بسم الله الرحمن الرحيم
هل خطر على بالك وأنت تتأمل السماء في ليلة صافية أنك لا ترى من هذه السماء إلا 5 % وربما أقل من محتوياتها مهما استخدمت من مناظير ومجسات وأدوات استشعار.. مظلمة لا يخرج منها ضوء وسحب من العوالق والأتربة ممتدة مترامية بلا حدود..
ويقول رجال الفلك أن هذه المادة السوداء المظلمة هي مجموع الغبار الكوني وسحب الغاز البارد وفقاعات كونية سابحة في الفضاء وكتل مادية جوفاء وثقوب سوداء ونيازك وبقايا نجوم ميتة.. وجسيمات دقيقة وفتافيت ذرات هائمة في تجمعات سحابية مثل البروتونات والنيوترونات والباريونات والكواركات وجسيمات النيوترينو التي تخترق الأرض وتخرج من الناحية الأخرى في سرعات مذهلة مثل السهام الخفية.. هذا عدا الأجسام الكبرى العملاقة كالنجوم والشموس والمجرات والكواكب والتوابع والأقمار التي تدور في أفلاكها.
وافتراض وجود هذه المادة السوداء الخفية كان سببه أن النجوم والشموس والكواكب والكتل المجرية العملاقة لا تكفي بمجموع كتلاتها للاحتفاظ بتماسك مجموع الكون ككل.. وتأثيرها الجذبي لا يكفي لجمع شمل العناقيد الكونية الهائلة من مجرات وتوابع لتسبح في أسرة متحاضنة كما نراها.. وكان لا بد أن تنفرط لولا وجود هذه المادة المفترضة.
والمعضلة معضلة حسابية وإحصائية، فحاصل جمع الكتل الموجودة والمرئية بمناظيرنا وكاميراتنا الفضائية ومجساتنا لأشعة اكس وأشعة جاما والأشعة تحت الحمراء ومنظار هابل تقول إن مجموع المادة الموجودة أقل بكثير من المقدار الذي يفسر هذا التماسك الجذبي القائم ولو أن ما نرى هو كل المادة الموجودة لكان لابد أن ينفرط هذا الكون بددا ويتناثر في الفضاء ويضيع ويبرد وينطفئ ولا يجتمع له شمل.. فهناك حد أدنى من الكتلة لتكون هناك قبضة تمسك البنيان الكوني.. وكان لابد من الافتراض أن أكثر من تسعين في المائة من مادة الكون خافية وغير منظورة ولا يخرج منها أي ضوء يدل عليها.. وأنها لابد أن تكون موجودة قطعا رغم أننا لا نراها لتكون هناك تلك القبضة الملحوظة التي تمسك بالكون المرئي.
وعلماء الجاذبية يؤكدون أن هناك حدا أدنى من الكتلة لتتماسك هذه الأسرة الهائلة من المجرات والنجوم والشموس والكواكب والأقمار ولترحل كما نراها وهي متحاضنة في هذا الفضاء اللانهائي.
فإذا كانت الكتلة أكبر فإن المجموعة تنهار على بعضها وتنكمش وتتكدس وتتضاغط وتنصهر ويجري عليها أقصى درجة من (الهرس) الجذبي وترتفع درجة حرارتها وتتحول إلى عجينة نارية.
ثم تنضغط إلى حد أقصى من الصغر.. ثم تعود فتنفجر وتتمدد وتتناثر في الفضاء لتعيد قصة الانفجار الأول الذي بدأ به الكون.. ثم تنتشر في السماوات السبع وتتشكل على صورة نجوم وشموس ومجرات سابحة مرتحلة.. كما هي في عالمنا المشهود الآن.
وتظل تتمدد وتتباعد بفعل قوة الانفجار حتى تخمد هذه القوة.. فينشأ ما يسمى بالكون المتعادل بين قوتين.. القوة الجاذبة المركزية والقوة الطاردة المركزية ويستمر هذا الكون عدة مليارات أخرى من السنين.
فإذا استمر التباعد وتغلبت القوة الطاردة المركزية على القوة الجاذبة المركزية بسبب صغر الكتلة فإن القبضة تظل تضعف وتضعف ثم يتناثر الكون بدداً في الفضاء.. وذلك هو الكون المفتوح في لغة علماء الفلك.. فهو في تمدد أبدا وفي تناثر دائما لا يجتمع له شمل.
وإذا حدث العكس بسبب ضخامة الكتلة المادية فإن الكون ينهار على بعضه بسبب ثقله ثم ينكمش ويتضاغط إلى نقطة الانفجار الأول.. وذلك هو نموذج الكون المغلق في لغة الفلكيين.
يقول الله تعالى عن الساعة في القرآن:
﴿...ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً...﴾1.
فيربط سبحانه وتعالى بين " الثقل " والانهيار الكوني في كلمة "ثقلت".. وهي إشارة علمية بليغة تفوت الكثيرين.. وسبحان الذي وسع كل شئ رحمة وعلما.. فكلمة " تثاقل ".. هي الترجمة الحرفية لكلمة Gravitation.. أي الجاذبية وهذه معجزة البيان القرآني الدقيق الذي لا تنتهي عجائبه.
والمعنى المستفاد من كل هذا أن الكتلة المادية لمجموع الكون هي التي سوف تحدد سلوكه وسوف تحدد نهايته.. ولأننا لا نرى مجموع هذه المادة ولا نشهد منها إلا الجزء الذي يشع ضوءا.. ويخفي علينا نماما جانب المادة السوداء المظلمة ولا ندركها إلا تخمينا واستنتاجا من حساباتنا.. فإننا لن نعلم متى ستأتي لحظة الانهيار الجذبي ومتى تقوم الساعة رغم أننا نعلم أشرا طها وعلاماتها وتلك لفتة أخرى لدقة البيان القرآني "لا تأتيكم إلا بغتة" أي أننا سوف نفاجأ بها ولن تدركها حساباتنا رغم توقعنا لحدوثها.. فهناك عنصر ناقص في هذه الحسابات لن ندركه بوسائلنا.. هو المادة السوداء المظلمة ومداها وكتلتها بالضبط
وهذه هي "س" في المعادلة التي لا سبيل إلى تحديدها كميا وهذا هو التحدي الذي يواجه العلماء.
أي أننا لن نعلم "بالضبط" مقدار هذه المادة السوداء المظلمة وبالتالي لن نستطيع أن نحدد ساعة الانهيار وهناك جنون فلكي الآن حول هذه المادة السوداء.. وهناك سباق محموم بين كل المراصد ومراكز الأبحاث الفلكية للوصول إلى الماهية الحقيقة لهذه المادة السوداء وكميتها وكتلتها، والخلاف على أشده بين كل مراكز البحث ولكن كلهم متفقون على أنها حقيقية وأنها تملا السماوات.. ولكنهم مختلفون غاية الاختلاف في مقدارها.. وفي ماهيتها.
ولفتة أخرى للدقة القرآنية في خطاب الله لموسى عليه السلام عن الساعة.. يقول الله تعالى له: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾2، يقول ربنا "أكاد أخفيها" ولا يقول أخفيها.. أي أننا سنعلم أنها آتية.
والكلمة غاية في الدقة.. فالفلكيون الآن يعلمون أنها آتية لاشك وأنها مرتبطة بالزيادة التراكمية للكتلة.. ولكنهم لا يعلمون مقدار هذه الكتلة الكلية.. بسبب المادة المظلمة التي لا يخرج منها ضوء ولا تدركها المناظير.. وبالتالي لا يستطيعون حساب موعد الانهيار بالضبط لان الرقم الكلي مجهول
وآيات مثل.. ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ﴾3
﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾4
﴿يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾5 كلها.. قد تكون إشارات إلى استحالة التحديد: ﴿فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾6
ولا يجمع الشمس والقمر إلا في الانهيار الجذبي الذي ينهار فيه الاثنان بجاذبية المركز ويتحول الكون كله إلى عجينة واحدة تهرسها الجاذبية هرسا..
ولا شك أنها ستكون حالة مشهدية خارقة تخطف البصر لغرابتها.. هذا إذا ظل المشاهد قادرا على المشاهدة وإذا لم يتحول إلى بودرة أو مسحوق.
والأمر لا يمكن وصفه فهو كارثة كبرى بكل المقاييس يتضاءل أمامها كل ما نرى من سيول وأعاصير وزلازل وبراكين وصواعق وانهيارات جليدية.
إنها النهاية التي لا يعلم إلا الله ماذا بعدها.
ولا يملك عالم الفلك الذي يرصد ويقيس ويسجل ويحسب إلا أن يصاب بالرجفة والذعر.. فالأرقام التي تجتمع لديه من الحاسبات الكمبيوترية الضخمة تنبئ باحتمال مؤكد.. أن هناك مادة مظلمة خفية تملا جنبات الفضاء والكون وأن هذه المادة الخفية تشكل أكثر من 95 من الكون وأن ما نراه بأعيننا من هذا الكون أقل من 5% من محتواه الكلي.. وأن المجرات غارقة في هالات خفية من هذه المادة كما تغرق حبات الفستق في المربى.. وأن هناك عفريتا ماردا له ملايين الأذرع يضغط على مادة هذا الكون شيئا فشيئا من اللحظة الحرجة التي سوف ينهار فيها كل شئ كمعمار هائل من القش متى..؟ لا نستطيع أن نحدد.
والكمبيوترات الضخمة لا تسعف
والأرقام لم تظهر بعد.
ولا نملك إلا التخمين.
ولكن كل الأرصاد تقول إن هذا الكون العظيم يسير حثيثا إلى نهايته7.
* د. مصطفى محمود - بتصرّف
1- الأعراف - 187
2- طه - 15
3- القمر - 1
4- الشورى - 17
5- القيامة - 6
6- القيامة – 7/8/9
7- تجدر الإشارة إلى أن محاولة الدكتور مصطفى محمود وغيره يمكن حصر الاستفادة منها ضمن إطار إيجاد التناغم والانسجام بين الدين والعلم أو القرآن والعلم، ولكن هذا لا يعني أن هذه الآيات التي ذكرها تفسَّر من خلال النظريات العلمية التي سرد قسما منها، لأن العديد من هذه النظريات قد تكون عرضة للتبدل والتطور ما لم تتظافر الأدلة على قطعيتها بحيث لا يبقى مجال للشك في صحتها، كمسألة كروية الأرض على سبيل المثال، لذا نحن نعرض نصه هذا من باب إظهار عظمة الخلق ودقته بحسب آخر المكتشفات الفلكية والعلمية، وكشاهد على بعض البراهين العلمية أو شبه الفلسفية التي تثبت وجوده تعالى – (قسم الإعداد في موقع المنبر)