بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ الأدب هو الهيئة الحسنة التي ينبغي أن يقع عليها الفعل المشروع إمّا في الدين أو عند العقلاء في مجتمعهم، كآداب الدعاء وآداب ملاقاة الأصدقاء، وإن شئت قلت: الأدب بالمعنى العامّ هو: ظرافة العمل 1.
ولا يكون إلاّ في الاُمور المشروعة غير الممنوعة، فلا أدب في الظلم والخيانة، ولا أدب في الأعمال الشنيعة والقبيحة، ولا يتحقّق أيضاً إلاّ في الأفعال الاختيارية التي لها هيئات مختلفة فوق الواحدة، حتّى يكون بعضها متلبّساً بالأدب دون بعض، كأدب الأكل مثلا في الإسلام.
فالأدب هو الهيئة الحسنة في الأفعال الاختيارية، والحسن وإن كان بحسب أصل معناه، وهو الموافقة لغرض الحياة ممّا لا يختلف فيه أنظار المجتمعات، لكنّه بحسب مصاديقه ممّا يقع فيه أشدّ الخلاف، غير أنّ هذه الاختلافات جميعاً ترجع إلى مرحلة تشخيص المصداق، وأمّا أصل معنى الأدب وهو الهيئة الحسنة التي ينبغي أن يكون عليها الفعل، فهو ممّا أطبق عليه العقلاء ولايختلف فيه اثنان.
فالأدب كالمرآة الصافية يحاكي خصوصيات أخلاق المجتمع بما يحملون من الثقافة والمعتقدات.
وليست الآداب هي الأخلاق بل هي من منشآتها، والأخلاق من مقتضيات الاجتماع بخصوصه بسبب غايته الخاصّة، فالغاية المطلوبة للإنسان في حياته هي التي تشخّص أدبه في أعماله، وترسم لنفسه خطاً لا يتعدّاه إذا أتى بعمل في مسير حياته والتقرّب من غايته.
وإذا كان الأدب يتبع في خصوصيّته الغاية المطلوبة في الحياة، فالأدب الإلهي الذي أدّب الله سبحانه به أنبياءه ورسله صلى الله عليه وسلم هو الهيئة الحسنة في الأعمال الدينية التي تحاكي غرض الدين وغايته، وهو العبودية لله سبحانه على اختلاف الشرائع الحقّة بحسب كثرة موادّها وقلّتها، وبحسب مراتبها في الكمال والرقيّ.
والإسلام لمّا كان من شأنه التعرّض لجميع جهات الحياة الإنسانية بحيث لايشذّ عنه شيء من شؤونها، يسير أو خطير، دقيق أو جليل، فلذلك وسع الحياة أدباً، ورسم في كلّ عمل هيئة حسنة تحاكي غايته.
وليس له غاية عامّة إلاّ توحيد الله سبحانه في مرحلتي الاعتقاد والعمل جميعاً... وبذلك يسري التوحيد في باطنه وظاهره، وتظهر العبودية المحضة من أقواله وأفعاله وسائر جهات وجوده ظهوراً لا ستر عليه، فالأدب الإلهي أو أدب النبوّة والإمامة، هي هيئة التوحيد في الفعل والعمل.
وخاتم النبيّين وسيّد المرسلين محمّد صلى الله عليه وآله أدّبه ربّه كما قال: أدّبني ربّي فأحسن تأديبي 2.
ثمّ أمر سبحانه العباد أن يهتدوا بهديه ويقتدوا به في قوله تعالى: ﴿لَـقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾3.
وما جاء به النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله من الآداب والسنن إنّما يطابق الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، وإنّه عزّ وجلّ لا يكلّف نفساً إلاّ وسعها، وما آتاها، فلا يأتي النبيّ صلى الله عليه وآله ما تنفر منه الفطرة السليمة، إنّما يأتي بما هو الصالح من الأعمال والأفعال الذي يقرّب العباد إلى الله سبحانه، وبهذا تصلح اُمورهم وينالون السعادة في الدنيا والآخرة ويصلون إلى قمّة الكمال وهو التوحيد الصادق في كلّ الأحوال 4.
وقد أدّب الله خلقه ورسله بآداب عامّة.. كما أدّبهم بآداب خاصّة، ومن الأوّل تأديبهم بأدب جامع في قوله تعالى.
﴿يَا أيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّـبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإنَّ هَذِهِ اُمَّتُكُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً وَأ نَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُون﴾5 .
أدّبهم تعالى أن يأكلو
ا من الطيّبات، أي أن يتصرّفوا في الطيّبات من موادّ الحياة ولا يتعدّوها إلى الخبائث التي تنفر منها الفطرة السليمة، وأن يأتوا من الأعمال بالصالح منها، وهو الذي يصلح للإنسان أن يأتي به ممّا تميل إليه الفطرة بحسب ما جهّزها الله من أسباب تحفظ بعملها بقاءها إلى حين، أو أن يأتوا بالعمل الذي يصلح أن يقدّم إلى حضرة الربوبيّة، والمعنيان متقاربان، فهذا أدب يتعلّق بالإنسان الفرد.
ثمّ وصله تعالى بأدب اجتماعي فذكر لهم أنّ الناس ليسوا إلاّ اُمّة واحدة: المرسلون والمرسل إليهم، وليس لهم إلاّ ربّ واحد فليجتمعوا على تقواه، ويقطعوا بذلك دابر الاختلافات والتحزّبات ـ وهذا تحذير من السيّد الطباطبائي قدس سره لدعاة الأحزاب والتحزّب، فإنّه يتنافى مع روح القرآن الكريم ـ فإذا التقى الأمران أعني الأدب الفردي والاجتماعي تشكّل مجتمع واحد بشري مصون من الاختلاف يعبد ربّاً واحداً، ويجري الآحاد منه على الأدب الإلهي فاتّقوا خبائث الأفعال وسيّئات الأعمال فقد استووا على أريكة السعادة. وهذا ما جمعته آية اُخرى، وهي قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أوْحَـيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إ بْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أنْ أقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَـتَـفَرَّقُوا فِيهِ﴾6 .. انتهى كلامه رفع الله مقامه7 .
أفضل الهدى وأشرف السنن
فاقتدوا بهدى رسول الله صلى الله عليه وآله فإنّه أفضل الهدى، واستنّوا بسنّته فإنّها أشرف السنن8.
وإليك ما قاله أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في نهجه المبارك في التأسّي بالنبيّ محمّد والأنبياء المرسلين9.
رسول الله:
ولقد كان في رسول الله صلى الله عليه وآله كاف لكَ في الاُسوة، ودليلٌ لكَ على ذمّ الدنيا وعَيبها، وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قُبِضت عنه أطرافها، ووُطِّئت لغيره أكنافها، وفُطم عن رَضاعها، وزُوي عن زخارفها.
موسى:
وإن شئتَ ثنَّيتُ بموسى كليم الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: ربِّ إنّي لما أنزلتَ إليَّ من خير فقير.. والله، ما سأله إلاّ خبزاً يأكله، لأ نّه كان يأكل بقلة الأرض، ولقد كانت خُضرة البَقل تُرى من شفيف صفاق بطنه، لهزاله وتشذُّب لحمه.
داود:
وإن شئت ثلَّثتُ بداود صلى الله عليه وسلم صاحب المزامير، وقارئ أهل الجنّة، فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده، ويقول لجلسائه: أيّكم يكفيني بيعها! ويأكل قرص الشعير من ثمنها.
عيسى:
وإن شئت قلت في عيسى بن مريم عليه السلام ، فلقد كان يتوسَّد الحجر، ويلبس الخشن، ويأكل الجشب، وكان إدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم، ولم تكن له زوجةٌ تفتنه، ولا ولدٌ يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يُذلُّه، دابَّته رجلاه، وخادمه يداه.
الرسول الأعظم:
فتأسَّ بنبيّك الأطيب الأطهر صلى الله عليه وآله فإنّ فيه اُسوةً لمن تأسّى، وعزاءً لمن تعزّى، وأحبُّ العباد إلى الله المتأسّي بنبيّه، والمقتصّ لأثره، قضم الدنيا قضماً، ولم يعِرها طرفاً، أهضم أهل الدنيا كشحاً، وأخمصهم من الدنيا بطناً، عُرِضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعَلِمَ أنّ الله سبحانه أبغض شيئاً فأبغضه، وحقَّر شيئاً فحقّره، وصغَّر شيئاً فصغّره. ولو لم يكن فينا إلاّ حبّنا ما أبغض الله ورسوله، وتعظيمنا ما صغَّر الله ورسوله، لكفى به شقاقاً لله، ومُحادَّةً عن أمر الله. ولقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرفع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويُردف خلفه، ويكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول: يا فلانة ـ لإحدى أزواجه ـ غيِّبيه عنّي، فإنّي إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها. فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذِكرها من نفسه، وأحبَّ أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتّخذ منها رياشاً، ولا يعتقدها قراراً، ولا يرجو فيها مقاماً، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيّبها عن البصر. وكذلك من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه، وأن يُذكر عنده.
ولقد كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدُلُّك على مساوئ الدنيا وعيوبها: إذ جاع فيها مع خاصّته، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زُلفته. فلينظر ناظرٌ بعقله: أكرَمَ الله محمّداً بذلك أم أهانه! فإن قال: أهانه، فقد كذب ـ والله العظيم ـ بالإفك العظيم، وإن قال: أكرمه، فليعلم أنّ الله قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له، وزواها عن أقرب الناس منه. فتأسّى مُتأسٍّ بنبيّه، واقتصَّ أثره، ووَلَجَ مَولِجه، وإلاّ فلا يأمن الهَلَكَة، فإنّ الله جعل محمّداً صلى الله عليه وآله عَلَماً للساعة، ومبشّراً بالجنّة، ومنذراً بالعقوبة، خرج من الدنيا خميصاً، وورد الآخرة سليماً. لم يضع حجراً على حجر، حتّى مضى لسبيله، وأجاب داعي ربّه. فما أعظم مِنَّة الله عندنا حين أنعم علينا به سَلَفاً نَتَّبعه، وقائداً نَطَأُ عَقِبه، والله لقد رقَّعتُ مِدرعتي هذه حتّى استحييت من راقعها. ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها عنك؟ فقلت: اغرُب عنّي، فعند الصباح يحمد القوم السُّرى.
السيد عادل العلوي
1- وقد اُطلقت كلمة (الأدب) في اللغة والمحاورات العرفيّة على معان اُخرى، كالدقّة في الاُمور، والاقتداء بالغير، والعلوم والمعارف، والسيرة المحمودة، والأخلاق الحسنة، وقوّة تقي صاحبها عن اقتراف السيّئات ويطلق على بعض مقدّمات العلوم النقليّة، كاللغة والصرف والنحو والاشتقاق والمعاني والبيان والبديع والعروض والقافية ونحو ذلك، كما يطلق على الأخلاق الفاضلة وصفاء الروح وكمال النفس، ويطلق (الأديب) على المعلّم والكاتب والخطيب والشاعر. والمقصود في هذا الموجز العمل الحسن الذي أقرّه =الشرع والعقل، يؤتى به على أفضل الوجوه وأجملها، ويختلف عن الأخلاق: أ نّها من صفات الباطن كالسخاء والشجاعة، والأدب من صفات الظاهر أو ما يصدر من الإنسان من فعل في الواقع الخارجي. فلا يطلق (الأدب) على الفعل غير المحمود عند العقل والدين كالكذب والخيانة والظلم، وما أكثر الروايات التي تنصّ على مدح (الأدب) ومقامه الشامخ في حياة الإنسان.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله : " حسن الأدب زينة العقل"، وقال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام : "الأدب حلل مجدّدة"، وقال الإمام الحسن عليه السلام : "لا أدب لمن لا عقل له".
2- البحار 16: 21.
3-الأحزاب: 21.
4-اقتباس من تفسير الميزان 7: 255. ولقد أجاد العلاّمة الطباطبائي قدس سره في هذا الباب، وقال بما فيه فصل الخطاب، فلا تتهاون بالرجوع إليه.
5- المؤمنون: 51 ـ 52.
6-الشورى: 13.
7-تفسير الميزان 7: 263، سورة الأعراف.
8-تحف العقول: 150.
9-نهج البلاغة: الخطبة 160