بسم الله الرحمن الرحيم
قد يتساءل بعض الناس، ويقول: إن إشراك الزهراء عليها السلام في قضية المباهلة لا دلالة له على عظيم ما لها عليها السلام من قيمة وفضل، فإنه صلى الله عليه وآله إنما جاء بأهل بيته عليهم السلام ، لأنهم أعز الخلق عليه، وأحبهم إليه، ليثبت أنه على استعداد للتضحية حتى بهؤلاء من أجل هذا الدين، ولا دلالة في هذا على شئ آخر.
ونقول في الجواب: لقد أشرك الله سبحانه الزهراء في قضية لها مساس ببقاء هذا الدين، وحقانيته، وهي تلامس جوهر الإيمان فيه إلى قيام الساعة، وذلك لأن ما يراد إثباته بالمباهلة هو بشرية عيسى عليه السلام ، ونفي ألوهيته. وقد خلد القرآن الكريم لها هذه المشاركة لكي يظهر أنها عليها السلام قد بلغت في كمالها وسؤددها وفضلها مبلغا عظيما، وبحيث جعلها الله سبحانه وتعالى بالإضافة إلى النبي والوصي والسبطين، وثيقة على صدق النبي صلى الله عليه وآله فيما يقول، حيث إن الله سبحانه هو الذي أمر نبيه صلى الله عليه وآله بالمباهلة بهؤلاء، ولم يكن ذلك في أساسه من تلقاء نفسه صلى الله عليه وآله . إذن، لم يكن ذلك لأنهم عائلته، وأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم، بل لأن فاطمة صلوات الله وسلامه عليها، والنبي صلى الله عليه وآله وعلي والحسنان عليهم السلام، كانوا - وهم كذلك - أعز ما في هذا الوجود، وأكرم المخلوقات على الله سبحانه، بحيث ظهر أنه تعالى يريد أن يفهم الناس جميعا أن التفريط بهؤلاء الصفوة الزاكية هو تفريط بكل شئ، ولا قيمة لأي شئ في هذا الوجود بدونهم، وهو ما أشير إليه في الحديث الشريف1. ثم إن إخراج أكثر من رجل وحصر عنصر المرأة بالزهراء عليها السلام في هذه القضية إنما يشير إلى أن أيا من النساء لم تكن لتداني الزهراء في المقام والسؤدد والكرامة عند الله سبحانه وتعالى فلا مجال لادعاء أي صفة يمكن أن تجعل لغيرها عليها السلام امتيازا وفضلا على سائر النساء. وما يدعي لبعض نسائه صلى الله عليه وآله من مقام وفضل على نساء الأمة، لا يمكن أن يصح.
سيدة نساء العالمين:
من الواضح: أن التنظير، وإعطاء الضابطة الفكرية، أو إصدار الأحكام لا يعطي الحكم أو الفكرة أو الضابطة من الثبات والقوة و التجذر في النفوس ما يعطيه تجسيدها، وصيرورتها واقعا حيا ومتحركا، لأن الدليل العقلي أو الفطري مثلا قد يقنع الإنسان ويهيمن عليه، ولكن تجسد الفكرة يمنح الإنسان رضا بها، وثقة وسكونا إليها، على قاعدة: قال: ﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾2. فالقناعة الفكرية والعقلية والعملية، التي تستند إلى البرهان والحجة القاطعة متوفرة وليس فيها أي خلل أو نقص، ولكن سكون النفس قد يحتاج إلى تجسيد الفكرة في الواقع الخارجي ليتلائم السكون النفسي ويتناغم مع تلك القناعة الفكرية والعقلية الراسخة، ليكونا معا الرافد الثري للمشاعر والأحاسيس. وقد كانت الزهراء عليها السلام أول امرأة تجسدت فيها الأسوة والنموذج والمثل الأعلى لكل نساء العالمين، بعد مسيرة طويلة للإنسانية، كمل فيها عدد من النساء حتى كانت فاطمة ذروة هذا الكمال. وكما تجسد الإنسان الكامل بآدم عليه السلام أولا ليكون واقعا حيا، يعيش إنسانيته بصورة متوازنة، لا عشوائية فيها، يعيشها بكل خصائصها وميزاتها، وبكل خلوصها وصفائها وطهرها، وبكل طاقاتها: فكرا، وعقلا، وأدبا، وحكمة، وتدبيرا، حتى كان أسوة وقدوة للبشر كلهم من حيث هو آدم النبي والانسان، لا آدم التراب من حيث هو تراب، بل التراب الذي أصبح إنسانا كاملا بما لهذه الكلمة من معنى. واستمرت المسيرة نحو الكمال في الإنسانية، فكمل رجال أنبياء عليهم السلام كثيرون، وكملت أيضا نساء، مثل آسية بنت مزاحم، ومريم، وخديجة عليهن السلام ، ثم بلغ الكمال أعلى الذرى في رسول الله صلى الله عليه وآله، الرجل، وفي الزهراء المرأة، ولم تستطع أهواء النفس وشهواتها، وكذلك الطموحات والغرائز وغير ذلك من مغريات وتحديات، بالإضافة إلى الضغوطات البيئية والاجتماعية وغيرها، ثم بغي وجبروت الطواغيت، لم يستطع ذلك كله أن يمنع الإنسان من أن يجسد إنسانيته، ويعيش حياة الإيمان، وحياة الكمال والسلام الشامل. وكانت أسوة بني البشر وقدوتهم هذه النماذج الماثلة أمامهم التي استطاعت أن تقنع الإنسان بأن عليه أن يتحدى، وأن يواجه، وأن يقتحم، وأن باستطاعته أن ينتصر أيضا، ومثله الأعلى هم الأنبياء والأولياء بدءا من آدم، وانتهاء برسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته الطاهرين، فهو لا يتلقى الفكرة فقط، بل هو يرى الحركة والموقف في الرسول والوصي، والولي. ولأجل ذلك فهو لم يقتصر على الأمر والزجر كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾3، بل تعداه ليقول: ﴿لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾4، فهو يريه الحركة والموقف والصفاء والطهر متجسدا أمامه في النبي والوصي، وفي نسوة واجهتهن أعظم المحن والبلايا كامرأة فرعون، وفي الزهراء فاطمة عليها السلام ، وحيث واجهتها أجواء الانحراف والشدة والظلم، وفي مريم بنت عمران التي واجهت ضغوط البيئة في أشد الأمور حساسية بالنسبة لجنس المرأة بصورة عامة5.
* العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي - بتصرّف
1- راجع الكافي: ج 1 ص 179 و 198 والغيبة للنعماني: ص 139 و 138 وبصائر الدرجات: ص 488 و 489 وراجع: الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله : ج 8 ص 359 عنهم
2- سورة البقرة: 260.
3- سورة الحشر: 7.
4- سورة الأحزاب: 21.
5- المصدر: كتاب مأساة الزهراء عليها السلام