بسم الله الرحمن الرحيم
مصائب الإسراف والتبذير:
لا ريب في أن النعم الموجودة على الكرة الأرضية كافية لساكنيها، بشرط واحد، هو أن
لا يبذروا هذه النعم بلا سبب، بل عليهم استثمارها بشكل معقول وبلا إفراط أو تفريط،
والا فإن هذه النعم ليست غير متناهية حتى لو أسئ استثمارها والتصرف بها.
وقد يؤدي الإسراف والتبذير في منطقة
معينة إلى الفقر في منطقة أخرى، أو إن إسراف وتبذير الناس في هذا الزمان يسبب فقر
الأجيال القادمة. وفي ذلك اليوم الذي لم تكن فيه الأرقام والإحصاءات في متناول
الإنسان، حذر الإسلام من مغبة الإسراف والتبذير في نعم الله على الأرض. لذلك
فالقرآن أدان في أماكن كثيرة وبشدة المسرفين والمبذرين.
ففي الآيتين (141) من الأنعام و (31) من الأعراف نقرأ قوله تعالى:
﴿ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين﴾.
أما في غافر (43) فنقرأ:
﴿وإن المسرفين هم أصحاب النار﴾.
والآية (51) من الشعراء تنهى عن طاعة المسرفين:
﴿ولا
تطيعوا أمر المسرفين﴾.
أما الآية (83) من يونس فتجعل الإسراف صفة فرعونية:
﴿وإن
فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين﴾.
والهداية ممنوعة عن المسرفين كما هو مفاد الآية (28) من سورة غافر:
﴿إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب﴾.
وأخيرا تتحدث الآية (9) من سورة الأنبياء عن مصيرهم:
﴿وأهلكنا
المسرفين﴾.
وقد رأينا في الآية التي نبحثها أن الله تعالى جعل المسرفين إخوان الشياطين.
والإسراف بمعناه الواسع هو الخروج وتجاوز الحد في أي عمل يقوم به الإنسان، ولكنها
عادة تستخدم في المصروفات. ومن آيات القرآن نفسها نستفيد أن الإسراف هو في مقابل
التقتير، بينما هناك طريق ثالث هو منزلة بين الأمرين، كما في الآية (67) من سورة
الفرقان: ﴿والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان
بين ذلك قواما﴾.
الفرق بين الإسراف والتبذير:
في الواقع لا يوجد هناك بحث واضح عند المفسرين في التفاوت الموجود بين الإسراف
والتبذير، ولكن عند التأمل بأصل هذه الكلمات في اللغة، يتبين أن الإسراف هو الخروج
عن حد الاعتدال، ولكن دون أن نخسر شيئا، فمثلا نلبس ثيابا ثمينا بحيث أن ثمنه يعادل
أضعاف سعر الملبس الذي نحتاجه، أو أننا نأكل طعاما غاليا بحيث يمكننا إطعام عدد
كبير من الفقراء بثمنه. كل هذه أمثلة على الإسراف، وهي تمثل خروجنا عن حد الاعتدال،
ولكن من دون أن نخسر شيئا.
أما كلمة "تبذير" فهي تعني الصرف الكثير، بحيث يؤدي إلى إتلاف الشئ وتضييعه، فمثلا
نهئ طعام عشرة أشخاص لشخصين، كما يفعل ذلك بعض الجهلاء ويعتبرون ذلك فخرا، حيث
يرمون الزائد في المزابل.
ولكن بالرغم من هذا التمييز، لا بد من القول بأن كثيرا ما تستخدم هاتين الكلمتين
للتدليل على معنى واحد، وقد تتابعان في الجملة الواحدة لغرض التأكيد. فالإمام علي
في نهج البلاغة يقول: "ألا إن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف وهو يرفع صاحبه
في الدنيا ويضعه في الآخرة، ويكرمه في الناس ويهينه عند الله". وفي الآيات التي
بحثناها رأينا أن الإسلام يحث كثيرا على عدم الإسراف والتبذير إلى درجة أنه نهى عن
الإسراف في ماء الوضوء حتى إذا كان ذلك قرب نهر جار، وحتى في نوى التمر. وعالم
اليوم الذي بدأ يتحسس الضائقة في بعض الموارد. أخذ يهتم بهذه الفكرة، حتى بات
يستفيد من كل شئ، فهو مثلا يستفيد من فضولات المنازل في صنع السماد، ومن ماء
المجاري لسقي المزروعات، لأنه أحس أن المصادر الطبيعية محدودة، لذا لا يمكن التفريط
بها بسهولة، وإنما ينبغي الاستفادة منها ضمن ما يعرف ب "دورة المصادر الطبيعية".
هل ثمة تعارض بين الاعتدال في الإنفاق والإيثار؟:
مع الأخذ - بنظر الاعتبار - الآيات أعلاه والتي تؤكد ضرورة الاعتدال في الإنفاق،
يثار سؤال مؤداه، إن في سورة الدهر مثلا، وآيات أخرى، وفي مجموعة من الأحاديث
والروايات، ثمة إشادة بالمؤثرين الذين يؤثرون غيرهم على أنفسهم في أحلك الساعات
وأشد الظروف ويعطون ما يملكون للآخرين، فكيف يا ترى نوفق بين هذين المفهومين؟ إن
الدقة في سبب نزول هذه الآيات مع قرائن أخرى تفيدنا في الوقوف على جواب هذا السؤال،
إذ يكون الأمر بمراعاة الاعتدال في المجالات التي يكون فيها العطاء والهبات الكثيرة
سببا لاضطراب الإنسان في حياته أو بمصطلح القرآن يصبح فيها ملوما محسورا وكذلك إذا
كان الإيثار سببا في التضييق على أبنائه أو أنه يهدد تركيبة عائلته. وإذا لم يقع أي
من هذين المحذورين، فإن الإيثار يعتبر أفضل السبل، نضيف إلى ذلك أن الاعتدال في
الإنفاق يعتبر حكما عاما، بينما الإيثار يعتبر حكما خاصا يرتبط بمصاديق خاصة، وليس
ثمة تضاد بين الاثنين.
* الشيخ ناصر مكارم الشيرازي