بسم الله الرحمن الرحيم
إن مراجعة الوجدان، ومحاولة الغور في أعماق النفس الإنسانية، تعطي أن الإنسان ينزع
بطبعه نحو التوحيد، ذلك أنه ينشد الكمال في كل شيء، ويعمل على الوصول إلى كافة
فروعه وتفاصيله، سواء على المستوى المعرفي، أم على المستوى الوجودي، من امتلاك كل
شيء، وهو يبرر ذلك، وبحق، بأنه يكمل نفسه الواحدة في كل ذلك، وهو ما ينعكس على كل
كيانه، سواء على الفردي، أم على المستوى الإجتماعي العام، ولذلك نراه يسعى جاهدا
لتوحيد القوانين التشريعية والتنفيذية، على مجموعة الناس المحيطين به، إن لم يمكن
حصر جميع أبناء الإنسانية تحت لواء واحد، من دون أن يؤدي ذلك إلى أن يرى تعددا في
نفسه، من حيث تحصيل الكمالات المختلفة الوجوه والأشكال.
وقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة، بقوله تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله
التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم}[1].
وبينت جملة من الأخبار الواردة عن أهل البيت عليهم السلام أن المراد بالفطرة في
الآية الشريفة هي فطرة التوحيد.
مبررات القول الأول:
يستند أصحاب هذا الرأي، بمعزل عن المباحث والمناقشات الفلسفية، إلى ما وجد من نقوش
وأحافير، كشف عنها الباحثون في علم الآثار، تبين فيها أن كل أمة أطلقت صفة الألوهية،
على مجموعة من الكائنات والأشخاص، وصوروها بصور وأشكال مختلفة، فاعتبروا ذلك نوعا
من الإعتقاد بتعدد الآلهة.
ولما كانت هذه الحضارات موغلة في القدم، يرجع بعضها إلى آلاف السنين قبل الميلاد،
فقد افترضوا أن تقديس قوى الطبيعة، وعبادة الكواكب، ونحوها سابقة على مبدأ التوحيد،
الذي أخذ يتطور شيئا فشيئا، حتى أخذ صورته النهائية في الأديان السماوية الثلاث،
حيث بلغ الذروة مع الدين الإسلامي، الذي يشكل خاتمة الأديان.
ويعتقد هؤلاء أن الكتابات والنقوش المكتشفة عبارة عن أساطير، ابتدعتها مخيلة
الإنسان القديم، وهي في حقيقتها مجرد قصص شعبية، لا تستند إلى الحقيقة والواقع، ولا
ترتبط بالمبدأ الأعلى، وقد يستدلون على ذلك بما ورد في هذه المكتشفات من قصص بدء
الخلق، وخروج الإنسان الأول من الجنة، وهبوطه إلى الأرض، وقصة الطوفان وأمثالها،
حيث صنفوا هذه المدونات في زمرة الأساطير[2].
من هنا نجد أن نظرة الكثير من هؤلاء الباحثين للدين تختلف عن نظرة الإلهيين،
اختلافا جذريا، فهم يزعمون أنه ليس للدين أصل سماوي، أو مبررات موضوعية، بل هو
عبارة عن إبتداع بشري، يحكي حالة نفسية، يعيشها الإنسان الديني، نتيجة عجزه عن
تفسير الظواهر الطبيعية، والسيطرة عليها.
بطلان هذا القول:
ولكن الواقع أن هذا القول يجانب الحقيقة جملة وتفصيلا، كما تقدم، فهو يخلط بين
الأسطورة والخرافة من جهة، ويخلط بين الألوهية الحقة في هذه الحضارات، وبين
الألوهية المفتعلة، فإن إطلاق صفة الألوهية على بعض القوى والكائنات، ليس إطلاقا
حقيقيا في ما يبدو، بل هو إما تجوز في التسمية، أو نتيجة لما لحق بهذه المعتقدات مع
الزمان، من إضافات أنتجتها قدرة الإنسان المحدودة على التعبير عما يجول في صدره،
الناشئ من قصور اللغة المعمول بها عندهم، أو لقصورهم عن إدراك المعاني المجردة،
والتفريق بين أبعادها، نتيجة انسهم بعالم المادة والمحسوسات، بحيث تدخل فيها الخيال
الشعبي أو الأدبي لدى هذه الشعوب.
* سماحة الشيخ حاتم إسماعيل
[1] سورة الروم، آية: 30
[2] راجع: قصة الحضارة، ول ديورانت، ج2، ص368