بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ القرآن نور وكتاب مبين وتبيانٌ لكلّ ما هو بصدد تَبْيِينه وهو أصدق قول وأحسن
موعظة وأهدى سبيلاً ومن ذلك انّه يُفسّر كل ما عداه ممّا يصدق عليه انّه شيء بأنّه
مخلوق لله تعالى حيث يقول
﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شيء﴾
ومعناه انّه لا هويّة لشيء ممّا سوى الله إلاّ مخلوق له أي لله تعالى فلا علّة
فاعليّة بالذّات له إلاّ هو تعالىٰ ولا غاية ذاتيّة له إلاّ هو سبحانه. وقد فسّر
هذا التثليث أي النظام الفاعلي والنظام الغائي والنظام الداخلي قوله تعالى:
﴿رَبُّنَا الذي أَعْطَى كُلَّ شيء خَلْقَهُ ثُمَّ
هَدَى﴾
إذ المعطي الحقيقي هو الله الذي منه يبتدىء النظام الفاعلي، والـمَهديّ إليه
الحقيقي هو الله الذي إليه يسير كلّ شيء و إيّاه يصير وهو منتهى النظام الغائي، و
خَلْق كلّ شيء حسب حاله وحياله وما يليق به للجذب والدفع هو النظام الداخلي لكلّ
شيء به يستفيض من المبدأ وبذلك يتوجّه إلى المقصد.
فعالم الكون هو عالم الخلقة المرتبطة بالخالق لا الطبيعة المنقطعة عنه فلا طبيعة
رأساً (على ما يقابل الخلقة)، فإذا لم يكن هناك طبيعةٌ فلا علمٌ طبيعيٌ أصلاً لأنّ
العلم تابع للمعلوم فإذا كان المعلوم بهويّته الذاتية وجميع شؤونه الكمالية من
التنمية والتغذية والتوليد وما إلى ذلك، مخلوقاً لله تعالى، فالعلم به على ما هو
عليه هو علم بالخلقة لا بالطبيعة ومن البيّن أنّ العلم بالخلقة، تفسير لكلمة الله
التكوينية حسبما أشار إليه قوله سبحانه
﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ
رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا
بِمِثْلِهِ مَدَداً﴾.
فإذا كان العلم بالخلقة تفسيراً لكلمات الله التكوينيّة فهو يكون كالتفسير المصطلح
الذي على عاتقه تفسير كلماته التدوينيّة علماً دِيْنِيّاً فلا علم إلاّ وهو علم
دينـيٌ، إلاّ أنّ هؤلاء قد مثّلوا المعلوم مُثْلةً بِقَصّ جناحه الأيمن والأيسر
وقطع رأسه الذي فيه العين والسمع والشمّ والذوق فهذا المقصوص والمقطوع والمُمَثَّل
الذي لا يَعْرِفه أحد قد صار موضوعاً للدراسة فـي الجامعات العلمية ومن الواضح أنّ
العلمَ به أيضاً كالمعلوم مقصوصٌ مقطوعٌ مُمثّلٌ لا يَهدي إلى شيء ولا يُخبر عن شيء
ولا يضرّ ولا ينفع إذ الجَسَد البالـي والبدن المقبور شجرة خبيثةٌ اجتثّت من فوق
الأرض وما لها من قرار.
والغرض أنّ القرآن الحكيم يُفسّر المعلومَ بأنّه خِلقةٌ لا طبيعةٌ وأنّ العقل
التجربـي الذي هو المدار فـي المنهج التجربـي وكذا العقل التجريدي الذي هو المحور
فـي المنهج التجريدي كلّ ذلك خلقةٌ لله تعالى لا أنّ ذلك من البشر وللبشر حتى يصحّ
له أن يقول إنّي علِمتُ وإنّي كشفتُ وإنّي أبْدَعتُ وإنّي فهمتُ وإنّي وإنّي و...،
لأنّ العقل سواء أدرك حكمةً نظريةً أو حكمةً عمليّةً فهو هبة الله سبحانه وأنّ فهمه
وعلمه وإبداعه وكشفه وما إلى ذلك، مواهب إلهيّة كما قال سبحانه:
﴿عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم﴾.
فالعقل سراجٌ مُنيرٌ قد نوّره الله حتى يرىٰ صراطه الخارج عنه فلم يوجِد العقل شيئاً
أصلاً بل رآه وأبصر به بإراءة الله سبحانه فليس للسراج الذي خلقه الباري وغذّاه
بالزيت وأتْقَنَه بالزجاجة حتى لا يَتموَّج شعاعه أن يدّعي شيئاً ويجازف أمراً، بل
عليه أن يستعيذ بالله من أن تُسوِّلَه نفسُه وتُبِيحَ له ما حَرَّمه الله عليه من
إسناد فعل الله إلى نفسه أو غيره لأنه فريةٌ وزورٌ. لأنّ العالِم والعلم والمعلوم
كلّه خلق الله وفيضه وفوزه بحيث لا يخلو شيءٌ من ذلك عن كونه كلمة الله وآيَتهُ
وخليقته إلاّ أنّ بعض ذلك أمرٌ عباديٌ لا يُقبل إلاّ بقصد القربة وبعضها توصّليٌ
كغسل الثوب القذر وتطهير البدن المتنجّس وما إلى ذلك ممّا لا يحتاج إلى قصدها. فليس
معنى كون جميع العلوم التجربيّة و التجريدية دينيّةً، لزوم قصد القربة فيها وإلاّ
لبَطَلَت و صارت عقيمةً لا تنتج فـي الصنائع ونحوهاوسبب تحاشي بعض الناس عن كون
العلوم بأسرها دينيّة هو زَعمُهم أنّ الدين منحصر فـي الدليل النقلي كالقرآن
والحديث وأنّ معنى كون شيء دينيّاً هو تصريح الدليل النقلي بكيفيّة ايجاد ذلك الشيء
وصنع جميع لوازمه وأدواته وقطعاته، و أمّا اذا اتّضح أنّ الدين هو الذي قرّره الله
سبحانه أولاً، وأوحى الى رسوله ثانياً، فيكون له كاشفان:
احدهما العقل البرهانـي وثانيهما النقل المعتبر ثالثاً ولابدّ من التعاون والتصادق
بينهما رابعاً فيكون جميع ما كشفه العقل البرهانـي وعلم به بالقطع حجةً دينيّةً يجب
على القاطع، العمل بذلك القطع ويحرم عليه تخطّيه وهكذا جميع ما دلّ عليه النقل
المعتبر خامساً.
و الغرض انه بعد التنبّه بأنّ الدين ما هو وأنّ منبعه الوجوديّ ما هو وأنّ منبع
معرفته المعصوم عن الخطأ والسهو والنسيان هو الوحي الذي يوحى به إلى النبـي صلى
الله عليه وآله وأنّ منبع معرفة ما اوحي اليه أي النبـي صلى الله عليه وآله إمّا
العقل البرهانـي وإمّا النقل المعتبر، فأي ذلك كشف ما هو الحق يكون امراً دينيّاً،
فليس معنى كون العلوم التجربيّة دينيّة هو صرف أنّ جهة تعليمها وتعلّمها وكيفيّة
الانتفاع بها مطابقة للدين أي لا يكون مصرفها حراماً وما إلى ذلك، بل يكون حلالاً
مقصوداً به التقرب الى الله وان كان ذلك حقّاً فـي الجملة لا أنّه الحق بالجملة.
آية الله الشيخ جوادي آملي