بسم الله الرحمن الرحيم
يـجـب ان نعلم ان بداية نشوؤ الشيعة, والتي سميت لأول مرة بشيعة علي (اول امام من ائمة اهل البيت عليهم السلام ) وعـرفـت بـهذا الاسم في زمن النبي الاكرم صلى الله عليه واله , فظهورالدعوة الاسلامية وتقدمها وانـتـشـارهـا خلال ثلاث وعشرين سنة, زمن البعثة النبوية, ادت الى ظهور مثل هذه الطائفة بين صحابة النبي الاكرم صلى الله عليه واله:
أ- وفي الايام الاولى من بعثته صلى الله عليه واله امر بنص من القرآن الكريم ان يدعوعشيرته الاقربين, و صـرح فـي جـمعهم ان اول من يبايعني على هذا الامر سيكون خليفتي ووصيي من بعدي, فكان علي عليه السلام اول مـن تـقدم, وقبل الاسلام, والنبي قبل ايمانه, وتعهد بكل ما وعده به, ويستحيل عادة على قـائد نـهـضة, وفي ايامها الاولى ان يعين احد اصحابه وزيرا وخليفة له على الاخرين, ولا يعرفه لـلـخـلص من اصحابه واعوانه, او ان يكتفي بهذا الامتياز ليعرفه وليعرفه, ولا يطلعه على مهمته طـوال حـيـاتـه ودعـوته, او ان يجعله بعيدا عن مسؤوليات الوزارة والخلافة ويغض النظر عن مقام الخلافة وما يجب ان يبدي لها من احترام وتقدير, ولا يفرق بينه وبين الاخرين.
ب- إن الـنـبي الاكرم صلى الله عليه واله وفقا للروايات المستفيضة والمتواترة عن طريق اهل السنة والشيعة, والتي يصرح فيها ان عليا عليه السلام مصون من الخطأ والمعصية في اقواله وافعاله, وكل ما يقوم به فهو مطابق للدعوة وللرسالة, وهو اعلم الناس بالعلوم الاسلامية وشريعة السماء.
ج- قام الامام علي عليه السلام بخدمات جمة للرسالة وتضحيات مدهشة, كمنامه في فراش النبي صلى الله عليه واله ليلة الـهجرة فلو لم يكن الامام علي عليه السلام مشاركا في احدى الغزوات (بدر واحد والخندق وخيبر), لما حقق الاسلام ولا المسلمون انتصارا فيها ولكان القتل والفشل حليفهم.
د- مـوضـوع غـدير خم, والذي اعلن فيه النبي الاكرم صلى الله عليه واله الولاية العامة لعلي عليه السلام فجعله على المسلمين ما كان له عليهم.
مـن الـطـبـيعي, ان هذه الخصائص والفضائل التي انفرد بها الامام علي عليه السلام , والتي هي مورد اتفاق الجميع, والعلاقة الخاصة, التي كان يبديها النبي الاكرم صلى الله عليه واله جعلت له مؤيدين محبين مخلصين, من صحابة النبي وأنصاره, كما أثارت لدى بعضهم الآخرالحقد والحسد.
وفـضلا عن هذا كله, فان كلمة شيعة علي و شيعة أهل البيت قد جات في كثير من اقوال النبي صلى الله عليه واله.
سبب انفصال الاقلية الشيعية عن اكثرية السنة, وظهور الاختلافات:
كـان شيعة علي عليه السلام واصحابه يعتقدون اعتقادا راسخا ان الخلافة ستكون لعلي عليه السلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه واله وذلـك لـمـا كـان يـتسم به عليه السلام من مقام ومنزلة لدى الرسول صلى الله عليه واله والصحابة والمسلمين, وظواهر الامور والحوادث تؤيد ذلك: عدا ما حدث في أيام مرضه صلى الله عليه واله.
ولـكـن ما حدث هو غير ما كان يتوقعونه, ففي الوقت الذي التحق النبي صلى الله عليه واله بالرفيق الاعلى, ولم يـغسل جسده الطاهر, ولم يدفن بعد, وحينما كان اهل البيت وعدد من الصحابة منصرفين إلى العزاء, واجـراء الـمقدمات اللازمة, اذ وصلهم نبأ انصراف جماعة قليلة لتعيين الخليفة بعد الرسول صلى الله عليه واله , وهـذه الـقـلة التي غلبت الكثرة, قد بادرت بهذا الامر عجالة, دون ان يستشيروا اهل البيت, واقرباء النبي صلى الله عليه واله وعشيرته وصحابته الا ان يروا انفسهم قبال امر واقع, وبعد ان فرغ الامام علي عليه السلام , ومن معه من الصحابة (كابن عباس والزبير وسلمان وابي ذر والمقداد وعمار) من دفن النبي صلى الله عليه واله أعـلـمـوا بـالـذي حـدث, رفـعوا علم المعارضة, فانتقدوا القائمين بهذا الامر, وأبدوا اعتراضهم لـلخلافة الانتخابية, باقامتهم جلسات متعددة, والجواب الذي سمعوه هو ان صلاح المسلمين كان في الذي حدث.
فـالانـتـقاد هذا والاعتراف أديا الى انفصال الاقلية عن الاكثرية, واشتهر اصحاب الامام علي عليه السلام باسم ((شيعة علي)) فالقائمون بأمور الخلافة, كانوا يسعون وفقا للسياسة آنذاك, ألا يشتهر هؤلاء الاقـلـيـة بـهذا الاسم, والا ينقسم المجتمع الى اقلية واكثرية, فكانوا يعتبرون الخلافة اجماعا, ويـطـلـق عـلى المعارض لها, متخلفا عن البيعة, ومتخلفا عن جماعة المسلمين, واحيانا كان يوصف بصفات بذيئة اخرى.
وفـي الـحقيقة ان الشيعة قد حكم عليها بالتخلف منذ الايام الاولى, ولم تستطع ان تكسب شيئا منذ ان ابـدت مـعـارضـتها, والامام علي عليه السلام لم يعلنها ثورة وحربا, رعاية لمصلحة الاسلام والمسلمين, ولفقدانه للاشياع بالقدر المطلوب, الا ان هؤلاء المعارضين لم يستسلموا للاكثرية من حيث العقيدة, وكـانـوا يـرون ان الخلافة والمرجعية العلمية هي حق مطلق للامام علي عليه السلام , فكان رجوعهم في القضايا العلمية والمعنوية إليه وحده, وكانوا يدعون الى هذا الامر.
موضوعا الخلافة والمرجعية العلمية:
كان الشيعة يعتقدون ان ما يهم المجتمع اولاً وقبل كل شي هو وضوح وتبيان التعاليم الاسلامية ومن ثـم نـشـرهـا فـي المجتمع, وبعبارة اخرى هي نظرة المجتمع الى العالم والانسان نظرة واقعية, والوقوف على الواجبات والوظائف الانسانية (بالشكل الذى يكون فيه الصلاح الواقعي) والقيام بها, وان كانت مخالفة لاهوائهم وميولهم.
هـذا مـن جـهـة ومـن جـهـة اخرى, فان قيام حكومة دينية ما هو الا لتنفيذ الاحكام الاسلامية في الـمـجتمع, والحفاظ عليه, بحيث لا يعبد الناس إلا للّه جل وعلا, وان يحظوا بحرية تامة وعدالة فردية واجتماعية, وهاتان المهمتان يجب ان تناط الى شخص يتسم بالعصمة والصيانة الالهية, اذ من المحتمل ان يتعهد هذه المسؤولية اناس لم يسلموا من الانحراف الفكري والعقائدي, ولم ينزهوا من الخيانة وتتحول العدالة التي تمنح الحرية الاسلامية الى ملوكية موروثة مستبدة, كملوكية كسرى وقيصر, وتتعرض التعاليم الاسلامية المنزهة الى تحريف, كتعاليم الاديان السماوية الاخرى, ولا تـكون بمأمن من العلماء الذين قد ركبوا اهواءهم، فالشخص الوحيد الذي قد نهج نهج الرسول صلى الله عليه واله في اعـمـاله وافعاله, وكان سديدا في سيرته, متبعا لكتاب اللّه تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه واله اتباعا كاملا هو الامام علي عليه السلام.
واذا كانت الاكثرية تدعي ان قريشا تعارض حكومة علي عليه السلام الحقة وخلافته, كان لزاما عليهم ان يوجهوا المخالفين التوجيه الحسن, وأن يرشدوهم إلى طريق الحق والصواب, كما صنعوا مع ممتنعي الزكاة, فحاربوهم, ولم يتوانوا عن اخذ الزكاة منهم, لا ان يدحضوا الحق خوفا من مخالفة قريش.
نـعم, ان الدافع الذي دفع الشيعة للمعارضة امام الخلافة الانتخابية, هو الخوف من عواقبه الوخيمة ألا وهـو فـسـاد وسقم الطريقة التي ستتخذها الحكومة الاسلامية, وما يلازمها من انهدام الاسس العالية للدين وقد اوضحت الحوادث المتتالية صحة هذه العقيدة بمرور الزمان والايام, أكثر فاكثر, مـمـا ادى بالشيعة الى ان تكون ثابتة في عقيدتها, مؤمنة باهدافها علما بانها قد كانت اقلية الا ان هذه الاقـلـيـة قد ذابت في الاكثرية ظاهرا, ولكنها بقيت تستلهم التعاليم الاسلامية من اهل البيت باطنا, وكـانـت مـتفانية في نهجها وطريقها وفي الوقت ذاته كانت تسعى في التقدم والرقي, والحفاظ على قـدرة الاسـلام وعـظـمته, فلم تبد مخالفتها علنا وجهارا وكانت الشيعة تذهب الى الجهاد سيراً مع الاكثرية, ولم تتدخل في الامور العامة, والامام علي عليه السلام كان يرشد الاكثرية لما فيه نفع الاسلام, ومصلحة المسلمين.
الطريقة السياسية للخلافة الانتخابية, ومخالفتها للفكر الشيعي:
كـان الشيعة يعتقدون ان شريعة الاسلام السماوية التي قد تعينت مضامينها في كتاب اللّه وسنة نبيه صلى الله عليه واله ستبقى خالدة الى يوم القيامة دون ان يصيبها تغيير او تحريف.
والحكومة الاسلامية لا يحق لها بأي عذر ان تتهاون في اجراء الاحكام اجراء كاملا، فواجب الحكومة الاسـلامـيـة هـو ان تـتخذ الشورى في نطاق الشريعة ووفقا للمصلحة آنذاك, ما يجب اتخاذه من قرارات, ولكن ما حدث من واقعة البيعة السياسية, وكذا حادث الدواة والقرطاس, والذي حدث في اخـريات ايام مرض النبي الاكرم صلى الله عليه واله لدليل واضح على ان المدافعين عن الخلافة الانتخابية كانوا يعتقدون ان كتاب اللّه وحده يجب ان يحفظ ويحتفظ به كقانون, اما السنة واقوال النبي الكريم صلى الله عليه واله فـلـيـس لـهـا ذلـك الاعتبار, وهم على اعتقاد ان الحكومة الاسلامية تستطيع ان تضع السنة جانبا اذا اقتضت المصلحة ذلك.
وهـذه الـعـقـيـدة يؤيدها الكثير من الروايات التي نقلت في خصوص الصحابة بعدئذ (الصحابة ذو اجـتـهاد, فاذا ما اصابوا في اجتهادهم فانهم ماجورون واذا ما اخطاوافهم معذورون), وخير دليل عـلـى ذلـك مـا حـدث لـخـالد بن الوليد, وهو احد القواد للخليفة, اذ دخل ضيفا على احد مشاهير الـمـسـلمين (مالك بن نويرة) ليلا وتربص له فقتله, ووضع راسه في التنور وأحرقه, وفي الليلة ذاتـهـا واقع زوجة مالك، وبعد هذه الجناية التي يندى لها الجبين, لم يجر الخليفة الحد عليه, متذرعا بعذر وهو ان حكومته بحاجة اليه.
وكـذا الامـتـناع من إعطاء الخمس لأهل البيت واقرباء النبي الاكرم صلى الله عليه واله ومنع كتابة احاديث النبي الـكـريـم منعا باتا, واذا ما عثر على حديث مكتوب عند شخص كان يحرق وكانت هذه السيرة قائمة طـوال خـلافـة الـخـلـفـاء الثلاثة الأُول, وحتى زمن خلافة (عمربن عبدالعزيز) الخليفة الاموي (99-102) وقد تجلت هذه السياسة في خلافة الخليفة الثاني (13-25 هـ) إذ ألـغـى بـعـض احـكام الشريعة مثل: حج التمتع ونكاح المتعة, وذكر (حي على خير العمل) في الاذان, وجـعل الطلاق الثالث نافذ الحكم وغيرها, وفي زمن خلافته كان بيت المال يوزع بين الناس مـع تباين والذي أدى الى ظهور طبقات مختلفة من المسلمين, تثير الدهشة والقلق, وكان من نتائجها وقـوع حـوادث دامـية مفزعة, وفي زمنه كان معاوية في الشام يتمتع بسلطان لا يختلف عن سلطان كسرى وقيصر, وقد أسماه الخليفة بكسرى العرب, ولم يتعرض له بقول, ولم يردعه عن أعماله.
ولم تمض فترة من الزمن حتى ظهر التضاد في المسائل الاسلامية الضرورية كالصلاة, ولم يطرا تـقـدم في بقية الفروع العلمية في هذه الفترة, في حين نرى القرآن الكريم يشجع المشتغلين بالعلم, واحاديث النبي الكريم تؤيد ذلك, فلم ير لتلك الايات والاحاديث مصداقا فى الخارج, وانصرف اكثر الـناس إلى الفتوحات المتعاقبة, وأعجبوا بالغنائم المتزايدة, والتي كانت تتدفق الى الجزيرة العربية من كـل صـوب وحـدب, ولـم يكن هناك اهتمام بعلوم سلالة الرسالة ومعدن الوحي, وفي مقدمتهم علي عليه السلام والنبي صلى الله عليه واله قد صرح معلنا ان عليا اعرف الناس بالعلوم الاسلامية, والمفاهيم القرآنية, ولـم يـسـمحوا له بالمشاركة في جمع القرآن (وهم على علم من ان عليا بعد وفاة النبي صلى الله عليه واله كان جليس داره يجمع القرآن) ولم يذكر اسمه في انديتهم واجتماعاتهم.
فـان هـذه الامـور ونظائرها, ادت بشيعة علي الى ان يقفوا موقفا اكثر وعيا وارسخ عقيدة, واشد نشاطا, ولما كان علي عليه السلام بعيدا عن ذلك المقام الذي يجعله مشرفا على التربية العامة للناس, انصرف إلى تربية الخاصة من شيعته وانصاره.
السيد محمد حسين الطبطبائي - بتصرف