بسم الله الرحمن الرحيم
رووا: "أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب في عيال كثير، فقال رسول الله
"صلى الله عليه وآله" لعمه العباس ـ وكان (من) أيسر بني هاشم ـ:
يا أبا الفضل، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة،
فانطلق بنا إليه نخفف عنه من عياله، آخذ من بنيه رجلاً، وتأخذ أنت رجلاً، فنكفلهما
عنه.
فقال العباس: نعم.
فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى تنكشف عن
الناس ما هم فيه.
فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلاً، فاصنعا ما شئتما.
فأخذ رسول الله "صلى الله عليه وآله" علياً "عليه السلام"، فضمه إليه، وأخذ العباس
جعفراً، فضمه إليه، فلم يزل علي "عليه السلام" مع رسول الله "صلى الله عليه وآله"،
حتى بعثه الله نبياً، فاتَّبعه وصدقه.
ولم يزل جعفر مع العباس حتى أسلم، واستغنى عنه[1].
وقد صرحت بعض نصوص الرواية: بأن ذلك قد حصل، وكان عمر علي "عليه السلام" ست
سنين[2].
ونقول:
أولاً: هناك اختلاف واضح في نصوص الرواية، فلاحظ ما يلي:
ألف: في الرواية: أنه "صلى الله عليه وآله" قال للعباس ما قال، فوافقه، وأخذ العباس
جعفراً.
وفي رواية أخرى: أنه "صلى الله عليه وآله" قال ذلك للحمزة والعباس، وأن الذي أخذ
جعفراً هو الحمزة. وأما العباس، فأخذ طالباً. وكان معه إلى يوم بدر، ثم فقد[3].
ب: الرواية المتقدمة ذكرت: أن العباس أخذ جعفراً، لكن رواية أخرى تقول: إن حمزة هو
الذي أخذه، وبقي معه في الجاهلية والإسلام إلى أن قتل حمزة[4].
ج: قد اقتصرت الرواية المتقدمة على استثناء أبي طالب ولده عقيلاً. لكن رواية أخرى
ذكرت أنه استثنى طالباً وعقيلاً[5].
ثانياً: إن عيال أبي طالب لم تكن أكثر من عيال النبي "صلى الله عليه وآله" نفسه،
فإنه كان مسؤولاً عن إعالة بنات ثلاث هنَّ: زينب، ورقية، وأم كلثوم ـ حيث تدل
الشواهد والأدلة: على أنهن فقدن الكفيل، فأخذهن "صلى الله عليه وآله" وتولى تربيتهن
ـ بالإضافة إلى زوجته، وربما أختها أيضاً..
أما عيال أبي طالب، فهم: ولده علي "عليه السلام" وزوجته. وربما أم هاني وجمانة.
وذلك يدل: على أن أخذ النبي "صلى الله عليه وآله" لعلي "عليه السلام" ليس لأجل
التخفيف عن أبي طالب، بل لغرض آخر أعلى وأسمى وأوفق بالصلة الروحية بينهما.. وإنما
يريدون طرح الموضوع بهذا الشكل لتضييع هذه الفضيلة لعلي"عليه السلام".
ثالثاً: لقد كان جعفر، وعقيل، وطالب، رجالاً، قادرين على إعالة أنفسهم، لأن جعفر
كان له من العمر آنئذٍ ستة عشر عاماً، وكان عمر عقيل ستة وعشرين، وعمر طالب ستة
وثلاثين سنة..
مع تصريح الرواية نفسها: بأن العباس يأخذ رجلاً، والنبي "صلى الله عليه وآله" يأخذ
رجلاً.
فما معنى حاجة الرجال إلى المعيل والكافل؟!
ولماذا يحتاج جعفر إلى إعالة العباس له، فهو قادر على العمل، كالبيع والشراء،
والزراعة، ورعي الماشية، وممارسة الحرف، والأعمال، وغير ذلك؟!
فما بالك بما ذكرته الرواية الأخرى عن كفالة طالب، الذي كان عمره ستاً وثلاثين سنة؟!
رابعاً: ذكرت بعض نصوص الرواية المتقدمة: أن النبي "صلى الله عليه وآله" أخذ علياً
"عليه السلام" وهو ابن ست سنين، كسنه يوم أخذه أبو طالب[6].
ومن الواضح: أن أبا طالب إنما كفل النبي "صلى الله عليه وآله" بعد موت عبد المطلب،
وكان عمره ثمان سنين لا ست[7].
مع العلم بأن الروايات تصرح بأنه "صلى الله عليه وآله" أخذ علياً "عليه السلام"
إليه منذ الولادة أو بعدها بيسير..
خامساً: إن ما رآه أبو طالب في علي "عليه السلام" من كرامة إلهية، ومن ألطاف وأسرار،
وما عرف عن أبي طالب من ارتباط بالله تبارك وتعالى، يمنع من أن نتصوره مهتماً بغير
علي "عليه السلام" مطلقاً، أو أكثر من اهتمامه بعلي "عليه السلام".
كما أن عقيلاً لم يكن أفضل من جعفر في مزاياه، فلماذا يقدِّم أبو طالب عقيلاً عليه؟!
وما هي المزايا التي وجدها في عقيل، وفقدها في جعفر أو في علي "عليه السلام"؟! لا
سيما مع ما رأيناه من تعلق له شديد برسول الله "صلى الله عليه وآله" لأجل مزاياه،
وما يراه من كرامات له وأسرار..
فلماذا لا يكترث بعلي "عليه السلام" صنو النبي "صلى الله عليه وآله"، وحبيبه،
ونجيَّه. ويمحض كل حبه واهتمامه لعقيل؟!
سادساً: لماذا بقي جعفر مع العباس كل هذه السنوات حتى أسلم؟!
ولماذا بقي علي "عليه السلام" مع النبي "صلى الله عليه وآله" حتى بعث رسول الله "صلى
الله عليه وآله"؟! مع أن سنوات الجدب قد انقضت؟!
ولماذا لم يسترجع أبو طالب أبناءه بعد انفراج الأزمة؟!
ألم يكن الأجدر بجعفر أن يتفقد أباه، ويسأله عن رأيه في العودة، ويبادر هو نفسه
إليها، ليكون معه وإلى جانبه، ليعينه، ويقضي حوائجه؟!
ويتأكد هذا الإعتراض إذا أخذنا بالرواية التي تقول: إن طالباً بقي مع العباس إلى
بدر، وإن جعفر بقي مع حمزة إلى أن استشهد حمزة. مع أن جعفراً قد هاجر إلى الحبشة في
السنة الخامسة من البعثة، وبقي هناك إلى حين فتح خيبر بعد الهجرة!!
الرواية الصحيحة:
ولعل الرواية الصحيحة: هي تلك التي ذكرها "أبو القاسم من ثلاثة طرق: أن النبي "صلى
الله عليه وآله" حين تزوج خديجة قال لعمه أبي طالب: إني أحب أن تدفع إليَّ بعض ولدك،
يعينني على أمري، ويكفيني. وأشكر لك بلاك عندي.
فقال أبو طالب: خذ أيهم شئت.
فأخذ علياً "عليه السلام".."[8].
فإن هذه الرواية هي الأوفق بأخلاق رسول الله "صلى الله عليه وآله"، وبوفائه لعمه
أبي طالب. والأوفق بأخلاق أبي طالب، وما ظهر من محبته لرسول الله "صلى الله عليه
وآله"، وتفانيه في كل ما يرضيه..
وقد تجلى في هذه الراوية أدب الخطاب النبوي مع عمه العظيم والكريم.. كما أنها قد
أظهرت إيثار أبي طالب لرسول الله "صلى الله عليه وآله" بولده على نفسه..
على أننا لا نجد غضاضة في أن يستثني أبو طالب ـ وهو شيخ قد يزيد عمره على ستين سنة
ـ عقيلاً، لأنه يحتاج إلى من يخدمه، ويقضي له الحاجات التي يتولى الشباب عادة
قضاءها..
أما إذا أريد الإستفادة من هذا الإستثناء التعريض بالطعن بجعفر وبأمير المؤمنين علي
"عليه السلام"، فلا نرى لذلك أي مبرر معقول أو مقبول..
هذا التجني لماذا؟!:
ولعل الهدف من هذا التجني أمران:
أحدهما: إظهار زهد أبي طالب بعلي "عليه السلام"، إما لعدم وجود مبررات في علي "عليه
السلام" لحب أبي طالب له.. وإما لفقدان الإتزان المطلوب في شخصية أبي طالب..
وكلاهما هدف لأعداء علي "عليه السلام"..
الثاني: الإيحاء بأن تربية النبي "صلى الله عليه وآله" لعلي "عليه السلام" لم تكن
لأجل حبه له. بل هو أمر فرضته الظروف، وساقت إليه الحاجة.
* العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي
[1] - المستدرك على
الصحيحين ج3 ص567 الحديث رقم (6463)، وبحار الأنوار ج18 ص208 و 209 وج35 ص24 و 25
وج35 ص43 وج38 ص237 وراجع ص294 و 315 وج42 ص115و 43 و 44 و 24 و 25 وراجع ما يلي:
الطرائف لابن طاووس ص17 وكنز الفوائد للكراجكي ص117 و (ط دار الذخائر) ص255 وشرح
نهج البلاغة للمعتزلي ج13 ص198 و 199 وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص57 والكامل لابن
الأثير ج2 ص58 وكشف الغمة ج1 ص152 والفصول المهمة لابن الصباغ ج1 ص181 و 182 وجواهر
المطالب لابن الدمشقي ج1 ص41 و 42 والسيرة النبوية لابن كثير ج1 ص429 ونور الأبصار
ص77 ومجالس ثعلب ج1 ص29 وتاريخ الإسلام للذهبي ج1 ص136 وأنساب الأشراف (بتحقيق
المحمودي) ج2 ص346 = = ومقاتل الطالبيين ص26 والسيرة النبوية لابن هشام ج1 ص162
وسبل الهـدى والرشاد ج2 ص301 ودلائل النبوة للبيهقي ج2 ص162 والمناقب للخوارزمي ص51
ومطالب السؤول ص58 وعيون الأثر ج1 ص124 والبداية والنهاية ج3 ص25 و (ط دار إحياء
التراث العربي سنة 1408هـ) ج3 ص34 وعلل الشرائع ج1 ص201 و 202 و (ط المكتبة
الحيدرية سنة 1385هـ) ج1 ص169 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص179 و 180 و (ط المكتبة
الحيدرية) ص27 عن الطبري، والبلاذري، والواحدي، وتفسير الثعلبي، وشرف النبي "صلى
الله عليه وآله" وأربعين الخوارزمي، ودرجات محفوظ البستي، ومغازي محمد بن إسحاق،
ومعرفة أبي يوسف الفسوي، وتفسير الثعلبي ج5 ص84 وخصائص الوحي المبين لابن البطريق
ص148 والجوهرة في نسب الإمام علي وآله للبري ص10 وإعلام الورى ج1 ص105 و 106 وروضة
الواعظين ص86 ونزهة المجالس للصفوري الشافعي (ط سنة 1310 هـ) ج1 ص164 والعمدة لابن
البطريق ص63 وذخائر العقبى ص58 وحلية الأبرار ج2 ص27 و 47 ومناقب أهل البيت "عليهم
السلام" للشيرواني ص37 والسيرة الحلبية (مطبوع مع السيرة النبوية لدحلان) ج1 ص268 و
(ط دار المعرفة سنة 1400هـ) ج1 ص432 وغاية المرام ج5 ص154.
[2] - مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب ج2 ص179 و (ط المكتبـة الحيدريـة) = = ص27
وبحار الأنوار ج38 ص294 و 295 والأنوار العلوية ص38 وينابيع المودة ج1 ص456.
[3] - مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب ج2 ص179 و (ط المكتبة الحيدرية) ص27 وبحار
الأنوار ج38 ص294 و 295 ومقاتل الطالبيين ص15 وحلية الأبرار ج2 ص29 وموسوعة التاريخ
الإسلامي لليوسفي ج1 ص353 و 354 وينابيع المودة ج1 ص456 وعقيل ابن أبي طالب للأحمدي
الميانجي ص22 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب "عليه السلام" في الكتاب والسنة
والتاريخ ج1 ص93 وج8 ص100 وج9 ص122 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج17 ص75.
[4] - مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب ج2 ص179 و 180 و (ط المكتبة الحيدرية) ص27
وبحار الأنوار ج38 ص295 وحلية الأبرار ج2 ص29.
[5] - الفصول المهمة لابن الصباغ ج1 ص181 وكنز الفوائد للكراجكي ص117 وبحار الأنوار
ج35 ص44 و 118 وكتاب الأربعين للماحوزي ص197 والسيرة النبوية لابن هشام ج1 ص162
ومطالب السؤول ص59 وعيون الأثر ج1 ص124 وسبل الهدى والرشاد ج2 ص301 والسيرة الحلبية
(مطبوع مع السيرة النبوية لدحلان) ج1 ص268 و (ط دار المعرفة سنة 1400هـ) ج1 ص432
والأنوار العلوية ص15 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج7 ص525 وج33 ص215.
[6] - مناقب آل أبي طالب لابن ج2 ص179 ـ 180 و (ط المكتبة الحيدرية) ص27 وبحار
الأنوار ج38 ص295 وحلية الأبرار ج2 ص29 وموسوعة التاريخ الإسلامي لليوسفي ج1 ص352 و
356.
[7] - راجع: تذكرة الخواص ج1 ص136 وشرح الأخبار ج1 ص181 والخرائج والجرائح للراوندي
ج1 ص21 وتفسير السمعاني ج6 ص244 ومشارق أنوار اليقين للبرسي ص112 وبحار الأنوار ج22
ص.530 وراجع: أسد الغابة لابن الأثير ج1 ص15 وكشف الغمة للإربلي ج1 ص15 وإعلام
الورى ج1 ص52 وتاج المواليد (المجموعة) للطبرسي ص5.
[8] - مناقب آل أبي طالب ج2 ص180 و (ط مطبعة الحيدرية ـ النجف الأشرف ـ سنة 1376هـ
ـ 1956م) ج2 ص28 وبحار الأنوار ج38 ص295 والإمام علي بن أبي طالب "عليه السلام"
للهمداني ص151 و 523 وحلية الأبرار ج2 ص29.