بسم الله الرحمن الرحيم
لقد وضّح الإمام الحسن عليه السلام دوافعه نحو صلحه مع معاوية بن أبي سفيان قائلاً:
"واللّه ما سلمت الأمر إليه، إلاّ أنّي لم أجد أنصاراً، ولو وجدت أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم اللّه بيني وبينه، ولكنّي عرفت أهل الكوفة وبلوتهم، ولا يصلح لي منهم من كان فاسداً، انّهم لا وفاء لهم ولا ذمة في قول ولا في فعل، انّهم لمختلفون يقولون لنا انّ قلوبهم معنا وانّ سيوفهم لمشهورة علينا"1.
وقد خطب الإمام ـ و كان مستاء ومتأثراً من تثاقل أصحابه وتخاذلهم ـ خطبة قال فيها: "يا عجباً من أُناس لا دين لهم ولا حياء، ويلكم واللّه انّ معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي، وانّي إن وضعت يدي في يده فأُسالمه لم يتركني أدين لدين جدي ـ صلَّى الله عليه وآله ـ، وانّي أقدر أن أعبد اللّه عزّ وجلّ وحدي، وأيم اللّه لا رأيتم فرجاً ولا عدلاً أبداً مع ابن آكلة الأكباد وبني أُميّة وليسومنكم سوء العذاب، وكأنّي انظر إلى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم يستسقونهم ويستطعمونهم بما جعله اللّه لهم فلا يسقون ولا يطعمون، ولو وجدت أنصاراً في قتال أعداء اللّه لما سلّمت الخلافة لمعاوية، لأنّها تحرم على بني أُميّة"2.
وقد قال الإمام المجتبى ذات يوم ـ و هو يعرف طبيعة حكومة معاوية الخبيثة جيداً ـ كلاماً في مجلس حضر فيه: "وأيم اللّه لا ترى أُمّة محمد خفضاً ما كانت سادتهم وقادتهم في بني أُمية"3. وكان هذا إنذاراً للعراقيين الذين تركوا قتال معاوية بسبب تخاذلهم ورغبتهم في الدعة والراحة، وهم يجهلون حقيقة انّهم لن يصلوا إلى آمالهم وأُمنياتهم في ظل حكومة معاوية.
معاهدة الصلح وبنودها:
عندما ارتأى الإمام الحسن المجتبى عليه السلام انّ الحرب تتعارض مع المصالح العليا للمجتمع الإسلامي والحفاظ على كيان الإسلام دخل السلم اضطراراً للظروف العصيبة التي أشار إليها، وبذل عليه السلام قصارى جهده لضمان تحقيق أهدافه العليا والمقدّسة بأقصى ما يمكن من خلال هذا الصلح بطريقة سلمية.
ومن ناحية أُخرى ولأنّ معاوية كان مستعداً لأن يقدّم أي نوع من الامتيازات والتنازلات للدخول في السلم واستلام السلطة، لدرجة انّه أرسل صحيفة بيضاء مختومة إلى الإمام كتب فيها: "أن اشترط في هذه الصحيفة ما شئت فهي لك"4 ، فاستغل الإمام هذه الفرصة فكتب في معاهدة الصلح جميع القضايا الهامة والحسّاسة ذات الأولوية التي تمثل مبادئه الكبيرة، وطلب من معاوية الالتزام بما جاء فيها.
وعلى الرغم من أنّ نصوص معاهدة الصلح مبعثرة في كتب التاريخ، بل وأشار كلّ من المؤرّخين إلى بعض بنودها وموادها بيد انّه يمكن تأليف صورة كاملة من مجموع ما تبعثر منها في الكتب، وبإلقاء نظرة على تلك البنود التي وضعها الإمام وأصرّ على إدراجها، يمكن أن نفهم قوة التدبير العالية التي استخدمها على صعيد النضال السياسي للحصول على تلك الامتيازات.
والآن وقبل أن ندرس كلاً من بنود معاهدة الصلح على حدة، يمكننا حصر نصها في خمسة بنود كما في الصورة التالية:
البند الأوّل: تسليم الأمر ـ الخلافة ـ إلى معاوية على أن يعمل بكتاب اللّه وسنّة رسوله.
البند الثاني: أن تكون للحسن عليه السلام الخلافة من بعده، فإن حدث به حدث فلأخيه الحسين عليه السلام، وليس لمعاوية أن يعهد بها إلى أحد.
البند الثالث: أن يترك سب أمير المؤمنين عليه السلام، وأن لا يذكر علياً إلاّ بخير.
البند الرابع: استثناء ما في بيت المال وهو خمسة ملايين درهم وتكون بحوزة الإمام الحسن، وأن يفضّل بني هاشم في العطاء والصلات على بني أُمية، وأن يفرّق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل وصفين مليون درهم، و أن يجعل ذلك من خراج دار أبجرد 5.
البند الخامس: الناس آمنون حيث كانوا من أرض اللّه في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وأن يؤمن الأسود والأحمر، وأن يحتمل معاوية ما صدر من هفواتهم، وأن لا يتبع أحداً بما مضى، وأن لا يأخذ أهل العراق بأحنة وحقد، وعلى أمان أصحاب علي حيث كانوا، وأن لا ينال أحداً من شيعة علي بمكروه، وانّ أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وأن لا يتعقّب عليهم شيئاً ولا يتعرض لأحد منهم بسوء، ويوصل إلى كلّ ذي حق حقّه، وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت الرسول غائلة سراً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم في أُفق من الآفاق.
فكتب معاوية جميع ذلك بخطه وختمه بخاتمه، وبذل عليه العهود المؤكدة والأيمان المغلّظة، وأشهد على ذلك جميع رؤساء أهل الشام6.
وهكذا تتحقّق نبوءة نبي الإسلام التي أطلقها عندما شاهد الحسن بن علي عليه السلام وهو لم يزل طفلاً من على منبره وقال: "هذا ابني سيد، ولعلّ اللّه يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين "7.
أهداف الإمام من الصلح مع معاوية:
عندما يجد العظماء وقادة العالم أنفسهم في ظروف تتعارض مع أهدافهم وآرائهم، يحاولون وهم على مفترق طرق أن يسلكوا الطريق الذي يحمل خسارة أقلّ لهم دائماً، وهذه قاعدة أساسية في الحسابات السياسية والاجتماعية، والإمام المجتبى أيضاً وانطلاقاً من هذا المنهاج المعقول سعى جاهداً أن يحقّق أهدافه العالية في حدود الإمكان ولو نسبياً، ولذلك عندما اضطر إلى الصلح مع معاوية اشترط في تسليم السلطة له بأن يعمل بكتاب اللّه وسنّة نبيّه في قيادة المجتمع الإسلامي.
ومن الواضح انّ استلام السلطة وتشكيل الحكم الإسلامي ليس هو ما يرمي إليه الإمام، بل الدافع الحقيقي هو صيانة مبادئ الإسلام في المجتمع وقيادته في ضوء تلك المبادئ، فلو كانت تنفذ على يد معاوية وتطبّق، فانّ الهدف الحقيقي متحقّق ولو ضمن حدود معينة، ومضافاً إلى ذلك بمقدور الحسن ـ عليه السَّلام ـ أن يتولّى قيادة المجتمع الإسلامي بحرية بعد موت معاوية طبقاً للبند الثاني، ونظراً إلى أنّ معاوية كان يكبر الإمام بثلاثة وثلاثين عاماً8 ، و يعيش أيّامه الأخيرة، ويرجى أن يلقى حتفه حسب الظروف الطبيعية، يتّضح مدى الفائدة التي يعود بها هذا الشرط ـ البند الثاني ـ على الإسلام والمسلمين طبقاً للحسابات العادية. وكان لكلّ واحد من بنود هذه المعاهدة أهميته أيضاً، لأنّه وفي الوقت الذي كان يسب فيه أمير المؤمنين ويشتم في الصلاة بجرأة كبيرة ـ حيث أصبح هذا العمل بدعة ذات جذور ـ وكان محبّو الإمام و شيعته وأهل البيت عليهم السلام مطاردين مضطهدين ينكل بهم في كلّ مكان، فسيكون لهذا الإلزام الذي ألزم معاوية به قيمة عالية.
الاجتماع في الكوفة:
دخل الجانبان الكوفة بقواتهما بعد إبرام معاهدة الصلح، واجتمعوا في مسجدها الكبير والناس كانوا ينتظرون أن يتم التأكيد على بنود المعاهدة من خلال خطب قائدي الفريقين بمرأى ومسمع منهم حتى لا يبقى مجال للشك والترديد في تطبيقها. ولم يكن هذا التوقع في غير محلّه فانّ إيراد الخطبة كان جزءاً من الصلح، ولذلك ارتقى معاوية المنبر وخطب خطبة غير انّه ليس فقط لم يؤكد على بنود المعاهدة، بل قال مستخفاً و مستهتراً: أتروني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج وقد علمت أنّكم تصلّون وتزكّون وتحجّون! ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم وألي رقابكم. ثمّ قال: ألا وإنّ كلّ شرط وشيء أعطيت الحسن بن علي تحت قدمي هاتين 9. وهكذا داس معاوية كلّ ما تعهد به وشرطه ونقض معاهدة الصلح علانية.
مهدي البيشوائي - بتصرّف
1- بحار الأنوار:44/147; الاحتجاج، ص 157.
2- جلاء العيون:1/345ـ 346.
3- شرح نهج البلاغة:16/28.
4- الكامل في التاريخ:3/405; الاستيعاب في معرفة الأصحاب ـ في هامش الاصابة:1/371 ; تاريخ الطبري: 6/93.
5- دار ابجرد هي إحدى المدن الخمس في ولاية فارس قديماً "لغتنامه دهخدا، كلمة دار أبجرد".
ولعلّ اختيار خراج دار ابجرد كان بسبب ـ و وفقاً للوثائق التاريخية ـ انّ أهلها استسلموا طوعاً بلا قتال للجيش الإسلامي وصالحوه ويختص خراجها كما أمر الإسلام بالرسول وأهل بيته واليتامى والمساكين وابن السبيل، لذلك شرط الإمام أن يدفع إلى عوائل شهداء الجمل وصفين من خراج هذه المدينة، لأنّ دخلها يختص بالإمام، مضافاً إلى ذلك انّ الفقراء من عوائل الشهداء كانوا المستحقين لهذا الخراج، البحار:44/10.
6- يراجع تفصيل معاهدة الصلح في كتاب صلح الحسن ـ عليه السَّلام ـ ، تأليف الشيخ راضي آل ياسين، ص 259ـ 261.
7- وقد روى هذا الخبر باختلاف يسير عن النبي في الكتب التالية: تذكرة الخواص، ص 194; أُسد الغابة:2/12; نور الأبصار، ص 121; الفصول المهمة، ص 158; الاصابة:1/330; كشف الغمة ـ فارسي ـ:2/98; تهذيب التهذيب:2/298; الصواعق المحرقة، ص 82; البداية والنهاية:8/36; الاستيعاب ـ في هامش الاصابةـ:1/369; حلية الأولياء:2/35; إسعاف الراغبين ـ في هامش نور الأبصار ـ ; مسند أحمد:5/38ـ 44; أنساب الاشراف:3/42; عمدة الطالب، ص 65; الطبقات الكبرى:1/26.
8- صلح الحسن ، آل ياسين ، ص 278.
9- شرح نهج البلاغة:16/15; مقاتل الطالبيين، ص 45; الإرشاد، ص 191. قال أبو الفرج: خطب هذه الخطبة قبل دخول الكوفة.