بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى *وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾
المعيشة الضنكى 1:
مع أن توبة آدم قد قبلت، إلا أن عمله أدى إلى عدم استطاعته الرجوع إلى الحالة الأولى، ولذا فإن الله سبحانه أصدر أمره لآدم وحواء كليهما وكذلك الشيطان أن يهبطوا جميعا من الجنة: قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو. إلا أني أعلمكم بأن طريق النجاة والسعادة مفتوح أمامكم فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أجل أن يتضح أيضا مصير الذين ينسون أمر الحق، فقد أضاف تعالى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. هنا قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا؟ فيسمع الجواب مباشرة: قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وتعمى عينك عن رؤية نعم الله ومقام قربه. أما الآية الأخيرة من الآيات محل البحث فهي بمثابة الاستنتاج والخلاصة إذ تقول: وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
الغفلة عن ذكر الحق وآثارها:
قد توصد أحيانا كل أبواب الحياة بوجه الإنسان، فكلما أقدم على عمل يجد الأبواب المغلقة، وقد تنعكس الصورة فأينما اتجه يرى الأبواب مفتحة في وجهه، وقد تهيأت له مقدمات العمل، ولا يواجه عقبات في طريقه، فيعبر عن هذه الحالة بسعة العيش ورغده، وعن الأولى بضيق المعيشة وشظفها، والمراد من قوله تعالى: معيشة ضنكا الوارد في الآيات محل البحث هو هذا المعنى أيضا. وقد يكون ضيق العيش ناتجا أحيانا من قلة المورد، وقد يكون المرء كثير المال موفور الثراء. إلا أن البخل والحرص والطمع يضيق عليه معاشه، فلا يميل إلى فتح باب داره للآخرين لمشاركته نعيمه، بل ولا يميل إلى الإنفاق على نفسه أيضا، وعلى قول الإمام علي عليه السلام: "يعيش عيش الفقراء ويحاسب حساب الأغنياء". حقا، لماذا يبتلى الإنسان بهذه الضائقات؟ القرآن يقول: إن العامل الأساس هو الإعراض عن ذكر الله، فإن ذكر الله يبعث على اطمئنان الروح والتقوى والشهامة، ونسيانه مبعث الاضطراب والخوف والقلق. عندما ينسى الإنسان مسؤولياته بعد أن ينسى ذكر الله، فإنه سيغرق في خضم الشهوات والحرص والطمع، ومن الوضوح بمكان أن نصيبه سيكون المعيشة الضنك، فلا قناعة تملأ عينه، ولا اهتمام بالمعنويات تغني روحه، ولا أخلاق تمنعه أمام طغيان الشهوات.
وأساسا فان ضيق الحياة ينشأ في الغالب من النقائص المعنوية وانعدام الغنى الروحي.. ينشأ من عدم الاطمئنان إلى المستقبل، والخوف من نفاد الإمكانيات الموجودة، والعلاقة المفرطة بعالم المادة، بينما نجد أن الإنسان الذي يؤمن بالله، وتعلق قلبه بذاته المقدسة، يعيش بعيدا عن كل هذه الاضطرابات، وفي مأمن منها. إلى هنا كان الكلام عن الفرد، وعندما نأتي إلى المجتمعات التي أعرضت عن ذكر الله، فإن المسألة ستكون أشد رعباً وخطراً، فإن المجتمعات البشرية على رغم تقدمها الصناعي المذهل، وبالرغم من توفر كل وسائل الحياة، فهي تعيش في حالة اضطراب وقلق شديد، ومبتلاة بضائقات عجيبة وترى نفسها سجينة. فكل فرد يخاف من الآخرين، ولا يعتمد أحد على الآخر، والروابط والعلاقات تتمحور حول محور المصالح الشخصية، وسباق التسلح نتيجة الخوف من الحرب يلتهم ويستهلك أغلب إمكانياتهم الاقتصادية. السجون مليئة بالمجرمين، وتقع في كل ساعة ودقيقة وطبقا للإحصاءات الرسمية حوادث قتل وجرائم مرعبة.. التلوث بالفحشاء، والإدمان على المواد المخدرة قد استعبد هؤلاء، ولا يوجد في عوائلهم نسمة حب، ولا ارتباط عاطفي يبعث على النشاط..
أجل هذه هي حياتهم القاسية، ومعيشتهم الضنك. لقد إعترف ريتشارد نيكسون الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية بلد الشيطان الأكبر بهذا الواقع في خطابه الرئاسي الأول إذ قال: "إننا نرى حولنا دائما حياة جوفاء، ونحن نأمل أن نرضى، ولكننا لا نرضى"! رجل آخر من الرجال المعروفين كانت مهمته إيجاد السرور والفرح في المجتمع، يقول: إني أرى الإنسانية تعدو في زقاق مظلم لا شئ في نهايته إلا القلق المطلق.
ومن الطريف أن نقرأ في الروايات الإسلامية أنه سئل الإمام الصادق عليه السلام عن المراد من الآية: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ؟ قال: "يعني [الإعراض عن] ولاية أمير المؤمنين"2.
أجل.. فإن الذي يستلهم العبرة من حياة علي عليه السلام، ذلك الرجل العظيم الذي كانت الدنيا في نظره لا تساوي عفطة عنز، والذي انقطع إلى الله حتى صغرت الدنيا في عينه إلى هذا الحد، فمن يكن كذلك فستكون حياته في سعة ورفاه، أما أولئك الذين ينسون المثل والقدوة فإنهم في ضنك العيش في كل الأحوال.
وقد فسر الإعراض عن ذكر الله - في الآية - بترك الحج من قبل القادرين عليه، وذلك لأن مراسم الحج تهز الإنسان، وتوجد ارتباطا وعلاقة جديدة بين الإنسان وربه بحيث يكون هذا الارتباط هو مفتاح حياته، في حين أن عكس هذا الأمر يؤدي إلى الارتباط الشديد بالماديات التي هي أساس المعيشة الضنكى.
عمى البصر وعمى البصيرة!:
لقد حددت عقوبتان لأولئك الذين يعرضون عن ذكر الله: إحداهما: المعيشة الضنك في هذه الدنيا، والتي أشير إليها في الملاحظة السابقة، والاخرى: العمى في الآخرة. وقلنا مرارا: إن عالم الآخرة هو تجسم أوسع لعالم الدنيا، وكل حقائق هذا العالم تتجسد هناك بما يناسبها هنا، فأولئك الذين عميت بصيرتهم عن مشاهدة الحقائق في هذه الدنيا، ستعمى هناك عيون أجسامهم، ولذلك فإنهم حين يتساءلون بأنا كنا قبل هذا صحيحي البصر، فلماذا حشرنا عميا؟ يقال لهم: لأنكم قد نسيتم آيات الله، وهذه الحالة انعكاس لتلك الحالة. وهنا ينقدح سؤال، وهو: إن ظاهر بعض الآيات القرآنية هو أن كل الناس يبصرون في يوم القيامة، ويقال لهم: اقرؤوا صحيفة أعمالكم ﴿اقْرَأْ كَتَابَكَ..﴾3، أو أن المجرمين يرون نار جهنم بأعينهم: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ...4﴾، فكيف تناسب هذه التعبيرات كون جماعة عميا؟ قال بعض المفسرين إن حال ذلك العالم تختلف عن حال هذا العالم، فربما كان بعض الأفراد مبصرين في مشاهدة بعض الأمور، وعميانا عن مشاهدة البعض الآخر، وعلى ما ينقل العلامة الطبرسي عن بعض المفسرين: إنه أعمى عن جهات الخير لا يهتدى لشئ منها، لأن نظام ذلك العالم يختلف عن نظام هذا العالم. ويحتمل أيضا أن يكون هؤلاء في بعض المنازل والمواقف عميا، وفي بعضها مبصرين. ثم إن المراد من نسيان المجرمين في العالم الآخر ليس هو نسيان الله سبحانه لهم، بل من الواضح أن المراد معاملة هؤلاء معاملة الناسي، كما نستعمل ذلك في محاوراتنا اليومية، فإذا لم يهتم شخص بآخر، فإن الثاني يقول له: لماذا نسيتني؟
الإسراف في المعصية:
مما يلفت النظر أنه قد ذكرت في الآيات - محل البحث - هذه العقوبات المؤلمة للأفراد الذين يسرفون ولا يؤمنون بآيات الله. إن التعبير ب " الإسراف " هنا قد يكون إشارة إلى أنهم قد استعملوا تلك النعم والعطايا الإلهية، كالعين والاذن والعقل، في طرق الشر، وليس الإسراف إلا أن يتلف الإنسان هذه النعم من غير هدف. أو أن يكون إشارة إلى أن المذنبين قسمان: قسم لهم ذنوب محدودة، وفي قلوبهم خوف الله، أي أنهم لم يقطعوا ارتباطهم وصلتهم بالله تماما، فإذا ما ظلموا - على سبيل الفرض - يتيما أو ضريرا فإنهم لا يستبيحون ذلك العمل، بل يعدون أنفسهم مقصرين أمام الله. ولا شك أن مثل هذا الفرد عاص يستحق العقاب، إلا أن بينه وبين من يقترف الذنوب بلا حساب - ولا يعتبر ذلك ذنبا، ولا يعترف بمعيار للذنب وعدمه، بل ويفتخر أحيانا بارتكابه المعاصي، أو يحتقر الذنب ويستصغره - فرقا شاسعا، لأن القسم الأول يمكن أن يتوبوا في النهاية ويجبروا ما صدر عنهم من ذنوب، أما أولئك الذين يسرفون في الذنوب فلا توبة لهم.
ما هو الهبوط:
"الهبوط" في اللغة بمعنى النزول الإجباري، كسقوط الصخرة من مرتفع ما، وعندما تستعمل في حق الإنسان فإنها تعني الإبعاد والإنزال عقابا له. وبملاحظة أن أدم قد خلق للحياة على وجه الأرض، وكانت الجنة أيضا بقعة خضراء وفيرة النعمة من هذا العالم، فإن هبوط ونزول آدم هنا يعني النزول المقامي لا المكاني، أي إن الله سبحانه قد نزل مقامه لتركه الأولى، وحرمه من كل نعم الجنة تلك، وابتلاه بمصائب هذه الدنيا ومتاعبها. ومما يستحق الالتفات أن المخاطب هنا قد ذكر بصيغة المثنى اهبط أي اهبطا كلاكما، ومن الممكن أن يكون المراد آدم وحواء، وإذا كان المخاطب قد ورد بصيغة الجمع اهبطو في بعض آيات القرآن الأخرى، فلأن الشيطان قد أشرك معهما في الخطاب، لأنه هو الآخر قد طرد من الجنة. ويحتمل أيضا أن يكون المخاطب آدم والشيطان، لأن الجملة التي تلي هذه الجملة تقول: بعضكم لبعض عدو. وقال بعض المفسرين: إن المراد من جملة بعضكم لبعض عدو والتي ورد الخطاب فيها بصيغة الجمع، هو تولد العداوة بين أدم وحواء من جهة، وبين الشيطان من جهة أخرى، وتولد العداوة بين آدم وأولاده من جهة والشيطان وذريته من جانب آخر. وعلى كل حال، فإن المخاطب في جملة: إما يأتينكم مني هدى هم أولاد آدم وحواء حتما، لأن هداية الله مختصة بهم، أما الشيطان وذريته الذين أعرضوا عن منهج الهداية الإلهية، فإن الخطاب لا يشملهم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
1-الضنك: المشقة والضيق، وهذه الكلمة تأتي دائما بصيغة المفرد، وليس لها تثنية ولا جمع ولا تأنيث.
2-نور الثقلين، الجزء 3، ص 405
3-الإسراء، 14
4-الكهف، 53