مر عهد الصبا ورحلت أيامه المفعمة طهراً وصفاءً، وانتهى عهد الدلال ورعاية الوالدين
وتضحياتهما.. مر كل هذا دون عودة كحلم ورديّ، وها نحن نعيش مرحلة أخرى وعهداً
زاخراً بالمسؤوليات الجسام.. إنها مرحلة التأمل والتدبر والتكامل. . مرحلة تتطلب
منا أن نقف على أقدامنا ونفكر في المستقبل. . ومن المؤكد جداً أننا إذا لم نفكر
بأنفسنا ومن أجل أنفسنا فإنه لا يوجد من يفكر نيابة عنا ويتحمل مسؤولياتنا.
إن أعباء الحياة الجسام وطول الطريق يدفعنا إلى التفكير والبحث عن شريك يخفف عنا
قدراً من تلك الأعباء، شريك يتحمل معنا مصاعب الطريق ومتاعب الحياة، إنسان يشاركنا
حلاوة الحياة ومرارتها، إنسانٍ يدركنا ويتفهمنا، يفرح لفرحنا ويحزن لحزننا، إنسانٍ
يقوم بدور المنقذ إذا ما هاجمتنا أمواج الحياة، وأخيراً: شريكٍ في كل شيء، ومن أجل
كل شيء، شريك ورفيق درب يبدد بأنسه وحشة الطريق.
انطلاقاً من كل ما ذكرنا، نسعى إلى تشكيل الأسرة، وعلى ضوء ذلك نحاول أن نصلح أو
نعالج أو نرمم البناء الأسري. ومن خلال ذلك نحاول أن نتعرف أهداف الزواج لكي تتضح
لنا الحقيقة بين ما هو كائن وبين ما ينبغي أن يكون.
وإذا كان واقع أسرنا كما ينبغي فلنسعَ إلى التكامل أكثر فأكثر والمضي قدماً نحو
الهدف المنشود. وإذا كان الواقع عكس ذلك أو صورة مشوّهة عنه فلنبادر إلى مراجعة
أنفسنا وإنقاذ البقية الباقية من عمرنا قبل فوات الأوان.
أهداف الزواج:
السؤال هنا: لماذا تزوجنا؟ هل تظن الفتاة أن زواجها جاء إثر مؤامرة دبّرها
الوالدان للتخلص من شرّها؟ ! أو أنهما شعرا بالملل منها؟ وهل يعتقد الفتى أنه تزوج
لكي يبحث عن المتاعب أو أنه يتمتع بثروة هائلة تدفعه للبحث عن شخص أو مجموعة أشخاص
لكي ينفق عليهم؟ هل إن هدف الزواج هو إضافة هم إلى الهموم أو محاولة للتخفيف من
هموم الحياة؟.
هل إن الهدف من ذلك هو رغبتهم في المعاناة والألم أو الركون إلى راحة وارفة الظلال
تهبهم الشعور بالطمأنينة والسلام؟.
إن الكثير منّا قد أخطأ الطريق اللاحب وضاع في متاهات دروب مظلمة. إن الزواج وتشكيل
الأسرة له أهداف وأغراض، وإن أخذها بنظر الاعتبار سيحلّ الكثير من المشكلات ويخفف
من حدة النزاعات، ويضع الزوجين في الطريق الصائب الذي يقودهم إلى حياة زاخرة بالحب
مفعمة بالمودة والصفاء.
إن أهم أهداف الزواج هي كما يلي:
أولاً ـ الحصول على الاستقرار:
إن نمو الإنسان ووصوله إلى مرحلة البلوغ يتسبب في ظهور تغيرات متعددة تطال
الإنسان جسماً وروحاً وفكراً، تشكّل بمجموعها نداء الزواج. وفي هذه المرحلة ينبغي
على الإنسان أن يستجيب إلى هذا النداء الطبيعي فإن التغافل عن ذلك أو إهماله سيؤدي
إلى بروز الاضطرابات النفسية العنيفة التي لا يمكن أن تهدأ إلا بعد العثور على
إنسان يشاركه حياته، وعندها سيشعر بالهدوء والسلام.
وإذن فإن أحد أهداف الزواج هو تحقيق حالة من الاستقرار النفسي والبدني والفكري
والأخلاقي، وفي ظلال هذه الحياة المشتركة ينبغي على الزوجين العمل على تثبيت هذه
الحالة التي تمكنهم من النمو الشامل.
ولقد أثبتت التجارب أنه عندما تزداد أمواج الحياة عنفاً، وحين يهدّد خطر ما أحد
الزوجين فإنهما يلجآن إلى بعضهما لتوفير حالة من الأمن يمكنهما من مواجهة الحياة
والمضي قدماً. وعليه فإن الزواج ينبغي أن يحقّق حالة الاستقرار وإلا فإن الحياة سوف
تكون جحيماً لا يطاق.
ثانياً ـ التكامل:
ينتاب الفتى والفتاة لدى وصولهما سن البلوغ إحساس بالنقص، ويتلاشى هذا الإحساس
في ظل الزواج وتشكيل الأسرة حيث يشعر الطرفان بالتكامل الذي يبلغ ذروته بعد ولادة
الطفل الأول.
ويؤثر الزواج تأثيراً بالغ الأهمية في السلوك وتبدأ مرحلة من النضج والاتجاه نحو
الكمال حيث تختفي الفوضى في العمل والتعامل بعد أن يسعى كل طرف بإخلاص وصميمية
تسديد الطرف الآخر وإسداء النصح إليه، وخلال ذلك تولد علاقة إنسانية تعزز من روابط
الطرفين وتساعدهما في المضي قدماً نحو الكمال المنشود.
ثالثاً ـ الحفاظ على الدين:
ما أكثر أولئك الذين دفعت بهم غرائزهم فسقطوا في الهاوية وتلوثت نفوسهم وفقدوا
عقيدتهم. ولذا فإن الزواج يجنّب الإنسان السقوط في تلك المنزلقات الخطرة ؛ وقد ورد
في الحديث الشريف: « من تزوج فقد أحرز نصف دينه. . » والزواج لا يكفل للمرء عدم
السقوط فحسب بل يوفّر له جواً من الطمأنينة يمكّنه من عبادة الله سبحانه والتوجه
إليه، ذلك إن إشباع الغرائز بالشكل المعقول يخلّف حالة من الاستقرار النفسي الذي
يعتبر ضرورة من ضرورات الحياة الدينية.
وعلى هذا فإن الزواج الذي يعرّض دين الإنسان إلى الخطر، الزواج الذي يخلّصه من
الوقوع في حبائل الغريزة الجنسية ليقع في حبائل أخرى مثل الكذب والخيانة والممارسات
المحرّمة لا يمكن أن يعتبر زواجاً بل فخاً جديداً للشقاء ؛ والزواج الذي تنجم عنه
المشاكل والنزاعات وإيذاء الجيران بالصراخ. . الزواج الذي يكدر صفو الأقرباء
والأصدقاء ليس زواجاً بل عقاباً.
رابعاً ـ بقاء النسل:
لقد أودع الله الرغبة لدى الإنسان لاستمرار النوع. ولا شك أن مجيء الأطفال
كثمرة للزواج يعتبر، لدى أولئك الذين يبحثون عن اللذائذ والمتع فقط، أشخاصاً
مزاحمين وغير مرغوب فيهم، ولذا فإن للزواج بعداً معنوياً ينبغي أن يؤخذ بنظر
الاعتبار لكي يكون مدعاة للتكامل والسير في طريق الكمال.
وما أكثر الزيجات التي آلت إلى الفشل بسبب غياب البعد الإلهي فيها، وما أكثر
الفتيات والشبان الذين تزوجوا من أجل الثراء أو الجمال أو الشهرة، ولكن ـ وبعد مرور
وقت قصير ـ شعروا بالمرارة وغرقوا في بحرٍ من المشكلات.
أساس الحياة الزوجية:
إن عدم تفهم مسألة الزواج والتغافل عن الحقوق الزوجية وإهمال الممارسات كان
ينبغي العمل بها تؤدي إلى زيجات فاشلة. وانطلاقاً مما ورد في القرآن الكريم من
إشارات وما ورد في الأحاديث والروايات، فإن مقومات الحياة الزوجية هي كما يلي:
1 ـ المودّة والصفاء:
ينبغي أن تسود الحياة الزوجية علاقات المودّة والمحبة والصفاء، فإن الحياة
الخالية من الحب لا معنى لها، كما أن ارتباط الزوجين الذي يؤدي إلى ظهور جيل جديد
يجعلهما في موضع المسؤولية المشتركة.
والمودة من وجهة قرآنية هي الحب الخالص لا ذلك الحب الذي يطفو على السطح كالزبد.
الحب المنشود هو الحب الذي يضرب بجذوره في الأعماق. وعلى هذا فإن الأسرة التي تتوفر
فيها هكذا مواصفات سوف يشملها الله بعطفه ورضوانه.
ينبغي أن يكون الزوجان صديقين حميمين يتقاسمان حلاوة الحياة ومرارتها وأن يحلاّ
مشكلاتها في جو هادىء، يبث أحدهما همه للآخر ويودعه
أسراره. وإن الحياة الزوجية التي تفتقد هذا المستوى من الثقة المتبادلة هي في
الواقع محرومة من رحمة الله.
2 ـ التعاون:
إن أساس الحياة الزوجية يقوم على التعاون ومساعدة كل من الزوجين للآخر في جوٍّ
من الدعم المتبادل وبذل أقصى الجهود في حل المشاكل وتقديم الخدمات المطلوبة. صحيح
أن للزوج وظيفته المحددة، وللزوجة هي الأخرى وظيفتها المحددة، ولكن الصداقة والمحبة
يلغي هذا التقسيم ويجعل كلاً منهما نصيراً للآخر وعوناً، وهذا ما يضفي على الحياة
جمالاً وحلاوة، إذ ليس من الإنسانية أبداً أن تجلس المرأة قرب الموقد وتنعم بالدفء
في حين يكافح زوجها وسط الثلوج أو بالعكس، بذريعة أن لكل منهما وظيفته !.
3 ـ التفاهم:
تحتاج الحياة المشتركة إلى التفاهم والتوافق، فبالرغم من رغبة أحد الطرفين في
الآخر، إلا إن ذلك لا يلغي وجود أذواق مختلفة وسلوك متباين، وليس من المنطق أبداً
أن يحاول أحدهما إلغاء الآخر في هذا المضمار، بل إن الطبيعي إرساء نوع من التوافق
والتفاهم حيث تقتضي الضرورة أن يتنازل كل طرف عن بعض آرائه ونظرياته لصالح الطرف
الآخر في محاولة لردم الهوّة التي تفصل بينهما ومدّ الجسور المشتركة على أساس من
الحب الذي يقضي بإجراء كهذا، وأن لا يبدي أي طرف تعصباً في ذلك ما دام الأمر في
دائرة الشرعية التي يحددها الدين.
4 ـ السعي نحو الاتحاد:
الحياة تشبه إلى حد بعيد مرآة صافية، فوجود أقل غبار يشوّه الرؤية فيها، ولذا
ينبغي السعي دائماً لحفظها جلية صافية.
إن الحياة المشتركة تحتاج إلى التآلف والاتحاد، ولذا فإن على الزوجين أن يتحدّا
فكرياً وأن ينعدم ضمير الأنا تماماً في الجو الأسري.
يجب أن يكون القرار مشتركاً وأن يدعم كل منهما رأي الآخر. أما المسائل التي تبرز
فيها وجهات النظر المختلفة فإن أفضل حل لها هو السكوت والمداراة إلى أن يتوصل
الطرفان إلى حل مشترك آخذين بنظر الاعتبار أن النزاع سيوجه ضربة عنيفة لهما
ولأطفالهما.
5 ـ رعاية الحقوق:
وأخيراً، فإن الحد الأدنى في الحياة الزوجية هو رعاية كل طرف لحقوق الطرف الآخر
واحترامها. ومن المؤكد أن أقصى ما وصلت إليه مختلف المذاهب والعقائد في حقوق
الزوجية موجود في النظام الإسلامي ( سنبحث ذلك فيما بعد ).
الاستعداد للحياة:
الإدعاء بأن الحياة الزوجية خالية من النزاع يفتقد إلى أساس، إلا أن أكثر
المنازعات إنما تنجم عن نفاذ الصبر وعدم القدرة على التحمل. إن الحياة بشكل عام
تحتاج إلى الإيمان والصبر والتحمل، وهذه المسألة تنعكس بوضوح في الحياة المشتركة
التي تستوجب توفر هذه الخصال.
إن الحياة بحر متلاطم الأمواج يحتاج المرء فيه إلى الإيمان والصبر لكي يمكنه من
تسيير قاربه نحو شاطىء السلام.
* الدكتور علي القائمي