بسم الله الرحمن الرحيم
العدل يقام على يد المعصوم، وهذا العدل يتمثّل بنموذج عهد أمير المؤمنين عليه
السلام لمالك الأشتر الذي يحتوي على بعض الأُمور التي لم تذكر في أدبيات الحقوق
والقانون، والتي تمثّل تحدّياً علمياً في مبادىء نداءات أهل البيت عليهم السلام
التي لا بدّ للبشرية من الإقرار بها، وأهل البيت عليهم السلام قد رفعوا شعارات منذ
ذلك الحين، وهي تطابق ما تطالب به البشرية الآن من العدالة وحقوق الإنسان والنظام
الواحد وغيرها، والتي تعتبر من الشعارات التي يعتبر العالم الغربي مجبوراً عليها من
أجل أن يحسّن صورته أمام العالم، ولكنّه لا يطبّقها في الواقع، ولا تجد مثل هذه
الشعارات في الإنجيل المحرّف أو التوراة المحرّفة، وغيرها من الملل والنحل، ولا
تجده عند المذاهب الإسلامية الأُخرى غير مذهب أهل البيت عليهم السلام، وما تطالب به
البشرية لا تجده إلاّ في مذهب أهل البيت عليه السلام، وهذا من الإعجاز العلمي، وهذا
من تدبير الإمام المهدي (عجّل اللّه فرجه الشريف) سواء شعرنا بذلك أم لم نشعر، حيث
يقود البشرية للاعتراف بشعارات لا يقرّ بها الإنجيل المحرّف أو التوراة المحرّفة،
وكأنّ البشرية تتشيع لأهل البيت عليهم السلام، وهذه الشعارات لا يقرّها حتّى
القانون المدوّن عندهم، فضلا عن القانون الحقيقي.
الأمم المتحدة تدعو لنموذج الإمام علي عليه السلام
والأمم المتحدة عندما أشادت بعهد أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر أشادت
بعدّة نقاط فيه، سأذكرها تباعاً، وفي تقرير للأمم المتحدة في التنمية الإنسانية
العربية في عام 2002م، حيث تدعو الأمم المتحدة عبر الصندوق العربي للإنماء
الاقتصادي الدول العربية لاتخاذ أمير المؤمنين علي عليه السلام مثالا للحكم الصالح،
أيصل الحال إلى أن يرفع النصارى شعار أنّ علياً قدوة للبشرية، ويدعون المسلمين
لاتّخاذة قدوة؟! وهذا الذي نعني به أنّه من تدبير الإمام المهدي عجل الله فرجه
الشريف، وإلاّ فنحن الشيعة لم نستطع أن نوصل ثقافة أهل البيت عليهم السلام إلى ما
وصلت إليه، فالأمم المتحدة بعد أن أقرّت عهد مالك الأشتر كمصدر قانوني دعت الدول
العربية إليه.
المحاور التي أشارت إليها الأمم المتحدة
النقطة الأُولى: ما في هذا العهد الشريف من الدعوة إلى المعرفة والتعليم،
وهو محور مهم تحتاجه البشرية، لأنّه قائم على وعي الحقوق، والوعي القانوني إذا كان
القانون قانون عدل، ولم يكن قانون جور يكون ضمانة للناس حتّى لا تنطلي عليهم اللعب
القانونية، واللف والدوران باستخدام القانون أو المسرحيات الخادعة أو الشعارات
الزائفة.
النقطة الثانية: مبادىء العدالة التي أتت في هذا العهد الشريف.
النقطة الثالثة: تحسين المعيشة.
النقطة الرابعة: عمارة الأرض.
النقطة الخامسة: احترام حقوق الإنسان، فقد ورد في عهد الإمام علي عليه
السلام لمالك الأشتر: "وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا
تكوننَّ عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين،
وإمّا نظير لك في الخلق"1.
النقطة السادسة: المشاركة الشعبية في الحكم.
النقطة السابعة: محاربة الفساد الإداري والمالي ومحاسبة المسؤولين والولاة.
بعض المحاور في هذا العهد التي لم تسجّلها المحافل القانونية
المحور الأوّل: أهمية الطبقة العامّة في المجتمع
وفي فهمي القاصر أنّ هناك بعض
المدارك لم تسجلّلها المحافل الحقوقية والقانونية، وهي تعبير أمير المؤمنين عليه
السلام في عهده لمالك الأشتر: "وليكن أحبّ الأُمور إليك أوسطها في الحق، وأعمّها في
العدل، وأجمعها لرضى الرعية، فإنّ سخط العامّة يجحف برضى الخاصّة، وإنّ سخط الخاصّة
يغتفر مع رضى العامّة"، وهذه معادلة اجتماعية يطرحها أمير المؤمنين عليه السلام،
فأمير المؤمنين يقول: إنّه يجب مراعاة مصلحة العامّة، وعدم الاكتراث بمصلحة الطبقة
الخاصّة، سواء كانت العائلة الحاكمة، أو الطبقة الإقطاعية ذوي القدرة والنفوذ، وهذا
الوباء السرطاني في النظام الاجتماعي إياك إياك أن تراعيه، وإذا راعيتها كما فعل من
سبق أمير المؤمنين عليه السلام في الحكم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، فستكون
النتيجة ما آل إليه أمر المسلمين حين انقضّوا على مركز الخلافة، أمّا أمير المؤمنين
عليه السلام فقد راعى مصلحة العامّة على حساب مصلحة الطبقة الخاصّة، وهذا الذي
انطلق منه سيد الشهداء عليه السلام، حيث راعى مصلحة العامّة على حساب مصلحة الخاصّة،
وأهل البيت عليهم السلام ومن قبلهم رسول الله صلى الله عليه وآله كانت حربهم مع تلك
الشجرة الإقطاعية المتمثّلة في بني أمية أيام الجاهلية وأيام الإسلام، لأنّها شجرة
تسبب الحرمان لعامّة الناس، والحرب لم تهدأ بين بني هاشم من جهة وبني أمية وآل زياد
وآل مروان من جهة أُخرى، لأنّهم جبهات الإقطاع والاحتكار والاستئثار، ولذلك لم
يداهنهم أهل البيت عليهم السلام أبداً، ولأنّ أهل البيت عليه السلام يريدون عدالة
المجتمع وإنصاف المحرومين، وكان بإمكان سيد الشهداء عليه السلام أن يقنع بمصالحه
الشخصية، والخطر يتمثّل في انحراف الأُمّة عن روّاد إصلاحها، كما أشار سيد الشهداء
عليه السلام في قوله: "تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً وبؤساً لكم وتعساً! حين
استصرختمونا ولهين فأصرخناكم موجفين، فشحذتم علينا سيفاً كان في أيدينا، على عدوّكم
وعدوّنا فأصبحتم إلباً على أوليائكم، ويداً لأعدائكم من غير عدل أفشوه فيكم، ولا
أمل أصبح لكم فيهم، ولا ذنب كان منّا إليكم فهلاّ لكم، الويلات إن كرهتمونا والسيف
مشيّم، والجأش طامن والرأي لم يستحصف"2.
وهنا تبرز المشكلة عندما يستغفل المجتمع عن روّاد إصلاحه، وهذا المحور هوالذي قلت
أنّني لم أجده في الأدبيات الحقوقية، رغم ما يرفعون من شعارات، وهذه القضية تمثّل
ابتلاء في المدارس الحقوقية والقانونية والاجتماعية والإنسانية، وأمير المؤمنين
عليه السلام يقول: إنّ هناك معادلة دائماً في حالة تجاذب، ودائماً في حالة اصطدام،
وهى مصلحة العامة المحرومة ومصلحة الخاصّة، لا سيّما الإقطاع، ويقول الإمام علي
عليه السلام: "وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونةً في الرخاء، وأقلّ معونةً
له في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقلّ شكراً عند الإعطاء، وأبطأ عذراً
عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمّات الدهر من أهل الخاصّة. وإنّما عماد الدين، وجماع
المسلمين، والعدّة للأعداء، العامّة من الأُمّة فليكن صغوك لهم، وميلك معهم"3،
والطبقة المحرومة هي أكثر ولاء لوطنها، وهي التي تثبت في الشدّات معه، وهذه الطبقة
العامّة من المجتمع يركّز عليها أمير المؤمنين عليه السلام، ويأمر حاكم المسلمين أن
يصغي إليها، بدلا من الإصغاء إلى أصحاب المصالح والإقطاعيين، وكلّ قانون مهما كان
نوعه، قانون تجاري أو جمركي أو زراعي أو صناعي أو إداري، يراعى فيه مصلحة الخاصّة
ولا يراعى فيه مصلحة العامّة، فهو قانون جائر ظالم غاشم لا يراعي العدل الاجتماعي،
وتملأ فيه جيوب الإقطاع، وتحرم من خلاله الطبقات الفقيرة والمستضعفة وعامّة الناس.
المحور الثاني: ظهور مودّة الرعية
وهو من المحاور المهمّة التي ذكرها
أمير المؤمنين عليه السلام: "وإنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد،
وظهور مودّة الرعية"، وظهور مودّة الرعية، وارتياح عامّة الناس دليل على نجاح
الحاكم، ومودّة الرعية ليست بكلام الصحف والأقلام المأجورة والصور المعلّقة هنا
وهناك، يقول أمير المؤمنين عليه السلام في عهده لمالك الأشتر: "وإنّما يستدل على
الصالحين أي: الحكّام الصالحين بما يُجري الله لهم على ألسن عباده"4، أي:
ألسنة الرعية لا الصحف ولا الثنوات ولا النخبة المنافقة التي تريد التقرّب من
السلطان بأيّ وسيلة، وأنّ ألسنة الرعية هي الصحف الحقيقية والقنوات الحقيقية،
فأمريكا دولة ديمقراطية عادلة في منطق الصحف والفضائيات ووسائل الإعلام، ولكن لو
أتيت لألسنة الشعوب لرأيت أنّ أمريكا دولة ظالمة مستبدّة، وهذه هي الصحافة الحقيقية،
ففي أمريكا وألمانيا 4% يسيطرون على الثروات في هاتين الدولتين.
المحور الثالث: الشفافية بين الحاكم والرعية، وخطر احتجاب
الحاكم
ومن المحاور الأُخرى التي يذكرها
أمير المؤمنين عليه السلام في عهده لمالك الأشتر: "وأمّا بعد، فلا تطوّلنّ احتجابك
عن رعيّتك، فإنّ احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضّيق، وقلّة علم بالأُمور،
والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير،
ويقبح الحسن، ويحسن القبيح، ويشاب الحقُ بالباطل، وإنّما الوالي بشر لا يعرف ما
توارى عنه الناس به من الأُمور، وليست على الحق سمات تُعرَف بها ضروب الصدق من
الكذب، وإنّما أنت أحد رجلين: إمّا امرو سخت نفسك بالبذل في الحق، ففيم احتجابك من
واجب حق تعطيه، أو فعل كريم تسديه، أو مبتلى بالمنع، فما أسرع كفّ الناس عن مسألتك
إذا أيسوا من بذلك، مع أنّ أكثر حاجات الناس إليك ممّا لا مؤونة فيه عليك، من شكاة
مظلمة، أو طلب إنصاف في المعاملة"، وهذه الشفافية المطلوبة التي تنادي بها البشرية
المتمدّنة نادى بها أمير المؤمنين عليه السلام قبل أربعة عشر قرناً، ولكن يجب أن لا
تتلوّث الشفافية بدجل الإقطاع.
المحور الرابع: ضمانة السلم الدولي والوفاء بالعهد
ويقول عليه السلام في عهده لمالك
الأشتر: "وإن عقدت بينك وبين عدوّك عقدة، أو ألبسته منك ذمّة فحط عهدك بالوفاء،
وارع ذمّتك بالأمانة، واجعل نفسك جُنّة دون ما أعطيت، فإنّه ليس من فرائض الله شيءٌ،
الناس أشدّ عليه اجتماعاً، مع تفرّق أهوائهم، وتشتّت آرائهم، من تعظيم الوفاء
بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب
الغدر، فلا تغدرنّ بذمّتك، ولا تخيسنّ بعهدك، ولا تختلنّ عدوّك، فإنّه لا يجترىءُ
على الله إلاّ جاهلٌ شقي، وقد جعل الله عهده وذمّته أمناً أفضاه بين العباد برحمته،
وحريماً يسكنون إلى مَنَعَتِه، ويستفيضون إلى جواره، فلا إدغالَ ولا مدالسة ولاخداع
فيه، ولا تعقد عقداً تُجوّز فيه العلل، ولا تعوّلنّ على لحن قول بعد التأكيد
والتوثقة، ولا يدعونّك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق، فإنّ
صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته، خير من غدر تخاف تبعته"5،
ومن المعلوم أنّ الحروب تنشأ من نكث العهود، فإذا فقدت الثقة بين الدول ظهر التزلزل
الأمني والمباغتة العسكرية، وهذا أيضاً بين الدول وشعوبها، وبين أبناء الشعب الواحد،
والأمن أهم شيء بالنسبة للإنسان في النظام الاجتماعي والنظام الدولي، ولا يستتب
الأمن إلاّ عندما تثبت الثقة بين الأطراف، والثقة تحدث بالوفاء بالعهد، فعندما
يوقّع شخص شيئاً ثمّ بعد أسابيع ينكث هذا العهد الذي أعطاه فماذا تكون النتيجة؟
وانظر إلى هذه الأصول التي ذكرها أمير المؤمنين عليه السلام وما نادى به سيد
الشهداء عليه السلام، لا سيّما في المحور الأوّل، في أهداف النظام الاجتماعي
ومراعاة مصلحة العامّة على حساب مصلحة الخاصّة، وما الذي أجهض النصر المادي للحسين
عليه السلام ؟ وإن كان الفتح قد تحقق للحسين عليه السلام، لأنّه فتح الأعراف وفتح
السنن الاجتماعية وفتح العقول، فلم يسمح لبني أمية أن يربّوا الناس على النهج
الإقطاعي، وفجّر نور الأمل في الطبقات المحرومة، واستطاع عن طريق الإباء والصبر
والمثابرة أن يحقق العدل في النظام الاجتماعي فقال: "ربّي إن تكن حبست عنّا النصر..."6
فالإمام الحسين عليه السلام حقق الفتح حتّى ولولم يحقق النصر، وهناك فرق بين الفتح
والنصر في المصطلح القرآني: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ
وَالْفَتْحُ7﴾،
فالفتح شيءٌ غير النصر، وكذلك في سورة الفتح:
﴿إِنَّا
فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً﴾8، مع أنّ الآية تتكلّم عن صلح الحديبية،
ولم تتكلّم عن غزوة أو حرب، والبعض يخلطون بين الفتح والنصر، والذي أجهض نصر الحسين
عليه السلام المادي هو نكث العهد وشراء الذمم. والعدالة لا تتحقق إلاّ إذا روعيت
مصالح الأكثرية العامّة المحرومة كما قال أمير المؤمنين عليه السلام، وهذا ما لا
يرضي الحاكم الإقطاعي، ولذلك فهو يغذّي نخباً معيّنة، ويرشيها ويشتريها ويغدق عليها
حتّى يستأثر هو بالقسم الأكبر، ويعطي هؤلاء الذين هم أصحاب المصالح قسماً من
الثروات ويحرم الأكثرية من حقوقهم، وهذا التصرّف ينطلق من بخله وحرصه وعدم أدائه
لحقوق رعيّته.
الأقلام المأجورة
هناك كتابات تحاول إسقاط الحسين عليه السلام عن رمزيّته وقيادته، وقد ذكرت لكم في
موضع سابق عن كتاب الاستخبارات الأمريكية الذي يعتبر الإمام الحسين نقطة قوّة في
المذهب الشيعي، ويحاول إبعاد الشيعة عن شعائر الحسين عليه السلام، فإذا سقطت
رمزيّته عليه السلام تتغيّر خارطة المجتمع، فحذار من إسقاط رمزيّة الحسين الذي
يمثّل العدالة، والذي لا يقض مضاجع الظّلام فقط، وإنّما يقض مضاجع أولئك النخبة
التي اشتراها الظلاّم وسخّروها لخدمتهم، فهذه النخبة تؤنّبها عدالة سيد الشهداء
عليه السلام، فحذار من إسقاط رمزيّة بني هاشم والحسين عليه السلام.
* آية الله الشيخ محمد سند – بتصرّف يسير
1- نهج البلاغة، رسائل أمير
المؤمنين، رقم53.
2- الاحتجاج 2: 97، احتجاجه(عليه السلام) على أهل الكوفة.
3- نهج البلاغة، رسائل أمير المؤمنين، رقم53.
4- نهج البلاغة، وسائل أمير المؤمنين، رقم 53.
5- نهج البلاغة، رسائل امير المؤمنين، رقم 53.
6- الكامل في التاريخ 4: 75.
7- النصر (110): 1.
8- الفتح (48): 1.