بسم الله الرحمن الرحيم
لقد بيَّن الله سبحانه المهامّ الرساليّة للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله بأنّها تلاوة الآيات علىٰ الناس، وتعليم الكتاب والحكمة لهم، وتزكية نفوسهم: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يتْلُوا عَلَيهِمْ آياتِهِ وَيزَكِّيهِمْ وَيعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة...﴾1 والجامع المشترك بين كلّ هذه المهامّ الرساليّة هو "الدعوة إلىٰ الله" الّذي هو بمثابة الأساس لمناهج وبرامج الأنبياء، وقد بيّن القرآن أساليب الدعوة بقوله: ﴿اُدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِي أَحْسَن﴾ 2 وعندما علّم الله سبحانه نبيّه الأساليب المتنوّعه للدعوة ـ فإنّه سبحانه استخدمها أيضاً في تبيين وتفهيم المعارف القرآنيّة.
والسرّ في استخدام الأساليب المتنوّعة للدعوة والتعليم، هو انّ الناس وإن كانوا مشتركين في الثقافة الفطريّة العامّة، لكنّهم ليسوا علىٰ مستوىٰ واحد في الذكاء ودرجات الفهم، وكما وصفتهم بعض الروايات فإنّهم مختلفون كمثل الذهب والفضة: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة"3 ؛ فبعض مخاطبي القرآن الكريم اُناس بسطاء في التفكير والبعض الآخر منهم حكماء عقلاء يمتازون بعمق التفكير ودقّة النظر.
ولذلك كان لازماً علىٰ هذا الكتاب الإلهيّ العالميّ الشامل أن يطرح المعارف الفطريّة بأساليب متنوّعة ومستويات مختلفة، حتّىٰ لايعتبر المحقّقون وذوو الفكر العميق تعاليم الوحي ساذجة ومن ثمّ يحسبون أنفسهم في غنىٰ عنها، وحتّىٰ لايتذرّع بسطاء الفكر والمقلّدون بتعقيدها وبالتالي يرون أنفسهم محرومين منها. وعلىٰ هذا الأساس فإنّ القرآن الكريم لم يقتصر علىٰ أساليب الحكمة، والموعظة الحسنة والجدال بالّتي هي أحسن في تبيين مقاصده، بل انّه عرض الكثير من معارفه بصورة المَثَل ونزّلها عن طريق التمثيل حتّىٰ تكون للبسطاء والمبتدئين تعليماً وللمحقّقين والعقلاء تأييداً وتأكيداً، وبالنتيجة يكون فهم القرآن متيسّراً للجميع.
انّ اُسلوب الجمع بين الحكمة والموعظة الحسنة والجدال الأحسن من جهة والتمثيل والتشبيه ونقل القصّة من جهة اُخرىٰ في الدعوة والتعليم، هو من مختصّات الكتاب الإلهيّ، وليس هذا مألوفاً في أيّ كتاب من كتب العلوم العقليّة والنقليّة الّتي يكتفي مؤلّفوها في طرح البراهين الصرفة والأدلّة العقليّة أو النقليّة المحضة.
والمقصود هو انّ القرآن الكريم مضافاً الىٰ اقامته البرهان والدليل لإثبات معارفه بشكل عامّ فإنّه يضرب المثل أيضاً لأجل توضيحها وجعلها عامّة الفهم: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يتَذَكَّرُون﴾4. فمثلاً نراه يطرح أحياناً مسألة التوحيد في صورة (برهان التمانع) الّذي يعتبره الحكماء والمتكلّمون بلاغاً له ثقله ووزنه العلميّ، ويختلفون في كيفيّة توضيح التلازم بين المقدّم والتالي وبطلان التالي في ذلك القياس. وتارة يطرح التوحيد في مثل مبسّط يمكن حتّىٰ للاُمّي وغير المتعلّم أن يفهمه.
وتوضيح ذلك هو: انّ برهان التمانع قد ذُكر في القرآن الكريم علىٰ شكل قياس استثنائيّ وبصورة القضيّة الشرطيّة، حيث ورد مجموع المقدّم والتالي منها في سورة الانبياء: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا﴾ 5، أمّا القضيّة الحمليّة وبطلان التالي فقد وردت في سورة الملك: ﴿مَا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ ٭ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَينِ ينقَلِبْ إِلَيكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِير﴾6. وخلاصة برهان التمانع القرآنيّ هو انّ تعدّد الآلهة يؤدّي إلىٰ فساد نظام السماوات والأرض، ولكنّ السلسلة المترابطة لمخلوقات الله سبحانه ليس فيها أيّ تفاوت وأيّة فجوة وخلل وتفكّك، وكلّ موجود في نظام الخلق قد استقرّ في محلّه ودرجته وأخذ مكانه ومكانته، وليس هناك في هذه السلسلة من حلقة ضائعة تائهة، حتّىٰ يكون فقدانها مخلاًّ في ترابط سلسلة الوجود، ولذلك فانّ الناظر مهما أمعن النظر وأعمل بصره ليجد فطوراً أو فجوةً أو خللاً في نظام الخلق المتقن فإنّه يرجع خاسئاً وهو حسير.
هذا البرهان بنفس محتواه قد بيّنه القرآن الكريم علىٰ شكل مثل مبسّط وبهذا النحو: هل يستوي العبد أو الخادم الّذي تنازع عليه عدد من السادة المختلفين فيما بينهم، مع العبد أو الخادم الّذي له مولىٰ وسيّد واحد ذو خلق حسن وطبع سليم؟ ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مَتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يسْتَوِيانِ مَثَلا﴾ 7 أي انّ مايقوم به الخادم الثاني من خدمات تكون منسجمة ومتناسقة، لكنّ خدمات العبد الأوّل مختلّة وغير منسجمة.
والحاصل فإنّ القرآن الكريم واضافةً إلىٰ اتّباع طريقة الإستدلال والبرهان القاطع قد وسّع طريق الفهم علىٰ الناس بسلوكه طريق المَثَل كي يكون للبعض مرشداً ومؤيّداً وللبعض الآخر مفتاحاً وطريقاً للفهم، ولكن يجب الالتفات إلىٰ هذه النكتة وهي أنّه لاينبغي أبداً التوقّف عند حدود دائرة المَثَل، بل يجب أن نجعله منفذاً وجسراً للعبور نحو سعة المُمَثّل، ويجب أن نعتمد علىٰ المثل لنرتقي إلىٰ الأعلىٰ ويجب أيضاً أن نستثمر الموعظة والجدال الأحسن ونستفيض ونرتوي من الحكمة، وعندئذ سنسافر من مرحلة (العلم) إلىٰ مقام (العقل): ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُون﴾8 ، وبعدها نبني من (المعقول) مدرجاً نحو (المشهود)، وننتقل من (الحصول) إلىٰ (الحضور)، ومن (الغيب) إلىٰ (الشهود)، ومن (العلم) إلىٰ (العين)، ومن منزل الإطمئنان الىٰ مقصد لقاء الله سبحانه، ومن هناك يستمرّ السير اللامتناهي (من الله الىٰ الله في الله) مع نغمة ونداء: "آه من قلّة الزاد وطول الطريق وبُعد السفر"9 ومع شهود المقصود وحيرة الممدوح وبنحو متناغم ومنسجم مع مناجاة الأئمّة المعصومينعليهم السلام حيث يقولون: "الهي هب لي كمال الانقطاع اليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها اليك حتّىٰ تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل الىٰ معدن العظمة وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك"10.
آية الله الشيخ جوادي آملي
1- الجمعة:2.
2- النحل: 125.
3- بحار الانوار، ج58، ص65.
4- الزمر: 27.
5- الأنبياء:22.
6- الملك: 3 ـ 4.
7- الزمر:29.
8- العنكبوت: 43.
9-نهج البلاغة، الحكمة 77.
10- مفاتيح الجنان، المناجاة الشعبانيّة.