بسم الله الرحمن الرحيم
لا عجب إن عدّت نهضة الحسين (عليه السلام) المثل الأعلى بين أخواتها في التاريخ
وحازت شهرة وأهميّة عظيمتين، فإنّ الناهض بها الحسين رمز الحق ومثال الفضيلة، وشأن
الحق أن يستمر، وشأن الفضيلة أن تشتهر. وقد طبع اّل علي (عليهم السلام) على الصدق
حتى كأنّهم لا يعرفون غيره، وفطروا على الحق فلا يتخطونه قيد شعرة.
ولا بدع فقد ثبت في أبيهم عن جدهم عن النبي (صلى الله عليه وآله): "عليّ مع الحق
والحق مع علي يدور معه حيثما دار"1، فكان علي لا يراوغ أعداءه ولا يداهن رقباءه،
وهو على جانب عظيم من العلم والمقدرة وتاريخه كتاريخ بنيه يشهد على ذلك، فشعور
التضحية ـ ذلك الشعور الشريف ـ كان في علي وبنيه ومن غرائزهم ولا سيما في الحسين بن
علي (عليه السلام) وما في الآباء ترثه الأبناء.
وقد تفادى علي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بنفسه كرّات عديدة، كذلك الحسين
تفادى لدين الرسول (صلى الله عليه وآله) وأُمته، إذ قام بعملية أوضحت أسرار بني
أُمية ومكائدهم وسوء نواياهم في نبي الإسلام ودينه ونواميسه.
وفي قضية الحسين حجج بالغة برهنت على أنّهم يقصدون التشفّي منه والانتقام، وأخذهم
ثارات بدر وأحقادها. وقد أعلن بذلك يزيدهم طغياناً ـ وهو على مائدة الخمر ونشوان
بخمرتين خمرة الكرم وخمرة النصر ـ إذ تمثلّ بقول ابن الزّبعرى2:
ليت أشياخي ببدر شهدوا**جزع الخزرج من وقع الأسل
وأضاف عليها:
لعبت هاشم بالملك فلا**خبر جاء ولا وحي نزل
لست من خندف3 إن لم أنتقم**من بني أحمد ما كان فعل
الحركات الإصلاحية والضرورية
إذا كان نجاح الأُمة على يد القائد لزمامها، وإصلاحها يتوقف على صلاح إمامها فمن
أسوء الخيانات والجنايات ترشيح غير الأكفّاء لرياستها ورياسة أعمالها. وسيان في
الميزان أن ترضى بقتل أُمتك أو ترضى برياسة من لا أهلية لها عليها، وأية أُمة اتخذت
فاجرها إماماً، وخونتها حكاماً، وجهالها أعلاماً، وجبناءها أجناداً وقواداً فسرعان
ما تنقرض ولابد أن تنقرض.
هذا خطر محدق بكل أُمة لو لم يتداركه ناهضون مصلحون وعلماء مخلصون وألسنة حق تأمر
بالمعروف وتنهى عن المنكر فيضربون المعتدي على يده، أو يوقفونه عند حدّه.
وبتشريع هذا العلاج درأ نبي الإسلام عن أُمته هذا الخطر الوبيل، ففرض على الجميع
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد تهديده المعتدين وضمانه للنهاضين وصح عنه (صلى
الله عليه وآله): "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" ذلك لكي لا يسود على أُمته من لا
يصلح لها فيفسد أمرها وتذهب مساعي الرسول ومن معه أدراج الرياح. وقد كان هذا الشعور
الشريف حيّاً في نفوس المسلمين حتى عصر سيدنا الحسن السبط (عليه السلام).
وناهيك انّ أبا حفص خطب يوماً فقال: "إن زغت فقوّموني" فقام أحد الحاضرين يهز في
وجهه السيف ويقول: "إن لم تستقم قومناك بالسيف".
غير أنّ امتداد السلطان لمعاوية بن أبي سفيان، وإحداثه البدع، وإماتته السنن
وإبادته الأبرار4 والأحرار بالسيف والسمّ والنار5، وغشّه الأفكار وبثّه الأموال في
وجوه الأمة أخرست الألسن، وأغمدت السيوف، وكمت الأفواه، وصمت الآذان، وحادت بالقلوب
عن جادة الحق والحقيقة ورجالهما فمات أو كاد أن يموت ذلك الشعور الإسلامي السامي.
وأوشك أن لا يحس أحد بمسؤوليته عن مظلمة اخيه ولا يعترف بحق محاسبة آمريه أو معارضة
ظالميه.
وكاد أن تحل قاعدة: "قبّلوا يداً تعجزون عن قطعها" محل آية:
﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي
تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾.
آثار الحركة الحسينية
كان مآل الأحوال السالفة محق الحق بالقوة، وسحق المعنويات بالماديات، وانقراض
الأئمة والأُمة بانقراض الاخلاق والمعارف لولا أن يقيض الرحمن لانقاذ هذه الأمة
حسيناً آية للحق، وراية للعدل، ورمزاً للفضيلة، ومثالاً للإخلاص يوازن نفسه ونفوس
الأُمة في ميزان الشهامة، فيجد الرجحان الكافي لكفة الأُمة فينهض مدافعاً عن عقيدته،
عن حجته، عن أُمته، عن شريعته، دفاع من لا يبتغي لقربانه مهراً، ولا يسألكم عليه
أجراً، ودون أن تلوي لواءه لائمة عدو أو لائمة صديق، ولا يصده عن قصده مال مطمع، أو
جاه مصطنع، أو رأفة بآله، أو مخافة على عياله.
هذا حسين التاريخ والذي يصلح أن يكون المثل الأعلى لرجال الإصلاح وقلب حكم غاشم
ظالم دون أن تأخذه في الله لومة لائم، وقد بدت لنهضته اّثار عامة النفع جليلة الشأن
فإنها:
أولاً:
أولدت حركة وبركة في رجال الإصلاح والمنكرين لكل أمر منكر حيث اقتفى بالحسين
السبط أبناء الزبير، والمختار الثقفي، وابن الأشتر، وجماعة التوابين، وزيد الشهيد،
حتى عهد سَمِّيه الحسين بن علي شهيد فخ، وحتى عهدنا الحاضر ممن لا يحصون في مختلف
الأزمنة والأمكنة، فخابت آمال أُميه فيه، إذ ظنت أنها قتلت حسيناً فأماتت بشخصه
شخصيته وأبادت روحه ودعوته. كلا! ثم كلا! لقد أحيت حسيناً في قتله وأوجدت من كل
قطرة دم منه حسيناً ناهضاً بدعوته داعياً إلى نهضته.
أجل! فإن الحسين لم يكن إلاّ هاتف الحق، وداعي الله، ونور الحق لا يخفى، ونار الله
لا تطفى، ويأبى الله إلاّ أن يتم نوره ويعم ظهوره.
ثانياً:
إنّ الحسين (عليه السلام) ـ بقيامه في وجه الجور والفجور مقابلا ومقاتلاً ـ
أحيا ذلك الشعور الإسلامي السامي الذي مات في حياة معاوية أو كاد أن يموت، ونبه
العامة إلى حب الحياة، ورعاية الذات واللذات، والتخوف على الجاه والعائلات. لو كان
تبرر لأولياء الدين مصافات المعتدين لكان الحسين أقدر وأجدر من غيره، لكنه أعرض
عنها إذ رآها تنافي الإيمان والوجدان، وتناقض الشهامة والكرامة، فجددت نهضته في
النفوس روح التديّن الصادق وعزّة في نفوس المؤمنين عن تحمل الضيم والظلم وعن أن
يعيشوا سوقة كالأنعام وانتعشت إحساسات تحرير الرقاب والضمائر من أغلال المستبدين
وأوهام المفسدين.
ثالثاً:
إنّ النهضة الحسينية هزّت القرائح والجوارح نحو الإخلاص والتفادي، وأتبعت
الصوائح بالنوائح لتلبية دعاة الحق واستجابة حماة العدل في العالم الإسلامي وإنعاش
روح الصدق وهو رأس الفضائل.
وبوجه الإجمال عدت نهضة الحسين (عليه السلام) ينبوع حركات اجتماعية باقية الذكر
والخير في ممالك الإسلام، خففت ويلات المسلمين بتخفيف غلواء المعتدين، فأي خير كهذا
الينبوع السيال والمثال السائر في بطون الأجيال.
* السيد جواد هبة الدين الحسيني الشهرستاني
1 - استدل الرازي في
تفسيره بهذا الحديث وثبوته المتواتر على الجهر بالبسملة.
2 - بكسر الزاي وفتح الباء وسكون العين وفتح الراء المهملتين: كنية شاعر الحزب
السفياني.
3 - خندف: لقب أم مدركة بن إلياس بن مضر جد قريش.
4 - من سنة 40 هـ إلى سنة 60 بعدما استعمل على العراق المغيرة بن شعبة وزياد بن
سمية لاستيصال شأفة الحزب العلوي وقتل صلحاء الصحابة والتابعين ـ كحجر بن عدي
وأصحابه ـ سراًوجهراً وغدراً وغيلة أودفناً في التراب حياًوشق بطونهم وسمل عيونهم.
عدا من قتلوا حرباً أو صلباً أونفيهم وقطع أرزاقهم أو التعرض بأعراضهم، كل ذلك
ليحملوا الأمة بكل وسيلة على سب أبي تراب والترحّم على عثمان وتسويغ المظالم.
5- وقد أفرط معاوية في قتل صلحاء الصحابة والتابعين بدسّ السمّ في مأكلهم ـ أمثال
ابن أبي وقاص، والحسن بن علي، ومالك الأشتر النخعي.وقال ابو الفرج الأموي في مقاتله: وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد فلم يكن شيء أثقل
عليه من أمر الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص فدس اليهما سماً فماتا منه... الخ.