بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ الله سبحانه وصف القرآن بأوصاف، منها كونه مُهيمِناً على ما عداه من الكتب السماوية التـي أودعها رُسلَه الماضين وحيث إنّ عنصره الأصيل هو تعليم الكتاب والحكمة وتزكية النفوس ومدار تعليمه هو الأسماء الحسنى و محور تزكيته هو التخلّق بالأخلاق الالهيّة التـي هي النزاهة عن كل دَنَس و الطهارة عن كل قذر فيكون القرآن فـي هذه الشؤون المتعالية مهيمناً على سائر الصحف النازلة من عند الله سبحانه. وكما أنّ كلّ واحدٍ من أسمائه الحسنى عظيم وبعضها أعظم من غيره ويسمّى بالاسم الأعظم فكذلك كلّ واحد من كتبه كبير ولكن بعضها أكبر فهو الـْمُهَيمِن على غيره. ومن البيّن أنّ هَيْمَنة الكلام خلافة هيمنة المتكلّم كما أنّ ولاية الإنسان الكامل المعصوم خلافة ولاية الله سبحانه, لأنّ الكمال أي كمال علمي أو عملي فهو بالذّات لله سبحانه وبالتَبع أو بالعرض أو بالمجاز لغيره تعالى.
إنّ الإنسان وإنْ لم يكن بحسب بدنه عالماً بشيء بل خُلِق اُمّياً و اللهُ أخرجه مِن بطن امّه وهو لا يعلم شيئاً مِن العلوم الدراجة بين الناس ولكنه كان مُلْهَماً بحسب روحه النازل من عنده المنفوخ فـي بدنه بالفجور والتقوىٰ و مفطوراً بالدين الإلهي الحنيف وقد اُمِرَ بتزكية ما ألْهَمَه الله وبإقامة وجهه نحو ما فطره الله عليه وهذه المعارف الالهامية والفطريّة تحتاج الى الإثارة, لأنّها دفائن العقول لا ظواهرها المكشوفة, و الأنبياء عليهم السلام وإنْ بُعِثوا لإثارة تلك الدفائن ولكن بتعليم الصحف الإلهيّة بل الله سبحانه هو الذي بإحدىٰ يديه ألْهَم وفَطَر و بالأُخرىٰ أثار وكشف و كلتا يديه يمين مع كونه تعالى مُنزّهاً عن اليد رأساً.
والحاصل أنّ إثارة دفائن العقول إنّما هي بالكلام الإلهي فما كان مهيمناً على سائر الكلمات فله الهَيْمنة على سائر الإثارات فهو المثير المهيمن على كل مثيرٍ ومُثارٍ فلذا يلزم عرض كل ما دلّ عليه العقل أو النقل على هذا الميزان المثير المُهيمن, فان خالفه مخالفة بيّنة بالتباين أو التضاد المنتهي إلى التباين, فهو غيّ وضلالٌ و إن لم يخالفه كذلك بل كان مُخصِّصاً لعمومه أو مُقيِّداً لاطلاقه أو شارحاً لمغزاه و مُبيّناً لمحتواه بعد أن تَمَّ نصاب حجّيته وكان اعتباره مقبولاً لدى الشرع فهو هداية و إرشاد. ومن هنا يتّضح سرّ لزوم عرض كل حديث على القرآن سواء كان مُبتلى بالمعارض كما ورد فـي النصوص العلاجيّة أو لم يكن كذلك وذلك إمّا لتطرّق التحريف إليه كما فـي سائر الكتب السماوية وإمّا للدّسّ والوضع والجَعْل والتحريف كما فـي الأحاديث وإمّا للمغالطة والخطأ فـي مادّة الدليل أو صورته أو للذّهول عما يعارضه كما فـي الآراء البشريّة عدا ما كان من العلوم المتعارفة لا من الاصول الموضوعة لأن تلك العلوم المتعارفة, بَيّنةٌ بذاتها ومُبيّنةٌ لغيرها ورَحىً للبرهان على ما عداها.
و القرآن قد اُنزلَ من عند الله سبحانه بالحقّ ونزل على قلب الرسول صلى الله عليه وآله كذلك أي بالحق وفـي صحابة الحق أو لباسه. والانزال قد يكون بالتجلّي وقد يكون بالتجافـي، والميز بينهما هو بأنّ التجلّي فـي الانزال عبارة عن تحقّق شيءٍ واحدٍ مع انحفاظ هويّته فـي مراتب متعدّدة بلا نفادٍ فـي حدٍّ منها، والتجافـي فـي الانزال عبارةٌ عن التناوب فـي التحقّق فـي تلك المراتب بحيث إذا كان ذلك الشيء فـي الحدّ العالـي لا يكون فـي الدانـي و بالعكس كما فـي نزول المطر، بخلاف التجلّي حيث إنّ الشئ المتجلّي دانٍ فـي علوّه و عالٍ فـي دنوّه. و مما يُقرّبُه الى الذهن وان لم يكن كالعين هو أنّ المعنى المعقول كلّيٌ لا يصحبه شيء من الصور والأعراض المُصَنِّفة والمُشخّصِّة و إذا أريد تعليمه بالبيان أو البَنان يرسم ذلك له فـي الخيال صورةً و نظماً أوّلاً من حيث اللسان كالعربي المُبين مثلاً ومن الكلام أو الكتاب ثانياً ومن المقدّمة والفصول والخاتمة ونحو ذلك ثالثاً ثم يشرع بايجاده فـي العين لفظاً أو كتباً حيث إنّ جميع هذه الامور موجودة معاً كل واحدٍ منها فـي حدّه فلا العالـي منافٍ للدانـي ولا الدانـي مخالف له، وهذا بخلاف المطر النازل إلى الأرض حيث انّه عندما كان محمولاً للسحاب فـي السماء لم يكن فـي الأرض وإذا وجد فـي الأرض لا يكون فـي السماء. نعم هناك تَجلٍ عامٌ يكون به كلّ خلق تجلّياً كما قال اميرالمؤمنين علىبنابي طالب عليه السلام: "اَلْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُتَجَلِّي لِخَلْقِهِ بِخَلْقِهِ"1 و هذا غير التجلّي الخاص الذي للقرآن كما قال عليه السلام: ﴿فَتَجَلَّى لَهُمْ سُبْحَانَهُ فـي كِتَابِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْهُ﴾2.
ثم إنّه قد يكون للكلمة الملفوظة أو المكتوبة فـي القرآن معانٍ طوليّة أو عرضيّة أو كلاهما فعلى مبنى عدم صحّة استعمالها فـي أكثر من معنى لضعف ارادة المستعمِل وعدم قدرته على الاحاطة بأكثر من معنىً واحدٍ فـي آن واحدٍ بلا امتناع ذاتـي لذلك كما هو الحق, لا مجال للامتناع المذكور بالنسبة الى الله المحيط بكل شيء فـي كلّ آنٍ, فيصحّ استعمال ذلك فـي القرآن لقدرة الله التـي تستطيل هي على كلّ شيء. فيمكن للمفسّر أن يُفسّر تلك الكلمة بجميع معانيها الطوليّة و العَرضيّة كما تفطنّ له بعض أهل المعرفة ولعلّه المستفاد ممّا رواه الكلينـي عن مولانا علي بنالحسين السجاد عليه السلام يقول: "آيات القرآن خزائن فكلّما فُتِحَت خزانةٌ ينبغي أن تنظر ما فيها". فتصور نظر الناظر مرجوع إليه لا الى المنظور فيه فمن اُعطيَ جوامع الكَلم فله أن ينظر جميع ما يرتبط بالآية كما له ذلك بالقياس الى جميع القرآن. ذلك فضل الله لمن يجمع بين المراتب الطوليّة بلا فوت شيء منها وبين المعانـي العرضيّة بلا زوال شيء منها حيث انّه وُفّق للجمع السالم بينها، وامّا من ضعف عن ذلك بحيث إذا أحاط بشيء منها يفوت عنه غير ذلك, فحظّه الجمع المكسّر لا السالم منه لانّه لم يُعطَ جوامعَ الكلم ولا ينافـي شيئاً ممّا تقدم قول مولانا الصادق عليه السلام فـي قِبال من يقول إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف: "كذَبوا أعداءُ الله ولكنّه نزلَ على حرفٍ واحدٍ من عند الواحد" لأن ذلك الواحد جامع لمراتب طولية أو معانـيَ متعدّدة عرضيّة أو كليهما.
* آية الله الشيخ جوادي آملي
1- نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج 1 ، ص 206.
2- الكافي، الكليني، ج 8، ص 387.