بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ الله قد أهّل محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يحمل رسالة تحتوي على أُصول التشريع، وهي أُصول كلية وقواعد عامّة كشف عنها التشريع الإسلامي بواسطة محمّد صلى الله عليه وآله، والله هو الذي يعلم ما خلق وهو اللطيف الخبير، أمّا المتغيّرات فهي موجودة، وقد تطوّرات بشكل أكبر ممّا هي عليه من تطوّر بين الرسالات السابقة التي نسخت بعضها، وهي رسالات عيسى وموسى وإبراهيم ونوح، وأنّ منطقة الثبات في الدين هي منطقة أُصول الدين وأركان الفروع، أمّا التفاصيل التشريعية والعبادية والنظام السياسي والقضائي فخاضعة إلى التغيير، والأُصول التشريعية جامعة وثابتة.
مجهولات العلوم وحلولها:
ولكن هنا يطرح إشكال وهو: من يضمن سلامة وإتقان استنباط القضايا التفصيلية من الأُصول والقواعد الكلية بنحو يرتبط بدقّة بالشريعة الإسلاميّة؟
وعلى سبيل المثال: علم الرياضيات والهندسة والجبر والحساب، والتي تعدّ من العلوم البديهية تقريباً إلاّ أنّ المجهولات الهندسية والجبرية والرياضية والميكانيكية إلى الآن لم يستطع علماء الرياضيات أن يجدوا حلولا لها، مع أنّ حلولها توجد في الأُسس الأولية لعلم الرياضيات من عمليات الطرح والجمع والضرب والقسمة، وعلم الرياضيات علم معصوم، وإذا حدث خطأ ما فالخطأ في الشخص الذي استعمل الرياضيات بصورة خاطئة لا في علم الرياضيات نفسه، وقد استمعت للعديد من المقابلات مع نجوم علوم الرياضيات، وقد قالوا: إنّ علم الرياضيات الموجود بصورته الحالية يرجع إلى تسع معادلات ـ حسب كلامهم ـ وبعضهم قال: إنّها ست معادلات إلاّ أنّ العقل البشري لا يستطيع استيعاب الأُسس التي قامت عليها هذه المعادلات، ولا يعرف ما وراءها، وقد أكّد لي أحد حاملي شهادة الدكتوراه هذه الحقيقة.
وهم يقولون: إنّنا لو استطعنا معرفة الأسرار التي تقف وراء هذه المعادلات لاستطعنا أن نكتشف العديد من الأسرار المذهلة في الكون، وهذا العجز البشري في معرفة هذه الأسرار لا يعني عجز علم الرياضيات في نفسه، وإنّما النقص في من يستنبط هذه النتائج من هذا العلم، وهذا لا يقتصر على علم الرياضيات، وإنّما ينطبق على باقي العلوم.
الإمام عنده علم تأويل الكتاب:
من الذي يستطيع من بعد محمّد صلى الله عليه وآله أن يحفظ شريعة محمّدصلى الله عليه وآله التي تغطّي كلّ المتغيّرات؟ وهذا السؤال لا يجد جواباً إلاّ عند مدرسة أهل البيت عليهم السلام، بحيث تعتقد أنّ الإمام عنده علم الكتاب كلّه، ومن هنا نحن نقول: إنّ هذا المقام يعدل مقام أُولي العزم من الأنبياء السابقين عليهم السلام، وإن كنت لست في مقام إثبات هذا الأمر إلاّ أنّها إشارة معترضة; لأنّ الذي يحيط بأُسس شريعة وأُصول عامّة تغطّي المتغيّرات لملايين البشر حتّى يوم القيامة، هو الذي يستطيع الإحاطة بعلم الكتاب كلّه، وهذا علمه يزيد على علم الأنبياء السابقين، والفترة التي كانت فيها شرائع الأنبياء السابقين شرائع محدودة بفترة معيّنة قد تطول أو تقصر، وكلّها نسخت بشريعة النبي، فالذي يقوم مقام النبي في خلافته ـ باستثناء النبوّة ـ في تغطية حاجيات البشر من خلال المتغيّرات التي تطرأ على البشر، فهو الحافظ للشريعة، كما يعرّفه الإمامية بهذا التعريف باعتباره القادر على تغطية الشريعة للمتغيّرات.
التأويل لا يعلمه إلاّ الله والراسخون في العلم، وللتأويل معان عديدة، منها: تطبيق الأُسس على المتغيّرات، كما حدث بين موسى عليه السلام والخضر في قضية السفينة والغلام والجدار التي يذكرها القرآن في سورة الكهف، بحيث يكون الانطباق بين الشريعة والمتغيّرات انطباقاً يقينياً يؤثّر في مستقبل القضية، فبقاء الجدار وعدمه، وبقاء الغلام وعدمه، وخرق السفينة وعدمها، يترتب عليه أُمور عديدة ونتائج مختلفة، ولو بقي هذا الغلام لانقطع نسل سبعين نبياً، كما ورد في بعض الروايات التي يرويها الفريقان1، أي: سيحدث منعطف خطير في حياة البشرية لو قدّر لهذا الغلام أن يبقى.
أين يوجد الإمام المهدي؟
المشكّكون في وجود المهدي يطرحون إشكالا مفاده: أنّه أين يوجد المهدي، وما هي نشاطاته؟
النشاط المهم في الدولة هو النشاط السري والاستخباري، والقوّة تكمن في الخفاء وليس الغياب عن ميدان العمل الذي يعني تلاشي التأثير والفاعلية.
الغيبة مقابل الظهور، وليس مقابل الحضور:
هناك غيبة مقابل الظهور، وهناك غيبة مقابل الحضور، وغيبة الإمام المهدي هي من نوع الغيبة مقابل الظهور وليس الغيبة مقابل الحضور; لأنّ الإمام المهدي عجّل الله فرجه حاضر، ونحن نعبّر عن عصره بعصر الظهور، ونتكلّم عن علامات الظهور، ولا نعبّر عنه بعصر الحضور، وعلامات الحضور، وعصر الظهور هو العصر الذي تنكشف فيه هوية الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف للملأ، والإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف موجود ونشط.
اختلاف أنماط الحكومات، وأهمية الأجهزة السرية:
الآن أنماط الحكومة تختلف، حتّى القبيلة هي نمط من أنماط الحكومة، والعشيرة والطائفة التي تمتلك مواردها الخاصة وقوانينها الخاصة وقدراتها الخاصة وروافدها الثقافية الخاصة.
إذاً المجتمع مجموعة قوى، كلّ قوّة لها إمكانياتها الخاصة، ولذلك الأدبيات السياسية التي تحلّل المرجعية الشيعية تقول: إنّها حكومة، ولكن حكومة شبه رسمية أو نصف رسمية، حيث إنّ المرجعية الشيعية لها وزارة ثقافة تتصدّي للغزو الثقافي والوضع الفكري المنحرف وتنشر الوعي، ووزارة دفاع تتمثّل في فتاوى الجهاد، ووزارة مالية تتمثّل في جمع الضرائب والأخماس وغيرها، وهذه الوزارات ليست وزارات لها مباني، وإنّما هي وزارات لها نفوذ اجتماعي، والحكومات ليست هي الحكومات الرسمية فقط، وإنّما الحكومات هي القوى التي تمتلك النفوذ الاجتماعي سواءً كانت رسمية أو غير رسمية، وهناك أجهزة تدير العالم في زماننا هذا في الحقل المالي، وحقل التسلّح العسكري والمصرف والإعلام، هذه كلّها أجهزة سرية تدير العالم، ولا نعرف من يقف وراءها، فليس معنى النفوذ والنشاط أن يكون هذا النشاط معلناً ومن يقف وراءه معلناً، ولا يوجد رابط بين القدرة على الحكم وبين إعلان الحاكم، بل حتّى الحكومات المعلنة تقف وراءها أجهزة سرية.
الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف حاضر وموجود ونشط في مختلف القضايا، ولو تأمّلنا في هذه الآية من سورة الكهف ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾2. لوجدنا أنّ هذه القصّة تشير إلى مجموعة من العباد الذين آتاهم الله رحمة من عنده وعلماً لدنّياً يقومون بأدوار خفيّة على طبق البرنامج والأوامر الإلهية في إدارة المجتمعات.
يقول الإمام الباقرعليه السلام: "إنّ علياًعليه السلام كان محدّثاً... يحدّثه ملك. قلت: تقول: إنّه نبي؟ قال فحرّك يده هكذا: أو كصاحب سليمان، أو كصاحب موسى..."3.
ولولا علم التأويل لم يقتنع موسى عليه السلام بما فعله الخضرعليه السلام، ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾4، عندما عرف التأويل اقتنع ورضي بما فعله الخضر على ضوء أُسس شريعته التي تغطّي هذه المتغيّرات، والنبي موسى لم يكن عنده هذا التأويل، مع أنّه كان من أنبياء أُولي العزم بنص سورة الكهف، بل كان عند غيره، والله تعالى لم يصف الخضر بأنّه نبي من الأنبياء أو رسول من الرسل، وإنّما وصفه بأنّه عبد من عباد الله، وقال تعالى آتيناه علماً لدنّياً حينما عبر بـ ﴿من لدنا﴾، والعلم اللدنّي هو السبب المتصل بين الأرض والسماء.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: "أنا أقاتل على التنزيل، وعلي يقاتل على التأويل"5، والعلم الذي عند الإمام علي عليه السلام هو من عند رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو القائل "علّمني رسول الله صلى الله عليه وآله ألف باب يفتح كلّ باب ألف باب"6.
إذاً سورة الكهف تثبت بأنّ الإنسان الذي يمتلك العلم اللدنّي يستطيع أن يغطّي كلّ المتغيّرات حتّى ولو لم يكن نبياً، فهو باعتباره يمتلك العلم اللدنّي من عند الله فهو لا يخطىء، وهو يستطيع أن يربط بين هذه الحلقة في هذا الزمن بحلقات أُخرى في أزمنة قادمة، وهذا عمل جبّار، فلا يستطيع أحدنا أن يخطّط لعمل اجتماعي لخمسين سنة قادمة، مع معرفة كلّ العوائق والسلبيات التي ستعترضه في هذا المجال، فجميع التخطيط البشري يتبيّن فشله أو فشل أجزاء منه بنسب مختلفة بسبب قصور الفكر البشري عن استيعاب كلّ الجوانب، فبعد إتمام المشروع تتبيّن النواقص التي فيه.
والإمام هو صاحب العلم اللدنّي، وهذا العلم اللدنّي يؤهّله أن يخبر عن الله، ولكن ليس بمعنى أن يكون نبياً أو يكون صاحب شريعة جديدة، وهذا تماماً ما حدث للخضر الذي حاور موسى بنفس الأُسس الشرعية في شريعته هو، فسورة الكهف تخبرنا عن مقام إلهي تحتاج إليه البشرية، وهذا المقام يستوجب الاطلاع على إرادة الله، كما ورد في الآية: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾7.
ولو تأمّلنا في الآية لوجدنا أنّ الخضر مطّلع على إرادة الله من خلال قوله ﴿فأراد ربك﴾، وهذا القول لا يعني أنّ الخضر قد أتى بشريعة جديدة من عند الله، وإنّما هو تطبيق للشريعة بأُسسها العامّة التي تغطّي كلّ المتغيّرات.
المتغيّرات كثيرة، ولكن الشريعة تغطّيها:
إذاً نحن نتّفق مع مدرسة العلمانية "السكولارزم" بأنّ المتغيّرات كثيرة وكبيرة، ولكن الأُسس الدينية قادرة على التغطية والاستيعاب لكلّ هذه المتغيّرات، كما أنّ الأُسس العامّة للرياضيات تغطّي جميع المجهولات الرياضية.
لا يمكن الاكتفاء بظاهر اللفظ القرآني.. فالذي يدّعي أنّ الشريعة مقتصرة على ظواهر القرآن يجني على الشريعة، والقرآن يقول: إنّه تبيان لكل شيء8، ويقول: إنّ الراسخين في العلم يعلمون تأويل القرآن9، والآيات المحكمات والمتشابهات هي في القرآن المنزل وفي ظواهر القرآن، أمّا الكتاب المبين في لوح محفوظ في كتاب مكنون10 في عوالم الغيب ذلك موجود فيه كلّ شيء وهو تبيان لكل شيء، أمّا ظواهر القرآن فهي ليست تبياناً لكلّ شيء في التشريع ـ فضلا عن العلوم الأُخرى ـ وإلاّ فكيف نجمع بين وجود المحكمات والمتشابهات وبين قوله تعالى ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْم﴾11، وهذه الآية تقول: إنّ هذه الآيات البيّنات في صدور الذين أوتوا العلم، ولم تقل: إنّه في المصحف.
هل يمكن أن يوجد كتاب في الرياضيات يحتوي على حلّ جميع المجهولات الرياضية؟ طبعاً لا يوجد.
العالمون بالتأويل، وأصحاب العلم اللدنّي موجودون في أُمّة محمّد، وهم الأئمةعليهم السلام:إذا كان القرآن يحدّثنا عن وجود التأويل عند الذين أوتوا العلم اللدنّي في زمن موسى، فهل هذا الموقع شاغر في أُمّة محمّد صلى الله عليه وآله أم أنّ هناك من لديه العلم اللدنّي في أُمّة محمّد صلى الله عليه وآله؟
إذا كانت شريعة محمّد صلى الله عليه وآله سيدة الشرائع، وهي الشريعة الخالدة، فلا بدّ من وجود هذا الموقع، وينبغي الإشارة إلى أنّ المسلمين مجمعون على الخضر، قال الإمام الصادق عليه السلام: "... إنّ الله تعالى لمّا كان في سابق علمه أن يقدِّر من عمر القائم عليه السلام في أيّام غيبته ما يقدّره، وعلم ما يكون من إنكار عباده بمقدار ذلك العمر في الطول، طوّل عمر العبد الصالح من غير سبب أوجب ذلك إلا لعلة الاستدلال به على عمر القائم عليه السلام..."12.
الله تعالى يقول: إنّ في هذه الأُمّة يوجد راسخون في العلم يعلمون التأويل، والكتاب كلّه بيّن ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾13، الآيات عندهم كلّها بيّنة ليس بعضها محكم والآخر متشابه في صدور أولئك الذين أوتوا العلم.
فمدرسة العلمانية "السكولارزم" تثبت ـ من حيث لا تشعر ـ ضرورة وجود من يحيط بالمتغيّرات في الشريعة، وهذا ما تجيب عليه المدرسة الإمامية التي تعتقد بوجود الأئمة عليهم السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، وتعطيهم منصب الإحاطة بالشريعة والمتغيّرات التي توجد حلولها في هذه الشريعة، وفي عصر الغيبة تعتقد بوجود صاحب الزمان عجّل الله فرجه، وتعتقد باستحقاقه لهذا المقام.
آية الله الشيخ محمد سند
1-تفسير نور الثقلين 3: 286، ذيل سورة الكهف، الحديث 171 ـ 174.
2-الكهف 18: 65.
3-تفسير كنز الرقائق 8: 105.
4-الكهف 18: 82.
5-الفصول المهمة في أُصول الأئمة 1: 569، الحديث 859.
6-الفصول المهمة في أصول الأئمة 1: 565، الحديث 848.
7-الكهف 18: 82.
8-النحل 16: 89.
9-آل عمران 3: 7.
10-الواقعة 56: 78.
11-العنكبوت 29: 49.
12-كتاب الغيبة: 172، الحديث 129.
13-العنكبوت 29: 49.