بسم الله الرحمن الرحيم
كيف نفسّر القرآن؟
مصادر تفسير القرآن:
حيث انّ تفسير القرآن بغير علم وقبل البحث والتحقيق أمر مذموم ويعدّ مصداقاً للتفسير بالرأي الّذي هاجمته الأحاديث الشريفة، فقد أصبح من اللازم البحث في مصادر علم التفسير ومعرفة اُصول وقواعد البحث والتحقيق لأجل التوصّل إلىٰ معارف القرآن، بحيث يكون تفسير القرآن دون تحقّق هذه القواعد تفسيراً بالرأي ومذموماً وبإتّباعها والعمل بها يكون تفسيراً عن دراية وممدوحاً.
إنّ اهمّ مصدر هو القرآن نفسه، حيث انّه مبيِّن وشاهد ومفسِّر لنفسه، وضرورة تفسير القرآن بالقرآن ودوره الكبير في بلوغ المعارف القرآنيّة أمر مبرهَن ومستدلّ عليه وقد خُصّص له فصل في هذه المقدّمة.
والمصدر الآخر لعلم التفسير هو سنّة المعصومين(عليهم السلام) فحسب حديث الثقلين المتواتر فإنّ العترة الطاهرين سلام الله عليهم يعدّون عِدلاً للقرآن، والتمسّك بأحدهما دون الآخر يعدّ تركاً لكليهما، والإعتصام بأيّهما لايكون إلاّ بالتمسّك بالآخر. وسيأتي بيان ضرورة الجمع بين القرآن والحديث في تفسير القرآن الكريم خلال الفصول الآتية.
والمصدر الثالث هو العقل البرهانيّ المصون من آفة مغالطة الوهم ومن ضرر التخيّل، والمراد من العقل البرهانيّ هو ذلك الّذي يثبت بعلومه المتعارفة أصل وجود الله وضرورة صفاته سبحانه من الوحدة والحياة والأبديّة والأزليّة والقدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والحكمة والعدل وسائر صفاته العليا، بحيث يكون الاستدلال به في اثبات هذه الصفات محكماً ومتيناً، وإن كان الدليل النقليّ أيضاً يثبت بعض هذه الأسماء والصفات المذكورة. فإذا ما أثبت العقل البرهانيّ أمراً ما أو نفاه، فإنّ من المؤكّد في تفسير القرآن أن يكون ذلك الأمر الثابت محفوظاً ولا ينفيه ظاهر أيّة آية، وأن يكون الأمر المنفيّ بالبرهان منتفياً في تفسير القرآن ولا يثبته ظاهر أيّة آية. مثلاً إذا كانت هناك آية فيها عدّة احتمالات، وجميعها منتفية عقلاً باستثناء محتمل معيّن واحد، فهنا يجب حمل الآية في مورد البحث علىٰ ذلك المحتمل وذلك بالاستمداد من العقل البرهانيّ. أو إذا كانت هناك آية فيها عدّة محتملات وكان أحدها ممتنعاً بحكم العقل البرهانيّ فإنّه يجب بالتأكيد نفي ذلك المحتمل الممتنع، ويتمّ حمل الآية علىٰ أحد المحتملات الممكنة من دون ترجيح (في حالة عدم وجود المرجّحات).
تنويه: انّ النتائج العلميّة وإن كان لايمكن فرضها علىٰ القرآن لكنّ البراهين العلميّة القطعيّة أو الشواهد الباعثة علىٰ الإطمئنان في العلوم التجربيّة والتاريخيّة والفنّية وأمثالها يمكن إعتبارها حاملة لمعاني ومعارف القرآن، بحيث تكون علىٰ مستوىٰ الشاهد والقرينة، والأرضيّة لأجل فهم خصوص المواضيع المرتبطة بأقسام العلوم التجربيّة والتاريخيّة وأمثالها، وليس ماعدا ذلك.
أقسام تفسير القرآن:
انّ التفسير لمتن مقدّس مثل القرآن الكريم إمّا أن يكون بالنقل (التفسير القرآنيّ والروائيّ)، وإمّا بالعقل (التفسير بالدراية). والتفسير النقليّ إمّا أن يتمّ بالإستمداد من نفس المتن المقدّس، كالآية الّتي تكون شاهداً تصوّريّاً أو تصديقيّاً لآية اُخرىٰ (تفسير القرآن بالقرآن)، وإمّا أن يتمّ بالاستعانة بمتن نقليّ آخر كالحديث المعتبر الّذي يكون شاهداً لمعنىٰ خاصّ في الآية (تفسير القرآن بالسنّة)، وكلا القسمين المذكورين داخلان في التفسير النقليّ، ويمكن التعبير عنهما بـ(التفسير بالمأثور)، (وعليه فإنّ اصطلاح المأثور لايكون مختصّاً بالحديث).
والتفسير العقليّ أيضاً إمّا أن يتمّ بالتفات العقل الىٰ الشواهد الداخليّة والخارجيّة، اي انّ العقل يدرك معنىٰ الآية من خلال الجمع بين الآيات والروايات، وفي هذا القسم فإنّ للعقل دور "المصباح" فقط، ومثل هذا التفسير العقليّ الاجتهاديّ لمّا كان مستنبطاً من المصادر النقليّة فهو يعدّ من أقسام التفسير بالمأثور، وليس من أقسام التفسير العقليّ، وإمّا أن يتمّ التفسير العقليّ بإستنباط بعض المبادئ التصوّرية والتصديقيّة من المصدر الذاتيّ للعقل البرهانيّ والعلوم المتداولة، وفي هذا القسم يكون للعقل دور المصدر، وليس هو عندئذٍ مجرّد مصباح. وبالنتيجة فإنّ التفسير العقليّ يختصّ بالمورد الّذي تُستنبط فيه بعض المبادئ التصديقيّة والمباني المستورة والمطويّة للبرهان علىٰ موضوع مّا بواسطة العقل بحيث تُحمل الآية في مورد البحث علىٰ خصوص تلك المعاني المستنبطة.
وبناءً علىٰ هذا فإنّه يمكن تقسيم التفسير ابتداءاً الىٰ عقليّ ونقليّ، وبعد ذلك يقسّم التفسير النقليّ إلىٰ قسمين، ونتيجة هذا كلّه هو الأقسام الثلاثة التالية:
1. تفسير القرآن بالقرآن.
2. تفسير القرآن بالسنّة.
3. تفسير القرآن بالعقل.
وأمّا تفسير القرآن علىٰ أساس الرأي وهو الّذي يسمّىٰ باصطلاح المفسّرين "التفسير بالرأي" فهو في الواقع ليس "تفسيراً" بل هو "تطبيق" وفرض للرأي علىٰ القرآن.
انّ القرآن الكريم ليس سُفْرةً ولا سِماطاً خُلواً من الطعام حتّىٰ يأتي كلّ فرد بما أحضره بيده من طعام ويضعه عليه ويتناول منه، بل هو بتعبير الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) "القرآن مأدبة"، أي انّه طعام حاضر1: "القرآن مأدبة الله فتعلّموا مأدبته ما استطعتم".2
بناءً علىٰ ذلك فإنّ الآراء والأفكار الجاهزة لايمكن فرضها علىٰ القرآن، حيث انّ هذا هو نفسه (التفسير بالرأي) المذموم وهو من أسوأ طرق وأساليب معرفة القرآن، بل هو فرض للرأي علىٰ القرآن وتطبيق للقرآن مع رأي المفسّرين، وليس تفسيراً. وقد قال النبيّ(صلى الله عليه وآله) ناقلاً كلام الله سبحانه حيث قال: "ما آمن بي من فسَّر برأيه كلامي".3 انّ الفِطَر البشريّة المتعطّشة والجائعة يجب أن ترد علىٰ الكوثر الإلهيّ المتدفّق والمأدبة الإلٰهيّة الفاخرة، كي ترتوي وتشبع منها.
وشرط الاستفادة من القرآن هو ان لا يأتي الانسان الىٰ خدمة القرآن ومعه اُصوله وقواعده الجاهزة وفرضيّاته ونظريّاته البشريّة المسبقة ليجعل القرآن ضيفاً علىٰ اصوله الموضوعة ويفرضها عليه. نعم انّ العلوم السابقة يمكن ان توسّع الاُفق الفكريّ للمفكّرين فتدخل تحت عنوان المبدأ القابليّ، لا أن تكون بعنوان المبدأ الفاعليّ ممّا يؤدّي إلىٰ حصول التغيير في تفسير القرآن.
والتفسير بالرأي اضافة إلىٰ كونه ممنوعاً عقلاً فهو ممنوع نقلاً أيضاً. ومنعه النقليّ يستفاد من مصدرين: أحدهما الآيات الكثيرة والآخر هو الروايات الّتي ذكرت انّ النار والخروج من الدين والارتداد وعدم الايمان كلّها من التبعات والعواقب المرّة لتفسير القرآن بالرأي.
* آية الله الشيخ جوادي آملي.
1- يقول الجوهريّ في الصحاح: والأدب أيضاً: مصدر أدَبَ القوم يأدِبهم بالكسر إذا دعاهم إلىٰ طعامه والآدِب: الداعي... ويقال أيضاً آدَبَ القوم إلىٰ طعامه يؤدبهم إيداباً... وإسم الطعام المأدَبَة والمأدُبة (ج1، ص86 أدب) ويقول ابن الفارس في مقاييس اللغة أيضاً: "فالأدب أن تجمع الناس إلىٰ طعامك وهي المأدَبَة والمأدُبة" (ج1، ص74) وجاء أيضاً في تاج العروس: "والمأدُبة... كلّ طعام صنع لدعوة... أو عُرس وجمعه المآدِب" (ج2، ص13)، كذلك يقول ابن الأثير في النهاية: "... المأدُبة وهي الطعام الّذي يصنعه الرجل يدعو إليه الناس ومنه حديث ابن مسعود: "القرآن مأدُبة الله في الأرض" يعني مدعاته، شبّه القرآن بصنيع صنعه الله للناس لهم فيه خير ومنافع" (ج1، ص30).
2- البحار، ج89، ص19.
3- البحار، ج89، ص107.