يقول تعالى في كتابه الكريم: (وإذا أذقنا الناس رحمة من
بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون
(21) هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة
وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله
مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين (22) فلما أنجهم إذا هم
يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا
ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون (23)[1]
يدور الكلام في هذه الآيات - أيضا - حول عقائد وأعمال المشركين، ثم دعوتهم إلى
التوحيد ونفي كل أنواع الشرك. فالآية الأولى تشير إلى بعض سلوكيات المشركين
الحمقاء، وتقول: أننا عندما نبتلي الناس بالمشاكل والنكبات من أجل إيقاظهم
وتنبيههم، ثم نرفع هذا البلاء عنهم ونذيقهم طعم الراحة والهدوء بعد تلك الضراء،
فإنهم بدلا من أن ينتبهوا لهذه الآيات ويرجعوا إلى الصواب، يسخرون بها، أو يفسرونها
بتفسيرات غير صحيحة، فمثلا يفسرون الابتلاءات والمشاكل بأنها نتيجة غضب الأصنام،
والنعم والطمأنينة بأنها دليل على شفقتها، أو أنهم يعدون كل هذه الأمور صدفة محضة:
وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا. إن كلمة "مكر" في
الآية أعلاه، والتي تعني بشكل عام إعمال الفكر، تشير إلى التوجيهات الخاطئة وطرق
التهرب التي يفكر بها المشركون عند مواجهة الآيات الإلهية، وظهور أنواع البلايا
والنعم. إلا أن الله سبحانه حذر هؤلاء بواسطة نبيه، وأمره أن قل الله أسرع مكرا.
وكما أشرنا مرارا، إلى أن المكر في الأصل هو كل نوع من التخطيط المقترن بالعمل
المخفي، لا المعنى الذي يفهم من هذه الكلمة اليوم، وهو الاقتران بنوع من الشيطنة،
وعلى هذا فإنه يصدق على الله سبحانه كما يصدق على العباد[2].
لكن ما هو مصداق المكر الإلهي في هذه الآية؟ الظاهر أنها إشارة إلى نفس تلك
العقوبات الإلهية التي يحل بعضها في نهاية الخفاء وبدون أية مقدمة وبأسرع ما يكون،
بل إنه يعاقب ويعذب بعض المجرمين بأيديهم أحيانا. ومن البديهي أن من هو أقدر من
الكل وأقوى من الجميع على دفع الموانع وتهيئة الأسباب، ستكون خططه - أيضا - هي
الأسرع. وبتعبير آخر فإن الله سبحانه في أي وقت يريد أنزال العقاب بأحد العباد أو
تنبيهه، فإن هذا العقاب سيتحقق مباشرة، في حين أن الآخرين ليسوا كذلك. ثم يهدد
هؤلاء بأن لا تظنوا أن هذه المؤامرات والخطط ستنسى، بل إن رسلنا - أي الملائكة -
يكتبون كل هذه المخططات التي تهدف إلى إطفاء نور الحق: إن رسلنا يكتبون ما تمكرون
ولذلك يجب أن تهيئوا أنفسكم للجواب والعقاب في الحياة الأخرى. وسنبحث كتابة الأعمال
والملائكة المأمورين بها في الآيات المناسبة. وتغوص الآية التالية في أعماق فطرة
البشر، وتوضح لهؤلاء حقيقة التوحيد الفطري، وكيف أن الإنسان عندما تلم به المشاكل
الكبيرة وفي أوقات الخطر، ينسى كل شئ إلا الله تبارك وتعالى ويتعلق به، لكنه بمجرد
أن يرتفع البلاء وتزول الشدة وتحل المشكلة، فإنه سيسلك طريق الظلم ويبتعد عن الله
سبحانه. تقول الآية: هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين
بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط
بهم في هذا الحال بالضبط تذكروا الله ودعوه بكل إخلاص وبدون أية شائبة من الشرك، و
دعوا الله مخلصين له الدين فيرفعون أيديهم في هذا الوقت للدعاء: لئن أنجيتنا من هذه
لنكونن من الشاكرين. فلا نظلم أحدا ولا نشرك بعبادتك غيرك. ولكن ما أن أنجاهم الله
وأوصلهم إلى شاطئ النجاة بدؤوا بالظلم والجور: فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض
بغير الحق لكن يجب أن تعلموا - أيها الناس - إن نتيجة ظلمكم ستصيبكم أنتم يا أيها
الناس إنما بغيكم على أنفسكم وآخر عمل تستطيعون عمله هو أن تتمتعوا قليلا في هذه
الدنيا: متاع الحياة الدنيا[3] ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون.
وهنا يجب الالتفات إلى عدة ملاحظات:
1 - إن ما قرأناه في الآيات أعلاه غير مختص بعبدة الأوثان، بل هو قانون كلي ينطبق
على كل الأفراد الملوثين من عبيد الدنيا المشغوفين بها فعندما تحيط بهم أمواج
البلايا والمحن وتقصر أياديهم عن كل شئ، ولا يرون لهم ناصرا ولا معينا، فإنهم
سيمدون أيديهم بالدعاء بين يدي الله سبحانه ويعاهدونه بألف عهد وميثاق، وينذرون
ويقطعون العهود بأنهم إن تخلصوا من هذه البلايا والأخطار سيفعلون كذا وكذا. إلا أن
هذه اليقظة والوعي التي هي انعكاس لروح التوحيد الفطري، لا تستمر طويلا عند أمثال
هؤلاء، فبمجرد أن يهدأ الطوفان وتنقشع سحب البلاء، فإن حجب الغفلة ستغشي قلوبهم،
تلك الحجب الكثيفة التي لا تنقشع عن تلك القلوب إلا بالطوفان. ورغم أن هذه اليقظة
مؤقتة، وليس لها أثر تربوي في الأفراد الملوثين جدا، أنها تقيم الحجة عليهم، وستكون
دليلا على محكوميتهم. أما الذين تلوثوا بالمعاصي قليلا، فإنهم سيتنبهون في هذه
الحوادث ويصلحون مسارهم. وأما عباد الله الصالحون فأمرهم واضح، فإن توجههم إلى الله
سبحانه في السراء بنفس قدر توجههم إليه في الضراء، لأنهم يعلمون أن كل خير وبركة
تصل إليهم، وتبدو ظاهرا أنها نتيجة للعوامل الطبيعية، فإنها في الواقع من الله
تعالى. وعلى كل حال، فإن هذا التذكير والتذكر قد جاء كثيرا في آيات القرآن المجيد.
2 - لقد ذكرت "الرحمة" في الآيات أعلاه مقابل "الضراء"، ولم تذكر السراء، وهي إشارة
إلى أن أي حسن ونعمة تصل إلى الإنسان فهي من الله سبحانه ورحمته اللامتناهية. في
حين أن السوء والنقمات إذا لم تكن للعبرة، فإنها من آثار أعمال الإنسان نفسه.
3 - إن الضمائر في بداية الآية الثانية من الآيات التي نبحثها وردت بصيغة المخاطب،
إلا أنها في الأثناء بصيغة الغائب، ومن المسلم أن لذلك نكتة ما: قال بعض المفسرين:
إن تغيير أسلوب الآية من أجل أنها تبين حال المشركين وتعرضهم في الحال ابتلائهم
بالطوفان والبلاء درسا وعبرة للآخرين، ولهذا فإنها فرضتهم غائبين وفرضت الباقين
حضورا. وقال البعض الآخر: إن النكتة هي عدم الاعتناء بهؤلاء وتحقيرهم، حيث أن الله
سبحانه قد قبل حضور هؤلاء وخاطبهم. ثم أبعدهم عنه وتركهم. ويحتمل أيضا أن تكون
الآية بمثابة تجسيم طبيعي عن وضع الناس، فما داموا جالسين في السفينة ولم يبتعدوا
عن الساحل فإنهم في إطار المجتمع، وعلى هذا يمكن أن يكونوا مخاطبين، أما عندما
تبعدهم السفينة عن الساحل، ويختفون عن الأنظار تدريجيا، فإنهم يعتبرون كالغائبين،
وهذا في الواقع تجسيم حي لحالتين مختلفتين عند هؤلاء.
4 - إن جملة أحيط بهم تعني أن هؤلاء قد أحاطت بهم الأمواج المتلاطمة من كل جانب،
إلا أنها هنا كناية عن الهلاك والفناء الحتمي لهؤلاء.
آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - بتصرف
[1] سورة يونس
[2] لمزيد التوضيح راجع المجلد الثاني من تفسيرنا هذا، ذيل الآية (54) من سورة آل
عمران.
[3] إن كلمة (متاع) منصوبة بفعل مقدر، وفي الأصل كانت: تتمتعون متاع الحياة الدنيا.