مقدمة:
أول واجبات العباد أن يستحضروا دوما مبدأ عالم الوجود، ونعمه اللامتناهية، هذه
النعم التي تحيطنا وتغمر وجودنا، وتهدينا إلى معرفة الله من جهة، وتدفعنا على طريق
العبودية من جهة أخرى. وعندما نقول إن النعم تشكل دافعا ومحركا على طريق العبودية،
لأن الإنسان مفطور على البحث عن صاحب النعمة حينما تصله النعمة، ومفطور على أن يشكر
المنعم على أنعامه. من هنا فان علماء الكلام (علماء العقائد) يتطرقون في بحوثهم
الأولية لهذا العلم إلى "وجوب شكر المنعم" باعتباره أمرا فطريا وعقليا دافعا إلى
معرفة الله سبحانه. وإنما قلنا إن النعم تهدينا إلى معرفة الله، لأن أفضل طريق
وأشمل سبيل لمعرفته سبحانه، دراسة أسرار الخليقة، وخاصة ما يرتبط بوجود النعم في
حياة الإنسان.
قوله تعالى: الحمد لله رب العالمين:
مما تقدم ابتدأت سورة الحمد بعبارة الحمد لله رب العالمين. ولفهم عمق هذه
العبارة وعظمتها يلزمنا توضيح الفرق بين "الحمد" و "المدح" و"الشكر" والنتائج
المترتبة على ذلك:
1 - "الحمد" في اللغة: الثناء على عمل أو صفة طيبة مكتسبة عن اختيار، أي
حينما يؤدي شخص عملا طيبا عن وعي، أو يكتسب عن اختيار صفة تؤهله لأعمال الخير فإننا
نحمده ونثني عليه. و"المدح" هو الثناء بشكل عام، سواء كان لأمر اختياري أو غير
اختياري، كمدحنا جوهرة ثمينة جميلة. ومفهوم المدح عام، بينما مفهوم الحمد خاص. أما
مفهوم " الشكر " فأخص من الاثنين، ويقتصر على ما نبديه تجاه نعمة تغدق علينا من
منعم عن اختيار[1]. ولو علمنا أن الألف واللام في (الحمد) هي لاستغراق الجنس،
لعلمنا أن كل حمد وثناء يختص بالله سبحانه دون سواه. ثناؤنا على الآخرين ينطلق من
ثنائنا عليه تعالى، لأن مواهب الواهبين كالأنبياء في هدايتهم للبشر، والمعلمين في
تعليمهم، والكرماء في بذلهم وعطائهم، والأطباء في علاجهم للمرضى وتطبيبهم للمصابين،
إنما هي في الأصل من ذاته المقدسة. وبعبارة أخرى: حمد هؤلاء هو حمد لله، والثناء
عليهم ثناء على الله تعالى. وهكذا الشمس حين تغدق علينا بأشعتها، والسحب بأمطارها،
والأرض ببركاتها، كل ذلك منه سبحانه، ولذلك فكل الحمد له. وبكلمة أخرى: جملة الحمد
لله رب العالمين إشارة إلى توحيد الذات، والصفات، والأفعال (تأمل بدقة).
2 - وصف (الله) بأنه (رب العالمين) هو من قبيل ذكر الدليل بعد ذكر الادعاء،
وكأن سائلا يقول: لم كان حمد لله؟ فيأتي الجواب: لأنه (رب العالمين). وفي موقع آخر
يقول القرآن عن الباري سبحانه: الذي أحسن كل شئ خلقه...[2]. ويقول أيضا: وما من
دابة في الأرض إلا على الله رزقها[3].
3 - يستفاد من (الحمد) أن الله سبحانه واهب النعم عن إرادة واختيار، خلافا
لأولئك القائلين إن الله تعالى مجبر على أن يفيض بالعطاء كالشمس!!
4 - جدير بالذكر أن الحمد ليس بداية كل عمل فحسب، بل هو نهاية كل عمل أيضا
كما يعلمنا القرآن. يقول سبحانه عن أهل الجنة: دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم
فيها سلام، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين[4].
5 - أما كلمة "رب" ففي الأصل بمعنى مالك وصاحب الشئ الذي يهتم بتربيته
واصلاحه. وكلمة " ربيبة " وهي بنت الزوجة، ومأخوذة من هذا المفهوم للكلمة. لأن
الربيبة تعيش تحت رعاية زوج أمها. والكلمة بلفظها المطلق تعني رب العالمين، وإذا
أطلقت على غير الله لزم أن تضاف، كأن نقول: رب الدار، ورب السفينة[5]. وذكر صاحب
تفسير (مجمع البيان) معنى آخر للرب، وهو السيد المطاع، ولكن لا يبعد أن يعود
المعنيان إلى أصل واحد[6].
6 - كلمة "عالمين" جمع "عالم"، والعالم: مجموعة من الموجودات المختلفة ذات
صفات مشتركة، أو ذات زمان ومكان مشتركين، كأن نقول: عالم الإنسان، وعالم الحيوان،
وعالم النبات. أو نقول عالم الشرق وعالم الغرب، وعالم اليوم، وعالم الأمس. فكلمة
العالم وحدها تتضمن معنى الجمع، وحين تجمع بصيغة "عالمين"، فيقصد منها كل مجموعات
هذا العالم. ويلفت النظر هنا أن كلمة عالم جمعت هنا جمعا مذكرا سالما، ونعرف أن جمع
المذكر السالم يستعمل في العاقل عادة، ومن هنا ذهب بعض المفسرين إلى أن كلمة
"عالمين" إشارة إلى المجموعات العاقلة في الكون كالبشر، والملائكة، والجن، ولكن قد
يكون هذا الاستعمال للتغليب، أي لتغليب المجموعات العاقلة على غير العاقلة.
7 - يقول صاحب المنار: (ويؤثر عن جدنا الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أن
المراد ب (العالمين) الناس فقط)[7]. ثم يضيف: وقد وردت كلمة (العالمين) في القرآن
الكريم أيضا بهذا المعنى كقوله: ليكون للعالمين نذيرا[8]. ولكن، لو استعرضنا مواضع
استعمال (عالمين) في القرآن، لرأينا أن هذه الكلمة وردت في كثير من الآيات بمعنى
بني الإنسان، بينما وردت في مواضع أخرى بمعنى أوسع يشمل البشر وسائر موجودات الكون
الأخرى، كقوله تعالى: فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين[9] وكقوله
سبحانه: قال فرعون: وما رب العالمين؟ قال: رب السماوات والأرض وما بينهما[10].
وعن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في تفسير (رب العالمين) قال: "رب
العالمين هم الجماعات من كل مخلوق من الجمادات والحيوانات"[11]. كلمة عالمين يمكن
فهمها في إطارها الكوني الأوسع، ويمكن فهمها في إطار عالم (الإنسان) - كما ورد في
رواية الإمام زين العابدين (عليه السلام)، لأن الكائن البشري أشرف المخلوقات، ولأن
الإنسان هو الهدف الأساس من هذه المجموعة الكبرى وليس بين الفهمين أي تناقض.
8 - جدير بالذكر أن هناك من قسم العالم إلى: عالم صغير وعالم كبير،
والمقصود من العالم الصغير هو الإنسان، لأنه لوحده ينطوي على مجموعة من نفس القوى
المتحكمة في هذا الكون الفسيح. والإنسان - في الواقع - عينية مصغرة لكل هذا العالم.
الذي دعانا إلى التوسع في مفهوم كلمة (العالم) هو أن عبارة "رب العالمين" جاءت
وكأنها دليل على عبارة (الحمد لله)، أي أننا نقول في سورة الفاتحة: إن الحمد مختص
بالله تعالى لأنه صاحب كل كمال ونعمة وموهبة في العالم.
* الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - بتصرف
[1] - " الشكر "، من
وجهة نظر أخرى أوسع إطارا، لأن الشكر يؤدي بالقول أحيانا وبالعمل أخرى. أما الحمد
والمدح فبالقول غالبا.
[2] - السجدة، 7.
[3] - هود، 6.
[4] - يونس، 10.
[5] - قاموس اللغة، ومفردات الراغب، وتفسير مجمع البيان، وتفسير البيان.
[6] - لابد من الالتفات إلى أن (رب) من مادة (ربب)، لا من (ربو)، أي إنه مضاعف لا
ناقص.
[7] - المنار، ج 1، ص 51.
[8] - الفرقان، 1.
[9] - الجاثية، 36.
[10] - الشعراء، 23 و 24.
[11] - تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 17.