يقول تعالى في كتابه الكريم: (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو
خير لكم إن كنتم تعلمون (95) ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا
أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (96) من عمل صلحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه
حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (97))[1]
سبب النزول:
نقل المفسر الكبير العلامة الطبرسي عن ابن عباس قوله: إن رجلا من
حضرموت يقال له عيدان الأشرع قال: يا رسول الله، إن امرأ القيس الكندي جاورني في
أرضي فاقتطع من أرضي فذهب بها مني، والقوم يعلمون إني لصادق، ولكنه أكرم عليهم مني،
فسأل رسول الله امرأ القيس عنه فقال: لا أدري ما يقول، فأمره أن يحلف. فقال عيدان:
إنه فاجر لا يبالي أن يحلف، فقال: إن لم يكن لك شهود فخذ بيمينه، فلما قام ليحلف
أنظره فانصرفا فنزل قوله: ولا تشتروا بعهد الله. . . الآيتان فلما قرأهما رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) قال امرؤ القيس: أما ما عندي فينفد وهو صادق فيما يقول،
لقد اقتطعت أرضه ولم أدر كم هي، فليأخذ من أرضي ما شاء ومثلها معها بما أكلت من
ثمرها، فنزل فيه من عمل صالحا. . . الآية.
التفسير:
ثمن الحياة الطيبة: جاءت الآية الأولى من هذه الآيات لتؤكد على قبح
نقض العهد مرة أخرى ولتبين عذرا آخرا من أعذار نقض العهد الواهية، فحيث تطرقت
الآيات السابقة إلى عذر الخوف من كثرة الأعداء تأتي هذه الآية لتطرح ما للمصلحة
الشخصية (المادية) من أثر سلبي على حياة الإنسان. ولهذا تقول: ولا تشتروا بعهد الله
ثمنا قليلا. أي إن قيمة الوفاء بعهد الله لا تدانيها قيمة، ولو استلمتم زمام ملك
الدنيا بأسرها فإنه لا يساوي قيمة لحظة واحدة من الوفاء بعهد الله. وتضيف الآية
المباركة للدلالة على هذا الأمر: إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون. ويبين
القرآن في الآية التالية سبب الأفضلية بقوله: ما عندكم ينفد وما عند الله باق لأن
المنافع المادية وإن بدت كبيرة في الظاهر، إلا أنها لا تعدو أن تكون فقاعات على سطح
ماء، في حين أن الجزاء والثواب الإلهي النابع من ذات الله المطلقة والمقدسة أعلى
وأفضل من كل شئ. ثم يضيف قائلا: ولنجزين الذين صبروا أجرهم - وعلى الأخص في الثبات
على العهد والأيمان - بأحسن ما كانوا يعملون. إن التعبير ب "أحسن" دليل على أن
أعمالهم الحسنة ليست بدرجة واحدة، فبعضها حسن والبعض الآخر أحسن، ولكن الله تعالى
يجزي الجميع بأحسن ما كانوا يعملون، وهو ذروة اللطف والرحمة الربانية، كما لو مثلنا
لذلك في مثل من حياتنا كأن يعرض بائع أنواعا من البضائع المتفاوتة في النوعية، فقسم
منها بضائع جيدة، وقسم آخر بضائع رديئة، والبقية بين الاثنين، فيأتي مشتري ليأخذ
الجميع بسعر النوعية الجيدة! ولا تخلو جملة ولنجزين الذين صبروا... من الإشارة إلى
أن الصبر والثبات في السير على طريق الطاعة، وخصوصا حفظ العهود والإيمان هي من أفضل
أعمال الإنسان. وقد روي عن علي (عليه السلام) قوله: " الصبر من الإيمان كالرأس من
الجسد، ولا خير في جسد لا رأس معه، ولا في إيمان لا صبر معه"[2]. ثم يبين القرآن
الكريم بعد ذلك - على صورة قانون عام - نتائج الأعمال الصالحة المرافقة للإيمان
التي يؤديها الإنسان وبأية صورة كانت في هذه الدنيا وفي الآخرة، فيقول: من عمل
صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا
يعملون. وعليه، فالمقياس هو الأعمال الصالحة الناتجة عن الإيمان بلا قيد أو شرط، من
حيث السن أو الجنس أو المكانة الاجتماعية أو ما شابه ذلك في هذا الأمر. و "الحياة
الطيبة" في هذه الدنيا هي النتاج الطبيعي للعمل الصالح النابع من الإيمان، أي أن
المجتمع البشري سيعيش حينها حياة هادئة مطمئنة ملؤها الرفاه والسلم والمحبة
والتعاون، بل وكل ما يرتبط بالمجتمع من المفاهيم الإنسانية، وفي أمان من الآلام
الناتجة عن الاستكبار والظلم والطغيان وعبادة الأهواء والأنانية التي تملأ الدنيا
ظلاما وظلامات. وعلاوة على كل ما تقدم فإن الله سيجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون (كما
تقدم تفسيره).
منابع الخلود:
إن طبيعة الحياة في هذا العالم المادي هي الفناء والهلاك، فأقوى
الأبنية وأكثر الحكومات دواما وأشد البشر قدرة لا يعدون أن يصيروا في نهاية أمرهم
إلى الضعف فالفناء، وكل شئ معرض للتلف بلا استثناء في هذا الأمر. أما لو تمكنت
الكائنات من أن توجد لها ارتباطا على نحو ما مع الذات الإلهية المقدسة، وتبقى تعمل
لأجلها وفي سبيلها، فإنها والحال هذه ستصطبغ بصبغة الخلود، لأن ذات الله المقدسة
أبدية وأزلية وكل من ينتسب إليه يحصل على صبغة الأبدية. فالأعمال الصالحة أبدية،
الشهداء لهم حياة أبدية، والأنبياء والعلماء المخلصون والمجاهدون في سبيل الله يبقى
ذكرهم خالدا في ذاكرة التاريخ.. لأنهم يحملون الصبغة الإلهية. ولهذا، تذكرنا الآيات
أعلاه وتدعونا لأن ننقذ ذخائر وجودنا من الفناء، ونودعها في صندوق لا تطاله يد
الزمان ولا تفنيه الليالي والأيام. فهلموا لبذل الطاقات في سبيل الله وفي خدمة خلق
الله، وكسب رضا الباري، لتصبح من مصاديق عند الله ولتكون باقية بمقتضى ما عند الله
باق. وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "إذا مات ابن آدم انقطع
عمله إلا عن ثلاث: صدقة جارية، علم ينتفع به، وولد صالح يدعو له"[3]. وعن علي (عليه
السلام) أنه قال: "شتان ما بين عملين: عمل تذهب لذته وتبقى تبعته، وعمل تذهب مؤنته
ويبقى أجره"[4].
التساوي بين الرجل والمرأة:
مما لا شك فيه أن بين الرجل والمرأة تفاوت واختلاف من الناحيتين
الجسمية والروحية، وهذا الفرق هو الذي جعلهما مختلفين في وظائفها وشؤونهما
الاجتماعية، إلا أن طبيعة الاختلاف الموجود لا تنعكس على الشخصية الإنسانية، ولا
توجد اختلافا في مقامهما عند الله عز وجل، فهما في هذا الجانب متساويان ومتكافئان،
ويحكم شخصية أي منهما مقياس واحد ألا وهو الإيمان والعمل الصالح والتقوى، وإمكانية
تحصيل ذلك لأي منهما متساوية. إن الآيات أعلاه قد بينت هذه الحقيقة بكل وضوح لتخرس
الأفواه المشككة في الطبيعة الإنسانية للمرأة في الماضي والحاضر، ولترد بقوة أولئك
الذين يعطون للمرأة مقاما أقل ورتبة أنزل من الناحية الإنسانية نسبة إلى الرجل، وقد
أعلنت الآيات المنطق الإسلامي في هذه المسألة الاجتماعية المهمة، فقالت: إن الإسلام
خلافا لقاصري الفكر ليس دين الرجال، فهو يخص المرأة بنفس القدر الذي يخص الرجل. فمن
عمل صالحا وهو مؤمن رجلا كان أو امرأة، فله الحياة الطيبة: وسينال ثواب الله تعالى
من غير تمايز في الجنس، ولا تفاضل بينهما إلا من خلال ما يتفوق أي منهما على الآخر
من حيث الإيمان والعمل الصالح.
جذور العمل الصالح ترتوي من الإيمان:
العمل الصالح: مصطلح له من سعة المفهوم ما يضم بين طياته جميع الأعمال
الإيجابية والمفيدة والبناءة على كافة أصعدة الحياة العلمية والثقافية والاقتصادية
والسياسية والعسكرية...الخ. ويشمل: الاختراع الذي يبذل فيه العالم جهده سنوات طويلة
من أجل خدمة الإنسانية.. جهاد الشهيد الذي حمل روحه على كفه وخاض ساحة الصراع بين
الحق والباطل فبذل دمه الشريف في سبيل الله.. الآلام التي تتحملها الأم المؤمنة عند
الولادة وما تواجه من صعاب في تربية أبنائها.. وتشمل ما يعانيه العلماء في تحرير
كتبهم الثمينة. وتشمل أيضا: أعظم الأعمال، كحمل رسالة النبوة.. وأقل وأصغر الأعمال،
كرفع حجر صغير من طريق المارة، نعم، فكل ما ذكره يدخل ضمن مفهوم العمل الصالح.
والحال هذه. . يواجهنا "السؤال" الآتي: لماذا قيد العمل الصالح بشرط الإيمان، في
حين يمكن أداؤه بدون هذا الشرط، والساحة البشرية فيها كثير من الشواهد التي تحكي
ذلك؟ و"الجواب" ينصب على تبيان مسألة واحدة، ألا وهي (الباعث الإيماني)، فإن لم
يحرز هذا الباعث فغالبا ما تكون الأعمال المنجزة ملوثة (وقد تشذ عن هذه القاعدة
العامة بعض المتفرقات هنا وهناك)، وأما إذا ارتوت جذور شجرة العمل الصالح من ماء
التوحيد والإيمان بالله، فنادرا ما يصيب هذا العمل آفات مثل: العجب، والرياء،
الغرور، التقلب، المنة. . . الخ، ولذلك نرى القرآن الكريم غالبا ما يربط بين هذين
الأمرين، لما لارتباطهما من واقعية. ونوضح المسألة في مثال: لو افترضنا أن شخصين
أرادا بناء مستشفى، أحدهما يدفعه الباعث الإلهي لخدمة خلق الله، والآخر هدفه
التظاهر بالعمل الصالح والحصول على السمعة والمكانة الاجتماعية المرموقة. وفي
النظرة الأولى وبتفكير سطحي يمكننا أن نقول - إن المستشفى ستقام، وسيستفيد الناس من
عملهما على السواء، وصحيح أن أحدهما سيحصل على الثواب، الإلهي والآخر لا يحصل عليه،
ولكن ظاهر عمليهما لا اختلاف فيه. وكما قلنا فإن هذا القول ناتج عن رؤية سطحية
للموضوع، أما لو أمعنا النظر لرأينا أنهما مختلفان من جهات متعددة، فعلى سبيل
المثال: إن الشخص الأول سينتخب مكانا لمستشفاه يكون قريبا من أكثر طبقات المنطقة
فقرا وحرمانا، ولربما تكون في محلة غير معروفة ومنزوية، أما الشخص الثاني فإنه
سيبحث عن منطقة أكثر شهرة حتى وإن كانت حاجتها للمستشفى قليلة جدا.
وسيسعى الشخص الأول في انتخاب مواد البناء وطريقته بما يلحظ فيه المستقبل البعيد،
ويحكم أساس البناء ليصمد البناء لسنين طويلة، أما الشخص الآخر فإنه سيحاول أن يسرع
في البناء وتعجيل افتتاح المستشفى ويكثر الضجيج والإعلام لينال مراده. وسيجد الأول
في إحكام باطن العمل في حين أن الثاني سيهتم بمظهره ورونقه. وعند انتخاب الأقسام
الطبية، الأطباء، الممرضين وسائر احتياجات المستشفى، فثمة اختلاف كبير بين الشخصين،
فاختلاف النية يترك أثره على جميع مراحل وشؤون العمل وبعبارة أخرى: إن العمل يصطبغ
بصبغة النية.
ما هي الحياة الطيبة؟:
لقد ذكر المفسرون في معنى الحياة الطيبة تفاسير عديدة: فبعض فسرها ب:
الرزق الحلال. وبعض ب: القناعة والرضا بالنصيب. وبعض ب:الرزق اليومي. وبعض ب:
العبادة مع الرزق الحلال. وبعض ب: التوفيق لطاعة أوامر الله... وما شابه ذلك.
ولعله لا حاجة بنا للتذكير بأن مفهوم الحياة الطيبة من السعة بحيث يشمل كل ما ذكروه
وغيره، فالحياة الطيبة بجميع جهاتها، وخالية من التلوثات والظلم والخيانة والعداوة
والذل وكل ألوان الآلام والهموم، وفيها ما يجعل حياة الإنسان صافية كماء زلال.
وبملاحظة تعبير الآية عن الجزاء الإلهي وفق أحسن الأعمال، ليفهم من ذلك أن الحياة
الطيبة ترتبط بعالم الدنيا بينما يرتبط الجزاء بالأحسن بعالم الآخرة. وعندما سئل
أمير المؤمنين (عليه السلام) عن قوله تعالى: فلنحيينه حياة طيبة، قال: "هي
القناعة"[5]. ولا شك أن هذا التفسير لا يعني حصر معنى الحياة الطيبة بالقناعة، بل
هو بيان لأحد مصاديقها الواضحة جدا، حيث أن الإنسان لو أعطيت له الدنيا بكاملها
وسلبت منه روح القناعة فإنه - والحال هذه - سيعيش دائما في عذاب وألم وحسرة، وبعكس
ذلك، فإذا امتلك الإنسان القناعة وترك الحرص والطمع، فإنه سيعيش مطمئنا راضيا على
الدوام. وقد ورد في روايات أخرى تفسير الحياة الطيبة بمعنى الرضا بقسم الله، وهذا
المعنى قريب الأفق مع القناعة. وينبغي أن لا نعطي لهذه المفاهيم صفة تخديرية أبدا،
وإنما الهدف الواقعي من بيان الرضا والقناعة هو القضاء على الحرص والطمع واتباع
الهوى في نفس الإنسان، التي تعتبر من العوامل المؤثرة في إيجاد الاعتداءات
والاستغلال والحروب وإراقة الدماء، والمسببة للذل والأسر.
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
[1] سورة النحل
[2] نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 82.
[3] إرشاد الديلمي.
[4] نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 121.
[5] نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 229.