بسم الله الرحمن الرحيم
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشعر بدنو أجله وأحسّ المسلمون بذلك في حجة
الوداع، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أن الكتاب والسنة دون مبين لهما غير
كافيين لمواصلة المسيرة المباركة التي ابتدأها، لذلك أعلن في حجة الوداع على مرأى
ومسمع الالوف من الحجّاج مرجعية أهل البيت1عليهم السلام الفكرية
والسياسية2.
وقد نقل لنا مسلم هذه الوصية التاريخية في صحيحه وبعدة طرق: قال زيد بن أرقم ـ أحد
رواة الحديث ـ: "قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يوماً فينا خطيباً بماء يُدعى خُمّاً بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ
وذكَّر، ثم قال: أمّا بعد ألا أيُّها الناسُ فإنّما أنا بشرٌ يوشك أن يأتي رسول
ربّي فأُجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا
بكتاب الله واستمسكوا به"، فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ثمّ قال: "وأهلُ
بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي"3.
وفي صحيح الترمذي ومستدرك الحاكم ـ وصححه ـ: "إني تارك
فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الاخر: كتاب الله حبل ممدود من
السماء إلى الارض، وعترتي أهل بيتي، لن يتفرقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف
تخلفونني فيهما"4.
ولقد روى هذا الحديث عن النبي خمسة وثلاثون صحابياً 5، وصحّحه كثير من
علماء الحديث، منهم: الحاكم في المستدرك، الذهبي في تلخيص المستدرك، الهيثمي في
مجمع الزوائد، وابن كثير في تاريخه، والسيوطي في الجامع الصغير 6، وابن
تيمية ذكره في منهاج السنة عدّة مرات، وصححه من المعاصرين الالباني المحدّث
السلفي7، والمحدث الاشعري الحسن السقّاف 8.
وبالرغم من أنّ الحديث صريح في وجوب اتباع الثقلين معاً الكتاب وأهل البيت عليهم
السلام، إلاّ أنّ البعض شكك فيه وعندما اصطدم برواية مسلم قال:"الحديث الذي في مسلم
إذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قاله!! فليس فيه إلاّ الوصية باتباع
الكتاب، وهولم يأمر باتّباع العترة، ولكن قال: "أذكركم
الله في أهل بيتي"9.
ومن الطبيعي إنّ الذي يعتصر مخيلته ليصرف أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في
أهل بيته عليهم السلام عن معانيها يقع في هذه المطبات، فإذا كان الامر مجرد تذكير،
فلماذا يقرنهم بالقرآن فيقول: "إني تارك فيكم الثقلين"
و"لن يفترقا" و"حتّى
يردا".
وقد أسعفنا الالباني برواية صحّحها، ترد على التشكيك السابق، فعن زيد بن ثابت قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إني تارك فيكم
الخليفتين من بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يتفرقا حتّى يردا عليَّ
الحوض"10.
أمّا حديث "كتاب الله وسنتي" فهو غير صحيح، فقد قال فيه أحمد سعد حمدون: "سنده
ضعيف" فيه "صالح بن موسى الطلحي"،
قال فيه الذهبي: ضعيف، وقال يحيى: ليس بشيء ولا يكتب حديثه، وقال البخاري: منكر
الحديث، وقال النسائي:" متروك"11.
وذهب الحسن السقّاف ـ وهو المحدث الخبير ـ إلى أنّ لفظ "وسنتي" موضوع 12.
أمّا في مصادر الحديث، فقد ورد في موطأ مالك بدون سند 13، ورواه الحاكم
في مستدركه 14 بسندين أحدهما فيه ابن أبي أُويس وهو ضعيف15
والاخر فيه صالح بن موسى الطلحي وهو مجروح 16. ورواهُ البيهقي بإسنادين،
واحد: فيه ابن أبي أُويس، والثاني: فيه صالح بن موسى الطلحي، وقد عرفت حالهما، ووصل
ابن عبد البر في التمهيد حديث الموطأ من حديث كثير بن عبدالله وهو مجمع على ضعفه
فلا يحتج بحديثه.
وهكذا اتضح الحق مبيناً لكل ذي بصيرة لم ينخرها العناد بالفساد.
مروان خليفات - بتصرّف
1- ونعني بأهل البيت
إضافة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والزهراء (عليها السلام) الائمة الاثني عشر
عليهم السلام أولهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) ثم الحسن (عليه السلام) والحسين
(عليه السلام)وآخرهم المهدي المنتظر عجل الله فرجه، لمزيد من التفصيل انظر كتابنا "وركبت
السفينة"533 ـ 596.
2 - ولسنا الان بصدد التعرض للنص الذي يعلن مرجعية أهل البيت عليهم السلامالسياسية
ـ أعني نص الغدير ـ أجل فلندع أمر الخلافة قليلاً ولنرى الان أمر ديننا فمن أين
نأخذه ؟
3 - صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب (عليه السلام).
4- "صحيح الترمذي" ج5 كتاب المناقب 663/3788، "المستدرك" 3/148.
5 - وكل رواياتهم من طرق أهل السنة فراجعها في: "عبقات الانوار" ج1 وج2 و"ملحق
المراجعات" 327.
6 - راجع: "حديث الثقلين: تواتره ـ فقهه" لعلي الحسيني الميلاني.
7 - "صحيح الجامع الصغير" 2 / 217، رقم 2454.
8 - "صحيح صفة صلاة النبي" 289.
9- "منهاج السنة" 4 / 85.
10- "السنة" لابن أبي عاصم 337، رقم الحديث 754، "مسند أحمد" 5/182.
11 - "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" لابي القاسم اللالكائي السلفي 8، تخريج أحمد سعد
حمدون.
12 - راجع كلامه في "صحيح صفة صلاة النبي" 289 ـ 294.
13- "الموطأ" كتاب القدر، باب النهي عن القول بالقدر.
14- "مستدرك الحاكم" 1/93.
15 - راجع ترجمته في: "تهذيب التهذيب" 1/271. 6) راجع ترجمته في "تهذيب الكمال"
13/96، و"تهذيب التهذيب" 4/355.
16 - "السنن الكبرى" 10 / 114.