بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ الله سبحانه وتعالى هو الحكيم العليم المختار، وقد اختار من خلقه صفوةً ليحملوا رسالاته السماوية، ويبلّغوها ويهدوا الناس سواء السبيل وإلى الصراط المستقيم، فإنّه كتب على نفسه الرحمة، فهو اللطيف الخبير، ومن لطفه اختار الأنبياء والرسل للهداية وليقوم الناس بالقسط، ثمّ اختار الأوصياء خلفاء، ثمّ وفق العلماء ليكونوا ورثة الأنبياء.
وقد اشترط على الأنبياء الزهد في هذه الدنيا، فإنّ اختيار الله بالاختبار والامتحان والاصطفاء عن حكمة، من دون الوصول إلى حدّ الإلجاء، وإنّ لله الحجّة البالغة، فلا بدّ من اختبار لمن يقع عليه الاختيار ولغيره حتّى لا تكون فتنة، ويكون الدين كلّه لله.
فاختبر الأنبياء والأوصياء في عوالم تسبق هذا العالم الناسوتي، فشرط الله سبحانه عليهم الزهد، وعلم منهم الوفاء فقبلهم وقرّبهم وقدّم لهم الذكر العلي والثناء الجلي، كما جاء ذلك في دعاء الندبة1.
وإنّما اشترط عليهم الزهد، لأنّ حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة، والنبيّ والوصيّ لا بدّ أن يكون معصوماً بقاعدة اللطف وغيره من الأدلّة العقلية والنقلية.
فلا بدّ أن يزهد في دنياه، ويُعصم من الذنوب ومن كلّ ما يشينه مطلقاً، حتّى تطمئنّ النفس إليه، ويؤخذ بقوله وفعله وتقريره مطلقاً، فيكون الاُسوة والقدوة على الإطلاق.
وهذا الزهد من شؤون القيادة بصورة عامة المتمثّلة بالنبوّة والإمامة، ومن يحذو حذوهم ويسلك مسالكهم ومناهجهم من العلماء الصالحين.
فيشترط على العالم الرباني الزهد في هذه الدنيا أيضاً، حتّى يؤخذ بقوله ويتّبع أمره، وإذا رأيتم العالم زاهداً فادنوا منه فإنّه يلقى عليه الحكمة وإنّها تتفجّر من ينابيع قلبه، وإنّ الله يرفده ويضيّفه على موائد علمه وحكمته، وإذا رأيتم العالم مقبلا على دنياه، يخلط الحرام بالحلال، فاتّهموه في دينه، فإنّه لا يؤخذ منه العلم، فلينظر الإنسان إلى علمه ممّن يأخذه، فإنّه من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن تكلّم عن الله فقد عبد الله وإلاّ فلا، فمن ينطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان، وإنّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم.
فمن أوّليات شؤون الإمامة والقيادة الروحية على الصعيدين الفردي والاجتماعي الزهد في درجات هذه الدنيا الدنيّة وزخرفها وزبرجها.
فعصمة الأنبياء الذاتية المطلقة تبتني على العلم اللدني أوّلا ـ كما هو ثابت في محلّه ـ وعلى الزهد ثانياً.
وأمّا فاطمة الزهراء عليها السلام:
فقد اختارها الله من خلقه واختصّها لذاته واصطفاها لنفسه لتتجلّى فيها أسماؤه وصفاته، وتكون مظهراً لجماله، فإنّه لو كان الحُسن شخصاً لكان فاطمة بل هي أعظم، فقدّم لها الذكر العليّ والثناء الجليّ، بعد أن اختبرها وامتحنها أيضاً. إلاّ أ نّه تعالى امتحنها بالصبر، والصبر كما ذكرنا تكراراً هو اُمّ الأخلاق وأساسه، فإنّ الأخلاق بمراحله الثلاثة ـ التخلية والتحلية والتجلية ـ مدعوم بالصبر، كما أ نّه أساس الكمال.
وإنّما وقفنا على امتحانها بالصبر باعتبار ما ورد في زيارتها في يوم الأحد من كلّ اُسبوع، كما في مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمّي قدس سره: (السلام عليك يا ممتحنة، امتحنك الذي خلقك، فوجدك لما امتحنك صابرة).
فتجلّت العصمة الإلهية في جمال فاطمة الزهراء عليها السلام إذ جمعت بين نوري النبوّة والإمامة، فعصمتها من العصمة بالمعنى الأخصّ، المختصّة بالأربعة عشر معصوم عليهم السلام.
وممّا يدلّ على عصمتها:
1 ـ آية التطهير في قوله تعالى: ﴿إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَـيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾2، فالله عزوجل طهّر بإرادة تكوينية أهل البيت عليهم السلام ومنهم فاطمة عليها السلام وعصمهم بعصمة مطلقة واجبة عقلا ونقلا.
2 ـ إنّها عدل القرآن الكريم لحديث الثقلين المتّفق عليه عند الفريقين ـ السنّة والشيعة ـ ولمّا كان القرآن معصوماً فكذلك عدله أهل البيت عترة الرسول المصطفى عليهم السلام.
3 ـ إنّها كفؤ عليّ ولولاه لما كان لها كفؤ من آدم وما دونه، ولا يتزوّج المعصومة إلاّ المعصوم، فإنّ الرجال قوّامون على النساء، فلفاطمة ما لعليّ عليهما السلام إلاّ الإمامة.فكلّ ما ثبت لعليّ عليه السلام بالمطابقة ثبت للزهراء عليها السلام بالالتزام، وكلّ شيء ثبت لفاطمة بالمطابقة ثبت بالدلالة الالتزاميّة لأمير المؤمنين عليّ عليه السلام.
4 ـ إنّها حوريّة بصورة إنسية، والملائكة معصومون فكذلك فاطمة الحوريّة.
5 ـ وحدة الإرادة الإلهيّة والفاطميّة، فإنّ الله يرضى لرضاها ويغضب لغضبها، وإنّه لم يغضب ليونس صاحب الحوت، بل يغضب لغضبها، فوحدة الإرادة دليل على العصمة.
6 ـ إنّها سيّدة النساء في الدنيا والآخرة، وكيف تكون سيّدة الأوّلين والآخرين وهي غير معصومة.
7 ـ آية المباهلة، وقدّم النساء على الأنفس، ربما إشارة إلى أنّ النفوس فداها، " فداكِ أبوكِ " " فداها أبوها ".
8 ـ إنّها مفروض الطاعة على الخلق مطلقاً، وكيف تكون مفروض الطاعة على الإطلاق وهي غير معصومة.
9ـ هي حجّة الحجج واُسوتهم ـ كما ورد في الأخبار الشريفة..
10 ـ مجمع النورين بحديث الأفلاك، فتحمل أسرار النبوّة والإمامة، وإنّها اُمّ أبيها.
11 ـ امتحانها بالصبر وهو أساس الكمال والأخلاق الذي منها الزهد.
12 ـ الإجماع القطعي الدالّ على عصمتها، كما عند المشايخ الصدوق والمفيد والطوسي وغيرهم.
13ـ الآيات والروايات الكثيرة الدالّة على فضلها وعظمتها، وتعلّقها بعالم الغيب.
14 ـ سيرتها وحياتها يفوح منها عطر العصمة الإلهيّة.
ووجوه اُخرى يقف عليها المحقّق والمتتبّع، ويعلم بيقين وقطع أ نّه لا ريب ولا شكّ أنّ فاطمة الزهراء عليها السلام عصمة الله الكبرى.
السيد عادل العلوي - بتصرّف
1- راجع آخر مفاتيح الجنان دعاء الندبة الذي يستحبّ قراءته في كلّ عيد وفي يوم الجمعة.
2- الأحزاب: 33.