة إلى أن الوسيلة الصحيحة للتوحيد هي الإمامة.
ثالثا: ذكرنا أن كمالات الإنسان تشمل جنبتيه البدنية المادية والروحية المعنوية، وكمالات الجنبة الأخيرة على قسمين: منها ما له ارتباط بالبدن كالشجاعة فهي كمال روحي إلا أن له ارتباطاً بالبدن. والقسم الآخر: كمالات روحية لا ارتباط لها بالبدن بل ترتبط بعوالم الغيب و الآخرة والعوالم المجردة، وكمالات هذا الجانب أشرف من الجوانب الأخرى، والاقتداء المؤدي للكمال لا بد أن يشمل جميع جوانب النفس الانسانية، ومن هنا نحتاج في المقتدى أن تكون له جوانب غيبية وكمالات مرتبطة بعالم الغيب.
رابعا: إن دراسة طبيعة حركة الانسان ترشدنا إلى أن جوارحه تنطلق في حركتها من الجوانح، والأخيرة تتحرك طبقا للاذعان والايمان والاعتقاد الذي يلتزم به الانسان فهذه الهيكلية في صدور تصرفات الانسان هي الاساس، وهذا يعني أن أساس تحرك الانسان هو معارفه الاعتقادية، والاعتقاد يشمل جميع الجوانب الغيبية وغيرها، فلا يمكن أن نتمسك بقسم معين من المعارف ونثبته ونغض الطرف عن القسم الآخر لأن العقائد شأن مجموعي تبتني عليه عمل الجوانح التي هي المحرك للجوارح فإذا اختل الأساس اختل ما عليه من البناء.
خامسا: نحن نسائل المستشكل الذي لا ينفي الغيبيات في المقتدى، بل يحصرها في اثبات المعجزة للرسالة والنبوة والإمامة، نقول: لماذا في هذا الجانب نثبت الأمر الغيبي؟
والجواب: أن هذا هو الكاشف عن اتصال هذا الشخص بالغيب وأنه مبعوث وسفير من قبل الله سبحانه وتعالى، فالمعجزة هي المثبتة للاتصال والسفارة الإلهية وأن هذا الاتصال غير موجود في بقية أفراد البشر، ونحن نقول أن هذا الاتصال الغيبي هو المقام الغيبي نفسه، بمعنى أن هذا الاتصال يكشف أن لهذا الشخص درجة وجودية معينة، وهذه الخصوصية مَنّ الله تعالى بها عليه وهي التي مكنته من الإتيان بالمعجزة حتى يثبت لبني البشر أنه سفير من قبل الله تعالى.
ومما لا شك فيه أن تصحيح محل النزاع بما ذكرنا سوف يهئ لنا الأرضية والذهنية المطلوبة للتعامل مع الأدلة العقلية والنصوص الشرعية، حيث إن طائفة كبيرة سوف تدخل في ضمن نطاق التحليل والاستنطاق بخلاف ما إذا كان المطلوب هو اثبات الزعامة الدنيوية فإنه سوف يتم اسقاط عدد كبير من الأدلة بحجة أنها تبحث عن ما هو خارج عن محل النزاع.
ولا يخفى أن الخوض في مثل هذه المباحث يحتاج إلى أهلية عقلية وإلمام تام بالمباحث الفقهية والتفسيرية والكلامية والفلسفية والعرفانية، مضافا إلى ما يمكن استفادته من علوم النفس والاجتماع الحديث.
تعريف الإمامة
الجهة الاولى: التحليل اللغوي:
إنا لا نهدف من بحثنا استعراض المعنى اللغوي الذي يسطره اللغويون في كتبهم، بل مرادنا هو الوصول إلى ماهية وحقيقة الإمامة وبتعبير اصطلاحي رفع الستار عن ما الشارحة وما الحقيقية. وإذا ما استعرضنا كلمات اللغويين فما ذلك إلا توطئة للوصول إلى التعريف الماهوي واستخلاص المعاني العقلية التي تنطوي عليها اللفظة.
ومن خلال ما يذكره اللغويون يمكن ذكر بعض الملاحظات التالية:
1- أن اصطلاحات الامام والأمة والمأموم كلها تعود إلى جذر لغوي واحد هو أمّ يؤم.
2- أن المراد من يؤمه أمّ إذا قصده، والأمّ هو القصد المستقيم والتوجه نحو المقصود5 ففي هذا الأصل الاشتقاقي جنبة السير والسلوك.
3- أن المراد من الأمة هي الجماعة الذين يكون لهم مقصد واحد.
4- أن الإمام هو كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين، وعلى هذا يكون معنى إمام بمعنى المقتدى اسم مفعول، ويكون المأموم اسم فاعل أي الذي يقتدي بغيره، وأما إذا كانت بمعنى الهداية فسوف يكون الامام بمعنى الهادي وهو اسم فاعل والمأموم المهتدى فهو اسم مفعول.
فيلاحظ أن المعنى اللغوي يستطبن معنى الاقتداء والهداية.
من خلال تلك النقاط نرى أنه في جميع اشتقاقات (أمّ) يتضمن قصد وسلوك غاية وهدف معين مع إضافات أخرى في كل اشتقاق، فإذا كانت الأمة فإنها تطلق على الجماعة البشرية التي لها مقصد واحد فهي بالضرورة تتبع إماماً لها يقتدي به الناس ويأخذ بيدهم نحو ذلك المقصد وتلك الغاية، ومن هنا ورد التعبير في القران ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاس بِإِمَامِهِم﴾6، ولذا لم يطلق الأمة على كل المجتمع البشري بل أطلقه بحسب الحقب الزمانية.
ويمكننا القول أن الامامة في اللغة تساوق الهداية، والهداية كما يذكر اللغويون لها معنيان:
أحدهما: مجرد إراءة الطريق المستقيم، والآخر: هو الإيصال إلى المطلوب، والثاني يستلزم الأول، وذلك لأنه لو قلنا أنها بمعنى الأخذ بيد المأموم وإيصاله إلى المطلوب والغاية المرادة فهي لا تقتصر على مجرد الاراءة بل تتعداها إلى الإيصال.
ونقول أن المراد من الهداية هنا هو الثاني، وذلك لأن الأمة وهي الجماعة التي لها مقصد واحد فإنها تسير نحو هذا المقصد وتتبع الامام من أجل الوصول إلى تلك الغاية، ووجود الامام ومقتضى السير أن يكون المراد من الهداية هو الايصال وأن الامام لا يقتصر على مجرد إراءة الطريق الصحيح بل يتبع ذلك بالاخذ بيد الامة من أجل ايصالهم إلى الغاية القصوى، نعم تلك الهداية والايصال ليس ايصالا جبريا بل ايصال اختياري.
* سماحة الشيخ محمد سند - بتصرّف
1- الزخرف: 45.
2- مريم 19: 93.
3- آل عمران: 34.
4- قال تعالى: (إن الله يبشركِ بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم) آل عمران 39.
5- المفردات مادة أم.
6- سورة الإسراء، آية 71