بسم الله الرحمن الرحيم
إتباع الهوى وطول الأمل هما مكمن الخطر والمأساة التي تصيب الإنسان. فاتباع الهوى يعد أعظم عقبة تعترض سبيل سعادة الإنسان. فالاستسلام المطلق للشهوات والأهواء النفسية يعد العدو اللدود لسعادة البشرية. القرآن الكريم من جانبه حذر حتى الأنبياء من هذا العدو الفتاك، ومنهم نبي اللَّه داود عليه السلام الذي قال بشأنه ﴿وَلا تَتَّبِعِ الهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾1.
كما صور هوى النفس في موضع آخر بالصنم الذي يعبد من دون اللَّه ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾2.
والحق أن اتباع الهوى ليعمي البصيرة ويصم السمع ويختم على العقل والفكر ويحول دون الإنسان وتمييز بديهيات الحياة، فهل هنالك من خطر أعظم وأفدح منه؟! ومن هنا اقتصر القرآن بوعده الجنّة لأولئك الذين يخشون اللَّه ويسيطرون على أهوائهم ﴿وَأَمّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهى النَّفْسَ عَنِ الهَوى* فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوى﴾3.
طول الأمل هو الآخر من أسوأ وأخطر العقبات التي تعترض سبيل السعادة الإنسانية؛ فقد دلت التجارب على مدى التأريخ أنّ آمال الإنسان الخيالية لا تقف عند حدود، فلا يزداد نحوها إلّا تعطشاً. ومن الطبيعي أنّ مثل هذه الآمال تشل حركة الإنسان وتسلبه جميع طاقاته الفكرية والبدنية ولا تبقي له شيئاً يشده نحو الآخرة. فاننا نعرف بعض الأفراد الذين عاشوا هذه الآمال الكاذبة حتى اللحظات الأخيرة من حياتهم دون أن يلتفتوا حتى لتربية فلذات أكبادهم. ومن عجائب هذه الآمال، أنّ الإنسان كلما تقدم أكثر كانت هذه الآمال أكذب بحيث تضاعف غرور الإنسان وتصده عن الواقع. وهذا هو الوضع السائد لدى الكفّار والذي أشار إليه القرآن في خطابه لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله ﴿ذرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَيَعْلَمُونَ﴾4، المعنى الذي أشار إليه الإمام عليه السلام في قصار كلماته في نهج البلاغة "من أطال الأمل أساء العمل"5.
ويبدو أن تلك الآمال متعذرة النيل من خلال الأسباب المشروعة، وهى لا تتيسر إلّا من خلال خلط الحلال بالحرام وهضم حقوق الآخرين ونسيان اللَّه والآخرة. ومن هنا حذر الإمام عليه السلام في الخطبة 86 من نهج البلاغة أولئك الذين ينشدون السعادة بالقول «واعلموا أنّ الأمل يسهي العقل وينسي الذكر فأكذبوا الأمل فانه غرور وصاحبه مغرور» ويبدو قصر الأمل على درجة من الأهمية بحيث اعتبره الإمام عليه السلام الركن الأصلي للزهد، وهذا ما أورده في الخطبة 81 من نهج البلاغة «أيها الناس، الزهادة قصر الأمل والشكر عند المنعم والتورع عند المحارم». وآمال الإنسان كانت ومازالت أبعد وأطول من عمر الإنسان وإمكاناته وقدراته؛ الأمر الذي لا يجعل أهل الهوى وطلاب الدنيا يحققون تلك الآمال ويظفروا بها أبداً، وغالباً ما يودعون الدنيا بمنتهى الانزجار والاستياء في لحظات نزع أرواحهم. وبالطبع لا ينبغي الغفلة عن الأمل بشكل الدافع الأساس لسعي الإنسان وجهده وانطلاقته في هذه الحياة، وعليه فالأمل حسن وليس بقبيح ولا يمكن مواصلة الحياة من دونه، إلّا أنّ المذموم إساءته وطوله وبعده عن الواقع واستناده إلى الوهم والخيال. ومن هنا ورد في الحديث "الأمل رحمة لامتي ولولا الأمل ما رضعت والدة ولدها ولا غرس غارس شجراً"6.
وبناءً على ما تقدم فان وظيفة أساتذة الأخلاق خطيرة ثقيلة؛ وذلك لأنّهم لابدّ أن يضيئوا نور الأمل في قلوب الناس من جهة ومن جهة اخرى ينبغي أن يبقوا عليه متوازناً بعيداً عن الإفراط. والآمال المنطقية هى تلك التي تنسجم ومتطلبات الإنسان وقدراته الواقعية بحيث لا تبعده عن هدفه المنشود. وبالطبع فانّ الإسلام لا يعارض التخطيط والبرمجة من أجل المستقبل والتطلع إلى الغد ولا سيما بالنسبة للأنشطة الاجتماعية التي تعود بالنفع على المجتمع الإسلامي وتضع حداً للتبعية لأعداء الإسلام، فانّ مثل هذه الأنشطة ليست مذمومة فحسب، بل تعتبر عبادة، والمذموم في الإسلام أنّ الإنسان يغرق في هالة من الآمال الفارغة التي تنسي الآخرة، وبالتالي لا يظفر الإنسان بها مهما جند طاقته وإمكاناته.
وفي الحياة الفردية المطلوب هو التفكير في العاقبة والذي إصطلحت عليه الروايات بالحزم.
والمذموم في الإسلام أن يغرق الإنسان في الأمل حتى ينسى الآخرة، ويفني كل طاقته وقواه في ذلك الأمل الذي لن يبلغه قط.
آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي- بتصرّف
1-ص: 26.
2- الجاثية: 23.
3- النازعات:40- 41.
4- الحجر: 3.
5-نهج البلاغة، الكلمات القصار/ 36.
6-بحار الأنوار 74/ 173.