بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ للقرآن الكريم أساليبه الخاصّة في بيان المعارف الإلهيّة. وفيما يلي نبحث
اختلاف القرآن عن الكتب العلميّة في تبيين المعارف:
إنّ الله سبحانه في مقام بيان الوظائف الرساليّة للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله
يتحدّث تارة عن تلاوة الآيات علىٰ الناس وتعليم الكتاب والحكمة وتزكية الأنفس ﴿هُوَ
الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يتْلُوا عَلَيهِمْ آياتِهِ
وَيزَكِّيهِمْ وَيعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة﴾1، وتارة اُخرىٰ يتحدّث عن
إخراج الناس من ظلمات الجهل ومفاسد الضلالة إلىٰ نور الهدىٰ: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ
إِلَيكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ
إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد﴾2 ويعدّ القرآن الكريم هو الزاد الّذي يحتاجه
الرسول في طريق أداء وظيفته الرساليّة والأداة الّتي يستخدمها في تعليم وتزكية
الناس: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يخَافُ وَعِيد﴾3، ﴿وَكَذٰلِكَ أَوْحَينَا
إِلَيكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَ﴾4، ﴿وَكَذٰلِكَ
أَوْحَينَا إِلَيكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ
الإِيمَانُ وَلٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم﴾5.
وعلىٰ هذا الأساس فإنّ القرآن الكريم لايمكن أن يكون مثل الكتب العلميّة المحضة
حتّىٰ يتصدّىٰ لبيان المسائل العلميّة ومعرفة العالم فحسب، ولا أن يكون كالكتب
الأخلاقيّة الّتي تكتفي بالموعظة، ولا أن يكون كالكتب الفقهيّة والاُصوليّة الّتي
تكتفي بذكر الأحكام الفرعيّة ومبانيها واُصولها، وبنحو عامّ فإنّ القرآن لا يمكن أن
يتّبع الأساليب المتداولة والمعتادة في الكتب البشريّة. فالقرآن الكريم ولأجل تحقيق
أهدافه المتطابقة والمتّحدة مع أهداف رسالة النبيّ صلى الله عليه وآله العالميّة قد
اختار أساليب خاصّة نُشير فيما يلي إلىٰ بعضها:
1. الإستخدام الواسع للتمثيل لأجل تنزيل المعارف الثقيلة والرفيعة، وقد مرّ البحث
في ذلك.
2. الاستفادة من اُسلوب الجدال الأحسن والاعتماد علىٰ النظريّات والآراء المفروضة
الصحّة والمقبولة عند الخصم في الاحتجاج مع الأفراد الّذين يظهرون عناداً في مقابل
أصل الدين أو القرآن خاصّة.
3. مزج (المعارف والأحكام) مع (الموعظة والأخلاق)، و(تعليم الكتاب والحكمة) مع (تربية
وتزكية الأنفس)، وربط المسائل النظريّة بالعمليّة والمسائل التنفيذيّة بالأهداف
الضامنة لتنفيذها، كإشارته إلىٰ التقوىٰ بإعتبارها هدفاً للصيام بعد الأمر به في
قوله تعالىٰ: ﴿يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيامُ كَمَا كُتِبَ
عَلىٰ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾6، أو بعد ذكر خلق اللباس
الّذي يواري بدن الإنسان ويحفظ جسده، تجد القرآن يتحدّث عن لباس التقوىٰ كأفضل
حُلّة تحفظ روح الإنسان: ﴿يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيكُمْ لِبَاساً
يوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَير﴾7. وعندما يدور
الحديث في أجواء الحجّ والعمرة لبيت الله، وحيث انّ الحجّ والعمرة يستلزمان السفر
والسفر يحتاج الىٰ الزاد والمتاع، تراه يذكر زاد التقوىٰ ويصفه بأنّه خير زاد في
السير والسلوك إلىٰ الله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ...* الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ... وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ﴾8.
كما جاء إلىٰ جانب ذكر بعض أحكام الصيام التوصية والتأكيد علىٰ حفظ الحدود ورعاية
التقوىٰ الإلٰهيّة: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ
اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يتَّقُون﴾9، وكما يذكر القرآن الكريم تطهير
وتزكية النفس الإنسانيّة مقترناً بالأمر بأخذ الزكاة: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَ﴾10. وحتّىٰ إلىٰ جانب أبسط الأوامر
المتعلّقة بالعِشرة والتعامل الإجتماعيّ، كالضيف غير المدعوّ الّذي لم ينسّق لقاءه
مع صاحب البيت ولم يتّفق معه في وقت سابق، ففي حال رفض المضيف واعتذاره عن قبوله
يجب عليه الرجوع. هنا يتكلّم أيضاً عن تزكية الروح فيقول تعالىٰ ﴿... وَإِن قِيلَ
لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَىٰ لَكُم﴾11.
4. الحكم القاطع بالنسبة إلىٰ الأقوال والآراء الّتي ينقلها عن الآخرين. فالقرآن
الكريم ليس كمثل بعض الكتب المتداولة يكون جامعاً للأقوال بحيث ينقل الأقوال
والآراء المختلفة ولا يدلي بحكمه حولها، بل إنّ نقله لها يكون مقترناً ببيان حكمه
عليها، ولذلك فإنّه إذا نقل قولاً أو رأياً مّا ولم يتحدّث عن ردّه أو إبطاله، فإنّ
عدم الردّ علامة علىٰ الإمضاء والقبول، كما ينقل عن الولد الصالح لآدم(ع) قوله إنّ
الميزان في قبول العمل عندالله هو التقوىٰ: ﴿إِنَّمَا يتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ
الْمُتَّقِين﴾12 ولايردّ هذا القول، ولذلك جاء في بعض الروايات بأنّ هذه الجملة
سمّيت (قول الله)13، كما وذكرت أيضاً في الكتب الفقهيّة بعنوان أنّها قول الله،
وبناءً علىٰ هذه الخصوصيّة سُمّي القرآن بأنّه "قول فصل"، قال تعالىٰ: ﴿إِنَّهُ
لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْل﴾14.
ولكن بعد نقله لقول المنافقين، فإنّه يبطل هذا القول: ﴿يقُولُونَ لَئِن رَجَعْنَا
إِلَىٰ الْمَدِينَةِ لَيخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يعْلَمُون﴾15.
فقد كان قول المنافقين يتضمّن انّهم يحسبون أنفسهم أعزّة وانّ المؤمنين أذلاّء،
فتصدّىٰ القرآن لقولهم بعد نقله وأبطله كما ردَّ من قَبْل كلامهم الباطل حول
المحاصرة الإقتصاديّة للمؤمنين وعدم الإنفاق علىٰ من عند رسول الله كي ينفضّوا
ويتفرّقوا عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله، فنقل كلامهم هذا وانتقده وأبطله16.
إنّ الكتاب الّذي تنزّل من جهة الله الحكيم الحميد وامْتُدِح بصفة العزّة وهي (عدم
القابليّة للنفوذ والاختراق)، لا يمكن للباطل ان يجد له طريقاً إليه من أيّة جهة
كانت: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ٭ لاَ يأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَينِ يدَيهِ
وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيد﴾17.
تنويه: انّ المواعظ والنصائح القرآنيّة الّتي تُذكر إلىٰ جانب الأحكام والمعارف
تارةً تكون متأخّرة كما في الأمثلة السابقة، وتارةً متقدّمة كما في قوله تعالىٰ: ﴿وَلاَ
تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ
مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْن﴾18.
5. الربط بين مسائل معرفة العالم ومعرفة الله. فمن أهمّ الميزات الّتي يختلف بها
القرآن الكريم عن الكتب العلميّة هو انّ الكتب العلميّة تبحث فقط وتبيّن الحركة
الافقيّة للأشياء وظواهر العالم، فمثلاً ترىٰ خبير المعادن يقول إنّ ما يوجد الآن
في جوف الأرض وبطون الجبال من معادن معيّنة قد كانت موجودة منذ ملايين السنين، وكم
مرّ عليها من تطوّرات عديدة خلال تلك الفترة، وكم تنتظر في مستقبلها من التغيّرات،
لكنّ القرآن الكريم الّذي هو كتاب هدىٰ ونور، وليس كتاباً علميّاً محضاً، يتحدّث عن
الحركة العموديّة لظواهر العالم وارتباطها بالمبدأ من جهة وبالمعاد من جهة اُخرىٰ
أي انّه يتحدّث عن المبدأ الفاعليّ والمبدأ الغائيّ في حركة الموجودات وتحوّلها كما
في قوله تعالىٰ: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً
فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ
بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُود﴾19، وقوله تعالىٰ: ﴿وَهُوَ
الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ
وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيتُونَ وَالرُّمّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيرَ
مُتَشَابِه﴾20، وقوله تعالىٰ: ﴿أَوَ لَمْ يرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماوَاتِ
وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيءٍ
حَيّ أَفَلاَ يؤْمِنُون﴾21. ففي هذا النوع من الآيات جاء الحديث عن المبدأ الفاعليّ
لهطول الأمطار، والسبب الفاعليّ لحركة البذور الهامدة وتحوّلها الىٰ سنابل وأغصان
تتمتّع وتنبض بالحياة النباتيّة، كما ذكر أيضاً المبدأ الأصليّ لايجاد الطرق في
سلاسل الجبال البيضاء والحمراء والسوداء، ومن هو الموجد لأنواع الثمار والفواكه
والحبوب الغذائيّة.
والمقصود هو أنّ الدراسات العلميّة والفلسفيّة المتداولة حول أيّة ظاهرة معيّنة في
العالم، كالنجم أو الجبل أو... أو حول كلّ العالم دون تخصيص جزء منه، لها سير افقيّ
محض، فهي تبحث عن هذا الموجود المعيّن أو عن مجموع العالم، ماذا كان من قبل، وما هي
حقيقته الآن، وماذا سيكون فيما بعد، ولا يوجد فيها ذكر للسير والحركة العموديّة
للأشياء، خلافاً للقرآن الكريم الّذي يحرص في بيانه العلميّ للأشياء (بالمقدار
الّذي تعرّض له) وفي تحريره الفلسفيّ لأصل العالم ان يضيف ذكر المسير العموديّ
للأشياء، أي انّه يقول من هو المبدأ الفاعليّ لهذا الأمر وما هو مبدأه الغائيّ
والهدف النهائيّ المقصود منه.
6. انتخاب المقاطع التاريخيّة ذات العبرة عند بيان القصص: فالقرآن الكريم ليس كتاباً
تاريخيّاً حتّىٰ يسجّل وقائع كلّ قصّة ويسرد كلّ ماحدث فيها، بل انّه يتصدّىٰ لبيان
مشاهد القصّة المرتبطة والمنسجمة مع هدفه وهو (الهدىٰ)، ثمّ يتحدّث عنها بعنوان
انّها سنّة الٰهيّة أو (فلسفة التاريخ).
مثلاً نرىٰ أنّ القرآن قد ذكر اسم الكليم موسىٰ(ع) أكثر من مائة مرّة وقصّته ذكرت
في 28 سورة وبنحو مفصّل، لكن لم تذكر فيها الاُمور ذات الطابع التاريخيّ والقصصيّ
المحض، كتثبيت تاريخ مولده ووفاته الّذي لم يرد له ذكر في القرآن، بل إنّه يركّز
علىٰ الجوانب الحسّاسة وذات العبرة في القصّة، فمثلاً ترىٰ القرآن الكريم لايتحدّث
عن تاريخ ولادة موسىٰ وطول فترة رضاعته، لكن يتحدّث عن الحادثة المهمّة في الوحي
الإلهيّ لاُمّ موسىٰ في ان تقذفه في اليمّ، وايجاد الإطمئنان في قلبها، والبشارة
لها بعودة ولدها إليها بعد أن يبلغ ويكبر ويحظىٰ بكرامة الرسالة، كما لم يذكر
القرآن الكريم تاريخ هجرة موسىٰ من مصر إلىٰ مدين ولا زمان رجوعه من مدين إلىٰ مصر،
لكن تحدّث القرآن عن خدمة موسىٰ المجّانيّة في سقي أغنام بنات شعيب واشتغالهنّ برعي
الأنعام وكذلك الحديث عن عفافهنّ وشرفهنّ، وعن الطريقة الّتي تعرّف بها موسىٰ علىٰ
شعيب، وعن كيفيّة اختيار الشخص للوظائف والأعمال حيث انّه يجب أن يكون أميناً في
وظيفته وقويّاً ومتمكّناً من السيطرة علىٰ عمله. وكذلك تحدّث القرآن عن رؤية النار
والذهاب إليها ومشاهدة النور واستماع الكلام التوحيديّ الإلهيّ من الشجرة.
7. إنّ أحد الاُمور المهمّة الّتي يمتاز بها القرآن الكريم عن الكتب العلميّة
البشريّة هو انّ المحور الأصليّ للتعليم في الكتب البشريّة هو العلوم الّتي يمكن
الحصول عليها بسهوله، ولكنّ محور التعليم في القرآن الكريم هو العلوم والمعارف
الّتي لايمكن للبشريّة ان تنالها دون الاستمداد من نور الوحي قال تعالىٰ: ﴿كَمَا
أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يتْلُوا عَلَيكُمْ آياتِنَا وَيزَكِّيكُمْ
وَيعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا
تَعْلَمُون﴾22، وقال تعالىٰ ﴿فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ
تَكُونُوا تَعْلَمُون﴾23.
وصحيح انّ الأنبياء قد قاموا بتفعيل وترشيد استعداد البشريّة في العلوم الّتي
يتيسّر الحصول عليها والمستقلاّت العقليّة: "يثيروا لهم دفائن العقول"24 ولكنّ محور
تعليم الأنبياء هو كشف حجب الغيب والإبتكار العلميّ والمعرفيّ للبشر. والقرآن
الكريم بتعبيره الدقيق ﴿مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون﴾ يشعر بهذه النكتة، لأنّ
معنىٰ هذه الجملة ليس هو ما لم تعلموا، بل إنّها تعني أنّكم ما كنتم لتعلموا ذلك
بالطرق المعتادة. كما انّ الله سبحانه يقول لنبيّه الأكرم صلى الله عليه وآله علىٰ
رغم ما له من الاستعداد والنبوغ الفائق: ﴿وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيكَ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيكَ
عَظِيم﴾25، يعني انّ الله قد علّمك معارف لم يكن باستطاعتك ان تتعلّمها بالطرق
المتعارفة، ولذلك فإنّ هذه الميزة في القرآن الكريم لاتختصّ بعصر التخلّف والانحطاط
العلميّ، بل هي دائمة إلىٰ الأبد، فالقرآن معلّم لعلوم ليس للبشريّة إليها من سبيل.
كما وقد نبّه القرآن أيضاً في مواضع خاصّة إلىٰ هذه الحقيقة وهي أنّ الأسرار
الكامنة والمخفيّة في العالم لايمكن رؤيتها إلاّ بنور الوحي، كما في قوله تعالىٰ: ﴿كُتِبَ
عَلَيكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيئاً وَهُوَ
خَيرٌ لَكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُون﴾26، وهذا الخطاب شامل لجميع الأفراد، أعمّ من الضعفاء
والمتوسّطين والأوحديّ من أهل العلم والعمل.
8. بيان المصداق وتجنّب الكلام بالعموميّات. ليس متعارفاً في الكتب العلميّة وفي
مقام تبيين حقيقة مّا ان تذكر مصاديقها، مثلاً أن يذكر الأبرار في تعريف البرّ،
ولكنّ القرآن الكريم استعمل هذا الاُسلوب، فهو مثلاً يقول في تعريف البرّ: ﴿لَيسَ
الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلٰكِنَّ
الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيومِ الآخِرِ و...﴾27 فالمفسّرون الّذين يحسبون
أنّ القرآن كباقي الكتب العلميّة، يبحثون في مثل هذه الموارد عن محذوف أو يقومون
بتبريرات اُخرىٰ كي يثبتوا إنسجام ومطابقة الاُسلوب البيانيّ للقرآن الكريم مع
الأساليب المتداولة في الكتب العلميّة، وقد فاتهم انّ القرآن الكريم ليس كتاباً
علميّاً محضاً حتّىٰ يتّبع الطرق المتعارفة للكتب العلميّة البشريّة. ولذلك تراه
أحياناً يذكر الموصوف بدلاً من الصفة، وهذا يعدّ من الطرق المهمّة في القرآن.
والمثال الآخر قوله تعالىٰ: ﴿يوْمَ لاَ ينفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ ٭ إِلاَّ مَنْ
أَتَىٰ اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيم﴾28 فهٰهنا يقتضي الإنسجام بين المستثنىٰ والمستثنىٰ
منه أن يقول "الاّ سلامة القلب"، ولكنّ القرآن يترك ذكر الصفة ويتحوّل إلىٰ ذكر
الموصوف. والهدف هو كما في الآية السابقة حيث انّه كان يريد ترغيب المجتمع في عمل
البرّ، لا أن يفسّر لهم فقط معنىٰ البرّ، كذلك هنا أيضاً فهو يريد للاُمّة
الإسلاميّة أن تبلغ درجة القلب السليم، لا أن يذكر لهم فقط بأنّ سلامة القلب عامل
للنجاة في يوم القيامة.
تنويه: انّ تبيين المصداق يكون أحياناً في آيات اُخرىٰ لا في نفس الآية الّتي هي
محلّ البحث، كما في الآية الكريمة ﴿... فَبَشِّرْ عِبَادِ *٭ الَّذِينَ يسْتَمِعُونَ
الْقَوْلَ فَيتَّبِعُونَ أَحْسَنَه﴾29 فالكلام هنا عن أحسن الأقوال، ولكنّ مصداقه
ذكر في موضع آخر، وذلك في قوله تعالىٰ: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّن دَعَا
إِلَىٰ اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين﴾30. وكذا في
سورة الحمد حيث جاء ذكر مجمل وكلّي عن المنعم عليهم: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
عَلَيهِم...﴾ ولكن في سورة النساء بُيِّن مصداق المنعم عليهم بقوله تعالىٰ: ﴿مَعَ
الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيينَ وَالصِّدِّيقِينَ
وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِين...﴾31.
9. تكرار المواضيع: انّ سرّ التكرار في القرآن الكريم هو انّ القرآن كتاب نور وهدىٰ،
وفي مقام الهداية يصبح من اللازم أن يؤدّىٰ المعنىٰ الواحد في كلّ مناسبة بتعبير
خاصّ حتّىٰ تكون له صفة الموعظة، خلافاً للكتب العلميّة الّتي يذكر فيها الموضوع في
مكان واحد ولا يكون تكراره مفيداً. والسرّ في لزوم التكرار في كتاب الهدىٰ هو انّ
الشيطان والنفس الأمّارة، بما انّهما سببان للضلالة والعذاب، يكونان دائماً منهمكين
في إضلال الانسان، ونشاطهما وإن خفّ أحياناً ولكنّه لايتوقّف، ولذلك كان تكرار
الهداية والإرشاد ضروريّاً.
10. انّ احدىٰ الظرائف الأدبيّة والفنّية في القرآن الكريم هو التغيير المفاجئ في
السياق، فمثلاً ترىٰ في جملة مّا وبعد ذكر عدّة كلمات مرفوعة، وفي الأثناء تفاجأ
بذكر كلمة منصوبة وذلك حتّىٰ يتوقّف القارئ ويدفعه ذلك الىٰ التأمّل والتدبّر، كما
في قوله تعالىٰ: ﴿لٰكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ
يؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ
الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيوْمِ الآخِرِ
أُؤلٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيم﴾32، حيث انّه في هذه الآية الكريمة ذكرت
خمس صفات، والسياق الأدبيّ يقتضي أن تكون هذه الصفات مرفوعة كما هو الحال في
الصفتين المقدّمتين (الراسخون والمؤمنون) وفي الصفتين المؤخّرتين (المؤتون
والمؤمنون)، ولكن نرىٰ بين هذه الصفات الأربع المرفوعة صفة واحدة منصوبة وهي صفة (المقيمين)،
وذلك لأجل أن يلفت نظر المتدبّرين والتالين لكتاب الله إلىٰ أهمّية الصلاة الّتي هي
عمود الدين، كما هو متعارف في كتابة اليافطات والإعلانات حيث تكتب بعض الكلمات مثل
كلمة "شهيد" باللون الأحمر كي تلفت نظر المشاهد. فإذاً بتغيير الاُسلوب وتبديل
السياق يتمّ التنبيه علىٰ أهمّية وخصوصيّة المحتوىٰ لذلك اللفظ.
* آية الله الشيخ جوادي آملي-بتصرف يسير
1- سورة الجمعة، الآية 2.
2- سورة ابراهيم، الآية 1.
3- سورة ق، الآية 45.
4- سورة الشورىٰ، الآية 7.
5- سورة الشورىٰ، الآية 52.
6- سورة البقرة، الآية 183.
7- سورة الاعراف، الآية 26.
8- سورة البقرة، الآيتان 196 197.
9- سورة البقرة، الآية 187.
10- سورة التوبة، الآية 103.
11- سورة النور، الآية 28.
12- سورة المائدة، الآية 27.
13- تفسير نور الثقلين، ج1، ص615.
14- سورة الطارق، الآيتان 13 14.
15- سورة المنافقون، الآية 8.
16- سورة المنافقون، الآية 7.
17- سورة فصّلت، الآيتان 41 42.
18- سورة النساء، الآية 32.
19- سورة فاطر، الآية 27.
20- سورة الانعام، الآية 141.
21- سورة الأنبياء، الآية 30.
22- سورة البقرة، الآية 151.
23- سورة البقرة، الآية 239.
24- نهج البلاغة، الخطبة 1، الفقرة 37.
25- سورة النساء، الآية 113.
26- سورة البقرة، الآية 216.
27- سورة البقره، الآية 177.
28- سورة الشعراء، الآيتان 88 89.
29- سورة الزمر، الآيتان 17 18.
30- سورة فصّلت، الآية 33.
31- سورة النساء، الآية 69.
32- سورة النساء، الآية 162.