بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾1 .
الآية الشريفة تحتوي على كنوز من المعارف، حيث أمر الله بالعدل بحيث يكون المجتمع كتلة واحدة تتعاضد فيما بينها، والعدل أعم نفعاً من الإحسان، فقد سئل أمير المؤمنين(عليه السلام) عن أفضلية العدل أو الجود؟ قال: "العدل يضع الأُمور مواضعها، والجود يخرجها من جهتها، والعدل سائس عامّ، والجود عارض خاصّ، فالعدل أشرفهما "2، لأنّ العدل هو انتظام الأُمور على وجهها، بينما الإحسان يتضمّن تنازلا عن الحق من قبل طرف من الأطراف، ثمّ يأمر القرآن الكريم بإيتاء ذي القربى بعد أن يبيّن القرآن الكريم وسيلة لالتحام أفراد المجتمع بعضه مع بعض، وهي وسيلة العدل.
الترتيب في الآية ليس اعتباطياً:
ونلاحظ أنّ الآية قد بدأت بالعدل ثمّ بالإحسان، لأنّ المجتمع قد يمرّ بمنعطفات يحتاج فيها إلى الإحسان، مثل: الكوارث والحالات الطارئة، ثمّ تأمر الآية الكريمة بإيتاء ذي القربى من أجل تقوية وشائج وروابط المجتمع، والقربى المذكورة في الآية هي عموم القربى، قرابة الأُسرة والقبيلة والعشيرة، وهذا الترتيب في الآية ليس اعتباطياً، وأمّا النواهي فقد بدأت الآية بالنهي عن الفحشاء، يعني: عن الانحدار الخلقي، والآية تنذر أنّ هلاك المجتمعات يبدأ بالسقوط الخُلقي، ثمّ نهت عن المنكر والبغي وكأن الآية تحتوي في الأوامر على عكس النواهي من حيث الترتيب، ففي الأوامر بدأت الآية بالعدل، ثمّ بالإحسان، ثمّ بتقوية شجرة القرابة، ولكن في جانب النهي ابتدأت بالفحشاء، باعتباره أمراً يهدّد النظام الاجتماعي، حيث إذا ساد الانحطاط الخلقي فسوف يهدّد النظام الاجتماعي، وغيب المُثُل والمبادىء الأخلاقية، مثل: الأمانة والرحمة، وهذا سيؤثّر على العدالة والقانون والنظام.
الفحشاء ظاهرة فردية والمنكر ظاهرة اجتماعية:
والفحشاء تكون ظاهرة فردية والمنكر ظاهرة اجتماعية، والظاهرة الفردية هي التي تؤثّر في الظاهرة الاجتماعية حينما تتكرر من هذا الشخص أو ذاك الشخص، والظواهر الاجتماعية السلبية إذا فشت في المجتمع تدمّره تدميراً، ويقول الحديث: "كما تكونوا يولّى عليكم "3، فيكون الحاكم هو مجمع جميع المساوىء والسيّئات في ذلك المجتمع.
البغي نتيجة انتشار المنكر:
والبغي الذي تذكره الآية يأتي في مرحلة انتشار المنكر، وانتشار المنكر هو الذي يهيّىء لظهور البغي، والظاهرة اليزيدية والأموية الظالمة لا يمكن دراستها مقطوعة عمّا حدث قبلها من أحداث هيّئت لأمثال معاوية ويزيد للظهور والسيطرة على مقدّرات المسلمين، والآية تطرح نوعاً من المعادلات في العلوم الاجتماعية والسياسية، حيث تبدأ من الفحشاء، وهي الجانب الفردي من المعصية، ثمّ المنكر الذي يمثّل الظاهرة الاجتماعية السلبية، ثمّ البغي الذي يمثّل الانحراف في النظام الحاكم الباغي، وفي الأوامر الواردة في الآية فإنّ العدل هو الذي يهيّىء للإحسان.
صفات المجتمع السليم: العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى:
وتستطيع أن تحكم على المجتمع من خلال الحلقات الايجابية الثلاث، وهي: العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، أو من خلال الحلقات السلبية الثلاث، وهي: الفحشاء والمنكر والبغي حتّى تتعرّف على المسار الذي يسير فيه المجتمع.
التمزّق الاجتماعي الغربي أخذ يزحف على المجتمع المسلم:
والملاحظ أنّ المجتمعات الحديثة يسودها التمزّق، وهذا التمزّق أخذ يزحف حتّى على المجتمعات الإسلامية، ولو سألنا آباءنا وأجدادنا عن الترابط الاجتماعي في السابق لوجدنا أنّه كان متقدّماً على ما هو عليه الآن.
القانون الذي لا يستند إلى العدل يعطي الصبغة القانونية للاضطهاد:
بعد أن مرّ بنا أنّ العدالة أمر تكويني، والحقوق ترسو على الأمر التكويني، والعدالة هي وصول كلّ ذي قابلية للكمال إلى كماله المنشود، هنا يأتي بحث النظام، أين موقع النظام العادل في العدالة الاجتماعية؟ هل هو نظام فردي أم أُسري أم جماعي أم يغطّي المجتمعات البشرية؟
ثمّ تأتي منظومة الحقوق ثمّ يأتي التقنين والقانون، لا قيمة له إلاّ إذا حقق العدالة، أما إذا لم يحقق العدالة فلا فائدة منه، وليس هو المدار بل المدار هي العدالة وهي المحور الذي يجب أن يرتكز عليه القانون، والقانون الذي لا يرتكز على العدالة يعتبر قانون الاستسباع والضيم والاضطهاد وامتصاص الدماء والتمييز، ويعطي هذا القانون للاضطهاد صبغة قانونية يكون بها مجازاً في المجتمع، بحيث لا يمكن لأحد أن يعترض عليه.
* بحوث معاصرة في الساحة الدولية-سماحة الشيخ محمد سند
1- النحل (16): 90.
2- ميزان الحكمة 4: 1839، الحديث 11981.
3- كنز العمال 6: 36، الحديث 14968.