مسجد السهلة وسكنته (ع):
روي عن عبد الله بن ابان عن ابي عبد الله (ع): ان موضع بيت ادريس النبي (ع)
كان في مسجد السهلة، وكان يخيط في الملابس ومحل عمله.
ومسجد السهلة من المساجد المهمة والقديمة جدا ومن افضل المساجد بعد مسجد الكوفة،
ويقع بالقرب من مسجد الكوفة.
وفيه ايضا سكن ابراهيم النبي (ع) الذي منه سار الى اليمن بالعمالقة، ومنه سار داود
الى جالوت.
وكان فيه ايضا مسكن الامام المهدي (ع) ومقر صلاته ومنه يظهر وتزوره الملائكة في كل
يوم، وتقضى به الحوائج ويستجاب الدعاء فيه.
وروي عن الامام الصادق (ع) ايضا انه قال: بالكوفة مسجد يقال له: مسجد السهلة،
لو ان عمي زيدا اتاه فصلى فيه واستجار الله لاجاره عشرين سنة، فيه مناخ الراكب وبيت
ادريس النبي (ع) وما اتاه مكروب قط فصلى فيه بين العشائين ودعا الله الا فرج الله
كربته[1].
روي عن الامام الصادق (ع) ايضا انه قال: اذا دخلت الكوفة فأت مسجد السهلة فصل
فيه واسال الله حاجتك لدينك ودنياك، فان مسجد السهلة بيت ادريس النبي (ع) الذي كان
يخيط فيه ويصلي فيه، ومن دعا الله فيه بما احب قضى له حوائجه ورفعه يوم القيامة
مكانا عليا الى درجة ادريس (ع)، واجير من مكروه الدنيا ومكائد اعدائه[2].
هجرته (ع) الى مصر:
لما كبر ادريس وآتاه الله النبوة، واطاعه القليل من قومه، فنوى الخروج مع اصحابه من
القرية التي كان يسكن فيها، فثقل على اصحابه الرحيل من اوطانهم فقالوا له: واين نجد
اذا رحلنا مثل هذا النهر[3]، فقال لهم: اذا هاجرنا لله رزقنا غيره.
فخرج وخرج معه اصحابه الى ان وصلوا الى اقليم فرأوا النيل وراوا واديا خاليا من
ساكن، فوقف ادريس على النيل، وسبح الله وقال لجماعته: بابليون، فسمي الاقليم
ببابل[4]. وسمته العرب ـ مصر ـ نسبة الى مصر بن حام.
واقام النبي ادريس ومن معه بمصر يدعو الخلائق الى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وطاعة الله عزوجل.
وتكلم الناس في ايامه باثنين وسبعين لسانا، وعلمه الله عزوجل منطقهم ليعلم كل فرقة
منهم بلسانها، ورسم لهم تمدين المدن، وجمع له طالبي العلم بكل مدينة فعرفهم السياسة
المدنية، وقررها لهم قواعدها، فبنت كل فرقة من الامم مدنا في ارضها.
وكانت عدة المدن التي أنشئت في زمانه مائة مدينة وثماني وثمانين مدينة، وعلمهم
العلوم.
وكان ادريس (ع) اول من اسس المدن.
واول من استخرج الحكمة وعلم النجوم، فان الله عزوجل افهمه سر ذلك وتركيبه، وافهمه
عدد السنين والحساب.
واقام للامم سننا في كل اقليم تليق كل سنة بأهلها.
وقسم الارض الى اربعة ارباع، وجعل على كل ربع ملكا يسوس امر المعمورة من ذلك الربع.
ويظهر من هذا ان النبي ادريس (ع) هو اول من ساق العالم الانساني الى ساحة التفكر
الاستدلالي والامعان في البحث عن المعارف الالهية.
وفاته (ع):
ورد في بعض الروايات في معنى قوله تعالى في ادريس النبي (ع): «ورفعناه مكانا عليا»
هو:
ان الله عزوجل غضب على ملك من الملائكة فقطع جناحه والقاه في جزيرة من جزائر البحر،
فبقي هناك ما شاء الله. فلما بعث الله ادريس جاءه ذلك الملك وسأله ان يدعو الله ان
يرضى عنه ويرد اليه جناحه، فدعا له ادريس فرد الله جناحه اليه ورضى عنه.
قال الملك لادريس: الك حاجة؟ قال: نعم احب ان ترفعني الى السماء حتى انظر الى ملك
الموت، فلا عيش لي مع ذكره، فاخذه الملك على جناحه حتى انتهى به الى السماء
الرابعة.
فلما وصل الى السماء الرابعة نظر الى ملك الموت جالس فلما رآهم حرك رأسه تعجبا،
فسلم عليه ادريس فقال له: مالك تحرك رأسك؟ قال: ان رب العزة امرني ان اقبض روحك بين
السماء الرابعة والخامسة.
فقلت يا رب كيف يكون هذا بيني وبينه اربع سماوات وغلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام...
ثم قبض روحه بين السماء الرابعة والخامسة وهو قوله تعالى: (ورفعناه مكانا عليا)[5].
وكان قد انزل الله عزوجل على ادريس ثلاثين صحيفة.
وكان يصعد الى السماء من عمله في كل يوم مثل اعمال اهل زمانه كلهم.
وكانت الملائكة في زمان ادريس (ع) يصافحون الناس ويسلمون عليهم ويكلمونهم
ويجالسونهم، وذلك لصلاح الزمان واهله، فلم يزل الناس على ذلك حتى كان زمن نوح (ع)
وقومه ثم انقطع ذلك.
وكانت حياته في الارض ثلاثمائة سنة، وقيل: اكثر من ذلك.
وقال الطبرسي رحمه الله عنه والرازي: انه جد ابي نوح (ع) واسمه «اخنوخ»[6].
في وفاته ايضا (ع):
روي عن ابن عباس قال: كان ادريس النبي (ع) يسبح النهار ويصومه ويبيت حيث ما جنه
الليل ويأتيه رزقه حيث ما افطر، وكان يصعد له من العمل
الصالح مثل ما يصعد لاهل الارض كلهم.
فسأل ملك الموت ربه في زيارة ادريس (ع) وان يسلم عليه، فاذن له، فنزل واتاه، فقال
لادريس: اني اريد ان اصحبك فأكون معك، فصحبه.
كانا يسيران في النهار ويصومانه فاذا جنهما الليل اتي ادريس فطوره فيأكل ويدعو ملك
الموت اليه فيقول: لا حاجة لي فيه، ـ اي لا يأكل لانه ملك ـ، ثم يقومان يصليان،
وادريس يصلي ويفتر وينام، وملك الموت يصلي ولا ينام ولا يفتر، فمكثا بذلك اياما.
ثم انهما مرا بقطيع غنم وكرم قد اينع، فقال ملك الموت: هل لك ان تأخذ من ذلك حملا
او من هذا عناقيد فنفطر عليه؟.
فقال: سبحان الله ادعوك الى مالي فتابى فكيف تدعوني الى مال الغير؟!
ثم قال ادريس (ع): فقد صحبتني واحسنت فيما بيني وبينك من انت؟
قال: انا ملك الموت، قال ادريس: لي اليك حاجة، فقال: وما هي؟
قال: تصعد بي الى السماء، فاستاذن ملك الموت ربه في ذلك فأذن له، فحمله على جناحه
فصعد به الى السماء.
ثم قال له ادريس (ع): ان لي اليك حاجة اخرى، قال وما هي؟.
قال: بلغني من الموت شدة فأحب ان تذيقني منه طرفا فأنظر هو كما بلغني، فاستاذن ربه
له فاذن فأخذ بنفسه ساعة ثم خلّى عنه.
فقال له: ـ ملك الموت ـ كيف رأيت؟ قال: بلغني عنه شدة وانه لاشد مما بلغني.
قال ادريس (ع): ولي اليك حاجة اخرى تريني النار، فاستاذن ملك الموت صاحب النار،
ففتح له فلما رآها ادريس (ع) سقط مغشيا عليه.
ثم قال: لي اليك حاجة اخرى تريني الجنة، فاستاذن ملك الموت خازن الجنة فدخلها، فلما
نظر اليها قال: يا ملك الموت ما كنت لاخرج منها.
ان الله تعالى يقول: (كل نفس ذائقة الموت)[7] وقد ذقته، ويقول: «وان منكم الا
واردها» وقد وردت النار، ويقول في الجنة: «وماهم منها بمخرجين» ولست اخرج من الجنة
بعد دخولها.
فأوحى الله الى ملك الموت: خصمك عبدي فاتركه ولا تتعرض له فبقي في الجنة[8].
كانت هذه المحاجة بين ملك الموت وادريس النبي (ع) بوحي من الله تعالى، واراد بها
الله عزوجل تعجيل دخول ادريس (ع) الجنة، وذلك بما كان يتعب نفسه وجسده لعبادة الله
سبحانه، وكان حقا على الله ان يعوضه من ذلك الراحة والطمانينة، وان يبوئه بتواضعه
لله تعالى وصالح عبادته من الجنة مقعدا ومكانا عليا.
وهكذا نتيجة كل مؤمن صالح متقي يعمل لاجل الله تعالى ويتعب نفسه وجسده من أجل الله
ومن أجل الاسلام واعلاء اكلمة لا اله الا الله محمد رسول الله علي ولي الله.
السيد مرتضى الميلاني- بتصرف يسير
[1] الكافي: ج 3 ص 494.
[2] البحار: ج 11 ص 280.
[3] بابل ـ بالسريانية النهر.
[4] بابل ـ بالسريانية النهر.
[5] تفسير الميزان: ج 16 ص 68.
[6] البحار: ج 11 ص 279.
[7] العنكبوت : 57.
[8] البحار : ج 11 ص 278.