بسم الله الرحمن الرحيم
من أين جاء قارون بهذه الثروة العريضة؟
الطريف أننا نقرأ في الآيتين (23) و (24) من سورة المؤمن ما نستفيد منه بوضوح أن
رسالة موسى (عليه السلام) كانت من البداية لمبارزة ثلاثة أشخاص! "فرعون"، ووزيره
"هامان"، و"قارون" الثري المغرور.
(ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر
كذاب). ونستفيد من النص القرآني المتقدم أن قارون كان من جماعة فرعون، وكان على
خطه، كما أننا نقرأ في التواريخ أنه كان ممثلا لفرعون في بني إسرائيل من جهة1، وأنه
كان أمين الصندوق عند فرعون، والمسؤول على خزائنه من جهة أخرى2.
ومن هنا تتضح هوية قارون.. فإن فرعون من أجل إذلال بني إسرائيل وسلب أموالهم اختار
رجلا منافقا منهم، وأودعه أزمة أمورهم، ليستثمر أموالهم لخدمة نظامه الجبار،
وليجعلهم حفاة عراة، ويكتسب من هذه الطريقة ثروة ضخمة منهم! والقرائن تشير إلى أن
مقدارا من هذه الثروة العظيمة وكنوز الأموال بقيت بعد هلاك فرعون عند قارون، ولم
يطلع موسى (عليه السلام)- إلى تلك الفترة- على مكان الأموال لينفقها على اتباعه
الفقراء. وعلى كل حال، فسواء كانت هذه الثروة قد حصل عليها قارون في عصر فرعون، أو
حصل عليها عن طريق الإغارة على خزائنه بعد هلاكه، أو كما يقول البعض قد حصل عليها
عن طريق علم الكيمياء أو التجارة... أو معرفته بأصول استثمار أموال المستضعفين.
مهما يكن الأمر فإن قارون آمن بموسى بعد انتصار موسى على فرعون، وبدل وجهه بسرعة،
وأصبح من قراء التوراة وعلماء بني إسرائيل... في حين أن من البعيد أن تدخل ذرة من
الإيمان في مثل قلب هذا المنافق! وأخيرا فحين أراد موسى (عليه السلام) أن يأخذ من
قارون زكاة المال، خدع به الناس، وعرفنا كيف كانت عاقبته.
موقف الإسلام من الثروة!
لا ينبغي أن نستنبط من المسائل التي ذكرناها آنفا أن الإسلام يقف من الثروة موقفا
سلبيا، وأنه يخالف خط الثراء، ولا ينبغي أن نتصور أن الإسلام يريد حياة الفقر
والفقراء، ويعد حياة الفقر من الكلمات المعنوية! بل على العكس من ذلك، فإن الإسلام
يعد الثروة عاملا مهما نحو الآخرة! وقد عبر القرآن عن المال بالخير في الآية (180)
من سورة البقرة إن ترك خيرا أي مالا. ونقرأ في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام)
في هذا الصدد "نعم العون الدنيا على طلب الآخرة"3. بل حتى الآيات- محل البحث- التي
تذم قارون أشد الذم، لأنه اغتر بالمال، هي شاهد بليغ على هذا الموضوع.. غاية ما في
الأمر أن الإسلام يقبل بالثروة التي بواسطتها تبتغى الدار الآخرة، كما قال علماء
بني إسرائيل لقارون وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة. والإسلام يرضى بالثروة التي
نرى فيها "أحسن كما أحسن الله إليك "ولكن للجميع! والإسلام يوافق على ثروة يتحقق
فيه القول "لا تنس نصيبك من الدنيا" ويمدحها.
وأخيرا فإن الإسلام لا يطلب ثروة ينبغي بها الفساد في الأرض وتنسى بها القيم
الإنسانية.. وتكون نتيجتها الابتلاء بمسابقة جنون التكاثر، أو أن ينفصل الإنسان عن
ذاته ويحتقر الآخرين، وربما تجره إلى مواجهة الأنبياء كما فعل قارون في مواجهته
لموسى (عليه السلام)! يريد الإسلام الثروة لتكون وسيلة لملء الفراغ الاقتصادي، وأن
يستفيد منها الجميع، ولتكون ضمادا لجراح المحرومين، وللوصول بها إلى اشباع الحاجات
الاجتماعية وحل مشاكل المستضعفين... فالعلاقة بين هذه الثروة وهذه الأهداف المقدسة
ليست علاقة دنيوية، أو ارتباطا بالدنيا، بل هي علاقة أخروية. كما نقرأ في حديث عن
الإمام الصادق (عليه السلام) أن أحد أصحابه جاءه شاكيا أمره، وقال: والله إنا لنطلب
الدنيا ونحب أن نؤتاها. فقال (عليه السلام): "تحب أن تصنع بها ماذا؟ " قال: أعود
بها على نفسي وعيالي، وأصل بها وأتصدق بها وأحج وأعتمر فقال الإمام الصادق (عليه
السلام): "ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة"4.
ومن هنا يتضح فساد عقيدة طائفتين في هذا المجال: طائفة من المسلمين، أو بتعبير
أدق: ممن يتظاهرون بالإسلام، وبعيدون عن تعاليمه، فيعرفون الإسلام على أنه محام عن
المستكبرين. وطائفة من الأعداء المغرضين الذين يريدون أن يمسخوا وجه الإسلام
الأصيل، ويجعلوه معاديا للثروة، وأنه يقف إلى جانب الفقراء فحسب. وأساسا فإن أمة
فقيرة لا تستطيع أن تعيش وحدها مرفوعة الرأس حرة كريمة! فالفقر وسيلة للارتباط
بالأجنبي والتبعية والفقر أساس الخزي في الدنيا والآخرة! والفقر يدعو الإنسان إلى
الإثم والخطيئة. كما نقرأ في حديث للإمام الصادق في هذا الصدد "غنى يحجزك عن الظلم،
خير من فقر يحملك على الإثم"5.
إن على المجتمعات الإسلامية أن تسعى- مهما استطاعت- نحو التقدم لتكون غنية غير
محتاجة، ولتبلغ مرحلة الاكتفاء الذاتي، وأن تقف على أقدامها وأن لا تضحي باستقلالها
وعزتها وشرفها من أجل الفقر المذل الموجب للتبعية وتعلم أن منهج الإسلام الأصيل هو
هذا لا غير .
* آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
1- تفسير الفخر الرازي، ج 25، ص 13، وتفسر مجمع البيان، ج 7، ص 266- ذيل الآية محل
البحث...
2- مجمع البيان، ج 8، ص 520 ذيل الآية 24 من سورة المؤمن.
3- وسائل الشيعة، ج 12، ص 17، الحديث 5 من الباب 16 من أبواب مقدمات التجارة.
4- " وسائل الشيعة، ج 12، ص 19 الحديث الثالث الباب السابع من أبواب مقدمات
التجارة.
5- وسائل الشيعة، ج 12، ص 17، الحديث السابع الباب السادس من أبواب مقدمات التجارة.