بسم الله الرحمن الرحيم
قيام جماعة أو فرد بما يقتضيه نظام الشرع أو المصلحة العامة كالحركة التي قام بها
الحسين بن علي عليهما السلام1 وحقيقة النهضة سيالة في الأشخاص والأمم وفي الأزمنة
والأمكنة، ولكن بتبدّل أشكال واختلاف غايات ومظاهر; وما تاريخ البشر سوى نهضات
أفراد وجماعات وحركات أقوام لغايات، فوقتاً الخليل عليه السلام ونمرود، وحيناً
محمّد صلى الله عليه وآله وأبو سفيان2 ويوماً علي ومعاوية.
ولم تزل ولن تزال في الأمم نهضات أئمة هدى تجاه أئمة جور، ونهضة الحسين من بين
النهضات قد استحقّت من النفوس إعجاباً أكثر لا لمجرد ما فيها من مظاهر الفضائل
وإقدام معارضيه على الرذائل، بل لأنّ الحسين عليه السلام في إنكاره على يزيد3 كان
يمثّل شعور شعب حي4، ويجهر بما تضمره أُمة مكتوفة اليد، مكمومة الفم، مرهقه بتأثير
أمراء ظالمين، فقام الحسين عليه السلام مقامهم في إثبات مرامهم، وفدى بكل غال ورخيص
لديه باذلاً في سبيل تحقيق أمنيته وأُمته من الجهود ما لا يطيقه غيره فكانت نهضته
المظهر الأتم للحق، حينما كان عمل معارضيه المظهر الأتم للقوّة فقط من غير ماحقّ أو
شبهة حق.
خلافة يزيد وخلاف الحسين له:
خلافة النبي صلى الله عليه وآله: هي النيابة عنه في الولاية على الأُمّة في جميع
شؤونها، أو جميع شؤونه إلاّ الوحي، فهي أُخت النبوة وشريكتها في البيعة والعهد
والرئاسة العامة، وسمي المتولي لهذا العهد "إماماً" يجب الاقتداء بأفعاله والاهتداء
بأقواله، لذلك أجمعت أُمّة محمّد صلى الله عليه وآله: على اشتراط العدالة فيه مع
الفضل الديني ما نص عليه القرآن الحكيم في آية إبراهيم:
﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ
إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين﴾ كذلك
اشترطوا في متن بيعته: العمل بكتاب الله وسنة رسوله خوفاً من حصول سوء الاختيار أو
فسوق المختار.
ولقد ثار المهاجرون والأنصار ومسلمو مصر والأمصار على عثمان بن عفان حتى كان ما كان
من أمره وأمر مروان، كل ذلك إنكاراً منهم لأحداث تخالف الكتاب والسنة، ولقد كان
الأحرى بالجمهور وأولياء الأُمور: أن يعتبروا بهذا الحادث ويأخذوا دروساً من
الحوادث فلا يُؤمّروا إلا من ائتمنوه على الدين لكي يسير فيهم على الهدى والصلاح،
لكن ابن هند وعصبته المستخفّة بالحق لم يتبعوا سبيل المؤمنين يوم ملكوا رقاب
المسلمين وأخضعوا أمام قوتهم حتى المهاجرين.
هذا; ولم يحس من الحسين بعد الحسن عليهما السلام موجة خلاف أو رغبة الخلافة، بل
أقام مسيرته الهادئة برهاناً ساطعاً على زهده عنها، إذ كان يفضل هدوء الشعب على
الشغب، ولكن على شريطة حفظ الشرع وظواهره والدين وشعائره ولو نوعاً ما أمّا أن يرى
يزيد ممثّلاً عن جدّه الأمين وخليفته في المسلمين مع استهتاره وفسقه وفسق عمّاله
فشيء لا يستطيع حمله صدر الحسين وأمثاله!
وبالرغم من صبر الحسين واحتسابه مدّه أربعين عاماً من إمارة معاوية مرّت حوادث
مُرّة ضاق عنها صدر ابن علي الرحب وأوغرت صدر يزيد من الجهة الأخرى أخص بالذكر منها
حدثين بارزين استثار الواحد منهما حنق يزيد وكل ما في حفايظه من ضغائن، وهو ما
سنقصّه عليك من أمر أُرينب بنت إسحاق سيدة الجمال5، كما استثار الحدث الثاني من
حسين الفتوة كل شهامة ومروة، وحول وقوة، وذلك اهتمام ابن هند لاستخلاف ولده يزيد
إماماً للمسلمين وأميراً على المؤمنين إذ كان معاوية الدهاء يحاول ذلك من شتّى
الوجوه بين الجد والهزل على ألسنة المتزلفين إليه.
تذاكر معاوية يوماً مع الناس في بيعة يزيد والاحنف بن قيس جالس لا يتكلم فقال: مالك
لا تقول يا أبا بحر؟ قال: أخافك إن صدقت وأخاف الله إن كذبت.
ورووا عن معاوية أنه أظهر بعد موت زياد بن أبيه كتاباً مفتعلاً عن خطه بتحويل
الخلافة وولاية عهدها إلى يزيد6.
وعن الحسن البصري أنه قال: "أفسد أمر هذه الأُمة اثنان: عمرو بن العاص في التحكيم
والمغيره بن شعبة، فإنه كان عامل معاوية على الكوفة، فكتب إليه معاوية: إذا قرأت
كتابي فأقبل معزولاً. فأبطأ عنه، فلما ورد عليه قال: ما أبطأ بك؟ قال أمر كنت
أُوطؤه وأهيئه. قال: ماهو: قال البيعة ليزيد من بعدك. قال: أو قد فعلت؟ قال: نعم.
قال: فارجع إلى عملك فلما خرج قال له أصحابه: ما وراؤك؟ قال: وضعت رجل معاوية في
غرزغي لا يزال فيه إلى يوم القيامة".
ثمّ حجّ معاوية وفي صحبته يزيد يقدّمه إلى المهاجرين كمرشح للخلافة بعده، فدخل عليه
الحسين في المدينة وهو على ما هو عليه من التظاهر بالفجور وشرب الخمور فلم يسؤه
يومئذ إلاّ التجاهر بإنكار هذا العمل وانضم إلى صوته أصوات ثلة من أكابر الصحابة،
وابن صخر من ورائه ينثر الذهب والفضة ويبث المواعيد حتى انحصرت أصوات المعارضين في
أربعة، فحس ابن الرسول بأول خذلان من أُمته في مدينة جدّه. وما عاد ابن صخر إلى
الشام حتى راجت في المدينة وصايته بمباراة معارضيه الأربعة ولا سيما الحسين ابن
فاطمة، فهدأت سورة ابن البتول إذ وجد أمامه متسعاً، ويرى أثر هذه الصدمة في قلوب
الأمة وموجة الحركات العامة إن قضى طاغية الشام نحبه، فدبّر ابن علي أمره حسبما
تسمح له الظروف وتساعده الأحوال، إلاّ أنّه فوجىء من يزيد بأخذ البيعة منه خاصة ومن
الناس عامة وصحت مكيدة ابن هند في تخديره الأعصاب من وصيته بالحسين عليه السلام
بينما كان ابن الرسول قالعاً منهم بالسكوت عنه، لكنهم لم يقنعوا منه بالحيدة ولا
بالعزلة ولا بالخروج إلى الثغور أو إلى أقصى المعمور.
أهلية الحسين للخلافة:
ربّما اتّخذوا استجابة الحسين عليه السلام لدعوة الكوفة وإرساله ابن عمه إليها لأخذ
العهد منها دليلاً على أنّه رشّح نفسه للخلافة، غير أنّ ذلك لا ينافي خطته الدفاعية
ولا يوجد نحوه مغمزاً، حيث اجتمعت لنهضة الحسين وتلبيته لدعوة الكوفة أسباب أربعة
لو تعلّق كل رجل من المسلمين بواحد من تلكم الأسباب لأصبحت مقاومة يزيد عليه حتماً
وإلزاماً:
أوّلاً:
أهلية يزيد للمخالفة وعدم أهليته للخلافة. فقد امتلأت بطون التواريخ عن سوء سيرته
وسريرته: من شرب الخمر، وصيده بالنمر، وخلاعته في فجوره حتى بالمحارم. ثم إنّه لم
ينل عهد ملكه بوصاية أو وراثة ممّن استحقها من قبل، فقد ابتز أبوه الامارة بالمكر
والغدر، وأخذ البيعة له بالعنف والقهر، وبتهديد ألسنة الأسنة والحراب، دون أدنى
حرية للمسلمين في الشورى والانتخاب. فكان الواجب على الأُمّة خلع هذا الخليع الغاصب،
وفيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله7: "سيد الشهداء عمي حمزة، ورجل قام
في وجه إمام جائر يأمره وينهاه ثم قتله" وقد تم هذا التنبؤ في عمل الحسين قبل غيره.
ثانياً:
علم ابن النبي من نفسه ومن آثار جّده وأبيه وأخيه: أنّه إمام المسلمين دون سواه،
ورشحته ألسنة المتجاهرين بالحق، وصدَّقته البقية تحت ستار التقيّة. فهل يكون لأحد
من الوجوه مثل هذا ثم لا ينهض؟!
ثالثاً:
تلوح من السيرة الحسينية المثلى أنّه مسبوق العلم بأنباء من جدّه وأبيه وأُمه وأخيه
وحاشيته وذويه بأنّه مقتول بسيف البغي خضع أو لم يخضع، وبايع أم لم يبايع فهلا يرسم
العقل الناضج لمثل هذا الفتى المستميت خطة غير الخطة التي مشى عليها حسين الفضيلة،
قوامها الشرع وزمامها النبل ولسان حاله:
مشيناها خطىً كتبت علينا***ومن كتبت عليه خطىً مشاها
رابعاً:
تواتر الكتب إلى ابن النبي صلى الله عليه وآله من العراق وخلاصة أكثرها: "اقدم
علينا يابن رسول الله، فليس لنا إمام غيرك، ويزيد فاسق فاجر ليس له بيعة في أعناقك،
فعجّل بالمسير إلينا، وإن لم تفعل خاصمناك عند جدّك يوم القيامة".
فماذا يكون ياليت شعري جواب مثل الحسين لمثل هؤلاء؟ وهلا تراه ملوماً لو لم يستجب
دعوتهم؟!
* جواد هبة الدين الحسيني الشهرستاني- بتصرّف
1- الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه
السلام) أمه فاطمة الزهراء (عليها السلام) بنت محمّد المصطفى (صلى الله عليه وآله)
من زوجته الكبرى خديجة أم المؤمنين (عليها السلام).وهو أحد السبطين الريحانتين،
وخامس أهل الكساء، ولد في المدينة عام الخندق في السنة الرابعة للهجرة في خامس
شعبان الموافق شهر كانون لسنة 626 م، وعاش مع جده النبي (صلى الله عليه وآله) ست
سنوات وشهوراً وبقي معه أخيه الحسن أعواماً وشهوراً وكان مجموع عمره ستة وخمسين
عاماً، وكانت شهادته بعد الظهر من يوم الجمعة عاشر محرم الحرام سنة 61هـ المواق سنة
680م بحاير الطف من كربلاء في العراق. واشترك في قتله شمر بن ذي الجوشن وسنان بن
أنس وخولى بن يزيد من قواد جيش عمر بن سعد الذي أرسله والي الكوفة عبيد الله بن
زياد بأمر من أمير الشام يزيد بن معاوية ليحصروا الحسين ورجاله ويقتلوهم وهم عطاشى.
فقتلوه ورجاله ونهبوا وسبوا عياله مسفَّرين إلى الكوفة ثم إلى الشام فالمدينة. وإن
اشتهار فضائل الحسين والآثار المرويه فيه ومنه وعنه في كتب الحديث والتاريخ ليغني
عن التوسع في ترجمته الشريفة.
2- هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، كان في الجاهلية بياع الزيت والأدم، ذميم
الخلقة، هو من كبار قريش حتى قامت به قيامة قريش على الهاشميين قبيل الهجرة فترأس
في المحالفة القرشية وأخذ على عاتقه مناوأة الإسلام ومقاتلة المسلمين. وله في عام
الهجرة نحو سبع وخمسين سنة. ولم تقصر عنه أخته أم جميل العوراء في ايذاء رسول الله
(صلى الله عليه وآله) وسعيها بالنميمة والفساد بين بني هاشم والقبائل ا، إذ كانت
تحت أبي لهب والمقصود من آية «وامرأته حمالة الحطب... الخ» ولم يبرح يثير الأقوام
ويشكّل الأحزاب ضدّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما في بدر الكبرى وبدر الصغرى
وفي أُحد والأحزاب وفي وقايعه الأخرى. ولم يهدأ ساعة عن معاداة النبي في السر
والعلانية وبإثارة النفوس والجيوش ضدّه، ويجاهد المسلمين جهده إلى يوم فتح مكة حيث
أسلم مع بقية قريش. وأوّل مشاهد بني سفيان مع المسلمين كان في غزوة حنين فمنحه
المصطفى (صلى الله عليه وآله) مائة بعير من غنائم الحرب منوّهاً به وبمكانته. ثم
اشترك أبو سفيان يوم الطائف فأصابته نبله في احد عينيه ففقئت واستعمل جابياً، ثم
اشترك في واقعة اليرموك في السنة الثالثة عشر للهجرة على عهد أبي بكر فأصابت نبلة
عينه الثانية ففقأتها واصبح أعمى. ومقالته فيها تنم عن ميله للروم.ومات في دمشق عند
ولده معاوية سنة احدى وثلاثين هجرية عن ثماني وثمانين سنة ودفن بها.
3- يزيد بن معاوية أُمه ميسون الكلابية ولد سنة خمس وعشرين فسماه أبوه باسم اخيه،
وكان بديناً، مجدراً، رفيع الصوت، على أنفه قرحة، شديد السمرة، ولعاً بلعب النرد
والصيد بالفهد، شغوفاً بمعاقرة الخمور والفجور بأنواعها، متجاهراً بالفسق حتى في
سفر الحج. وفي مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله) أخذ معاويه له بيعة الخلافة في
حياته ثم استقرت له بعد وفاته في رجب سنة 60 هـ ومات بذات الرية في منتصف ربيع
الأول سنة أربع وستين عن ثلاثة عشر ولداً أكبرهم معاوية بن يزيد.
4- إنّ مشاهير الفضلاء يومئذ في الأمة الإسلامية ـ كسيدنا الحسين (عليه السلام)
وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله ابن عمر. وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر
ـ أنكروا على معاويه استخلافه ليزيد الخمور والفجور، وقد توجس يزيد من مخالفة هؤلاء
الوجوه خيفة ان يكون الرأي العام في جانبهم، واهتم في اضطهاد هؤلاء وإرغامهم، فثبت
انّ الحسين (عليه السلام) يومئذ كان يمثّل في قيامه على يزيد رأي الجمهور وشعور
الشعب الحي.
5- العقد الفريد ج2 ص100.
6- العقد الفريد.
7- صححه الحاكم والطبراني عن جابر و (علي).